}

إنها ليست بيروت كما يجب

بوعلام رمضاني 12 أغسطس 2019
فوتوغراف إنها ليست بيروت كما يجب
صورة لـ فيانيه لوكاير من معرض باريس(راديو مونت كارلو)
مهم جدا أن يحتضن "معهد ثقافات الإسلام" بباريس معرضا فنيا عن بيروت لأنه يعبر عن رمزية مبدئية لا جدال فيها، كما يعرف كل من يدرك وقع العاصمة اللبنانية التاريخية في المخيال العربي والعالمي، لكن الأمر يصبح أهم لو توفرت شروط تأثيره إعلاميا وفنيا حتى يصل صداه إلى أكبر وأوسع الشرائح الاجتماعية الفرنسية والعربية وغير العربية المقيمة في العاصمة الفرنسية الشهيرة ثقافيا. وللأسف لم يتحقق الهدف من تنظيم معرض "إنها بيروت" الذي أسدل ستاره يوم الثامن والعشرين من تموز/ يوليو الماضي بشكل يحقق الوقع الاجتماعي العام، ولم تكتمل فصول حلقات الأهمية القصوى التي كنا نتصورها، لأسباب تتحملها جزئيا السلطة العليا التي تقف وراء تسيير "معهد ثقافات الإسلام" الذي يرعب وينفر في زمن مثقفي الترهيب الفكري باسم محاربة التطرف الإسلامي من أمثال أريك زمور وألان فينكلكروت وإيفان ريوفول. بيد أن مسؤولية المثقفين الفرنسيين الذين يعلنون حالة الطوارئ كلما سمعوا كلمة إسلام، لم تحدّ من عزم السيدة بريزة خياري، الجزائرية الأصل والعضو السابق في مجلس الشيوخ عن كتلة الاشتراكيين ورئيسة "معهد ثقافات الإسلام"، التي ما زالت تكافح لمواجهة ممثلي المد العنصري الذي يتزايد من يوم لآخر حيال كل ما يمت بصلة للهجرة بوجه عام وللإسلام بوجه خاص.

تتويج سياسي
مبدئيا ارتباط اسم السيدة خياري الفرنكو جزائرية المسلمة العلمانية بـ"معهد ثقافات الإسلام" يعد صفعة أولى في وجه مثقفي وسياسيي المتاجرين بالإرهاب المحسوب على الإسلام وحده دون الأديان والأيديولوجيات الأخرى، وتتويجها تجربتها السياسية كرئيسة فوج الصداقة

الفرنسية- اللبنانية في مجلس الشيوخ بتنظيم معرض فني عن بيروت يعد صفعة ثانية في وجوه المشككين في التعايش العرقي والحضاري الذي يرفضه دعاة الصفاء والتصفية، وكان بإمكانها أن تصفعهم للمرة الثالثة لو استطاعت أن تظفر بمقر أكبر وأكثر وظيفية لتنظيم معارض في ظروف أحسن، وأن تتدخل رغم دورها الإداري في ضبط مقاربة المعرض حتى لا تبدو مرادفة لذاتية فنية وفكرية تسببت في عدم تمثيل بيروت بشكل متوازن ونوعي يعكس فعلا وجهها المتعدد والغني والعميق على كافة الأصعدة.
عدم توازن معرض "إنها بيروت" تجلى في مقدمة الكتاب النوعي والعالي الجودة الذي بيع بثمن غال نسبياً، وفي المقدمة التي أشادت فيها السيدة خياري ببيروت العنقاء التي ترفض الموت وتخرج في كل مرة حية من الرماد رغم أنف الأخوة الأعداء والأعداء غير الاخوة. ولا بد من أن نقف عند الشرخ الذي فصل بين محتوى المعرض وبين خطاب التكريم النظري، الأمر الذي خيب آمال الكثير من الزوار الذين تساءلوا وهم يدخلون "معهد ثقافات الإسلام" عن سر تخصيص مساحة معتبرة للرجال مفتولي العضلات باسم تجسيد تعددية ثقافية بمعناها الواسع بعيدا عن الهدف الضيق والعابر الذي يمثله استحمام رجال على كورنيش بيروت البديع. وكما كان متوقعا، وقفت السيدة خياري في مقدمتها عند التعددية الدينية والعقائدية والحضارية والتاريخية والثقافية  التي تميز بيروت عن غيرها من الدول العربية والتي تشكل مصدر إلهام خرافي لا ينضب، إلا أن هذه التعددية راحت ضحية "تقدمية وتنوير وجرأة" الروائي  الموهوب الصاعد سبيل غصوب الذي قارب التعددية المذهبية بمنظور غير متوازن مكنه من التوفيق في إبراز بيروت التهميش واللاتسامح والحرية الجنسية المكبوتة والمحرمة سواء تعلق الأمر بالمرأة أو الرجل على حساب بيروت اجتماعية ودينية مختلة وغير متوازنة إلى الحد الذي يكشف عن ذاتية أيديولوجية تعكس تصورا أوروبيا تدعمه الآلة الإعلامية الغربية التي تنظر لبيروت تحت وطأة الثقافة المشتركة بين باريس وبيروت الغربية أولا وأخيراً!

سبيل غصوب وفخ اللاشعور!
اذا كان ليس من السهل الإحاطة ببيروت في معرض فني بموضوعية وشمولية إن صح التعبير، في ظل ماضيها وحاضرها غير العاديين، فإن الذاتية لا يجب أن تنتصر "للاشعور" بشكل كامل وتوقع صاحبها في مطب تأثير المكان الباريسي بما يحمله من منظور جاهز يفرضه السياق الثقافي والأيديولوجي المهيمن، وتقديم بيروت بتعددية مذهبية غير متوازنة وإسلام اجتماعي وديني محدد وضيق دون غيره من التعابير الدينية الأخرى حقيقة أحدث خللا في البانوراما البيروتية التي كنا نتوقع أن تكون شاملة للرمزية الأدبية والفكرية والاجتماعية

والسياسية البيروتية  بشكل يضمن توازنا نسبيا يجد فيه كل اللبنانيين أنفسهم.
سبيل غصوب الأديب المثقف الذي صنع الحدث بروايته "أنف اليهودي" ومحافظ معرض "إنها بيروت" لم يسيطر في تقديرنا على ذاتيته الطبيعية التي تفسر ثقافيا استنادا لهويته الفرنكو لبنانية، وشخصيا أعتقد أنه بقدر ما كان محقا في الكشف عن المستور غير المباح والمسكوت عليه أخلاقيا ودينيا بتصوير المثلية الجنسية والتهميش والاستغلال الاجتماعيين اللذين يحيلان الزوار على ماضي العائلات السياسية القاتل وغير المشرف بقدر ما كان مجحفا في التعبير عن بيروت اجتماعية ودينية أكثر واقعية وشمولية. سبيل الذي ولد في باريس وعاش في بيروت حتى سن التاسعة عشرة، لم يكن في تقديرنا المتواضع لبنانيا متوازنا وحذرا بالقدر الكافي، وكثيرة هي الأمثلة التي تعكس انتقائية فرضتها ثقافته الأيديولوجية التي مكنته مبدئيا من اختراق المسكوت عليه وتقديمه بشكل فني أقوى تعبيريا ورمزيا وبشكل مباشر وصادم عمدا، واختيار خادمة سيرلانكية سوداء البشرة كصورة موحية لغلاف كتاب المعرض لم يكن إلا عنوان الصدمة التي خطط لها بخلفية شفافة وناطقة برسالة تلفت انتباه الزوار العاديين وغير العاديين. والشيء نفسه ينسحب على صور اللبنانيين الذين يصلون ويتضرعون لله على كورنيش بيروت جنبا إلى جنب مع آخرين كان همهم الأول والأخير التمتع بحمام شمس طلبا وتحديدا لمتعة دنيوية نادرة، ولم يكن محافظ المعرض ذاتيا بالمرة حينما اختار للبطاقة الإشهارية صورة لبناني يصلي على كورنيش بيروت عاري الصدر فقط وآخر يدهن جسده المفتول  الجميل والمستور في الوسط فقط تحت سماء شاهدة على تدين أو معتقد آخر أو على أيديولوجية دنيوية خالصة، وهو الأمر الذي يعكس إحدى صور الحالات النفسية التي طبعت حياة اللبنانيين الذين ذاقوا السعادة والسلم والشقاء والحرب بشكل لم يحدث إلا في بيروت الساحرة والقبيحة والجذابة والمنفرة في الوقت نفسه والساكنة في القلب وفي العقل بكل تناقضاتها الولادة للمعنى الممكن والمستحيل.

مصورون كبار ونوعية
محمد عبدوني، حسان عمار، زياد عنتر، باتريك باز، مريم بولس، روا ديب، كريستوف دونر، فؤاد الخوري، سيرين فتوح، جوانا حاجي توما، خليل جوريج، دليلة خميسي، فيانيه لوكاير، رندا ميرزا، ونتالي نقاش- هي قائمة أسماء فنية كبيرة ولا تمثل مهارات فردية في مجال التصوير فحسب، وإذا كانت غير مسؤولة لا من قريب ولا من بعيد عن الخلل في تمثيل بيروت كما أشرنا، فإن الصور والفيديوهات التي جسدتها عكست حساسيات ومواهب فنية واحترافية نوعية وثقيلة المعيار بغض النظر عن تفاوت تجربة هذا المصور أو ذاك. ولعل جمال العضلات المفتولة للمستحمين بشمس كورنيش بيروت كان مبررا فنيا قويا في تصور سبيل غصوب محافظ المعرض للمبالغة في عرض صور قوية التعبير في علاقتها بمصلين قليلين يجاورون آخرين يصلون للحياة وللذة الأبيقورية وللانتشاء بدنيا ونفسيا في بيروت الحية دوما وأبداً والسعيدة والمكابرة والصامدة والواقفة رغم كل ما حل بها من خراب خرافي.
ولأننا نعتقد أن تمثيل تنوع بيروت على كافة الأصعدة في معرض نظم في فضاء غير عملي

وغير وظيفي فنيا واجتماعيا ليس بالأمر السهل والهين، يمكننا تفهم الصعوبة المبدئية التي تحول دون التوفيق في المهمة رغم أن الخلفية الفكرية أثبتت أن صاحب المقاربة لم يتردد في إشهار تقدمية سياسية أظهرت مسلمي بيروت بشكل صادم لمسلمين آخرين ومثليين جنسيين في عاصمة الوطأة الدينية والعقائدية غير العادية والكاسحة اجتماعيا. وإذا كان التمثيل الديني والاجتماعي قد عرف تفاوتا ملحوظا كميا ونوعيا في عاصمة التنوع في الديانة الواحدة (الوشم عند الشيعة وتقديس نصر الله والتركيز على المسيحية وعرض صورها بشكل لافت سنيوغرافيا)، فإن الانسجام كان شبه كامل بين صور وفيديوهات تمثيل التهميش الاجتماعي لمواطنين منبوذين ومرفوضين دينيا وأخلاقيا وسياسيا، وتعدى هذا الانسجام المثليين الجنسيين وشمل العاملات الآسيويات المستغلات في بيوت كبار القوم من كل الملل السياسية، والمهاجرين غير الشرعيين، واللاجئين الفلسطينيين.
وبرغم الأهمية المبدئية القصوى للمعرض والقوة الفنية التي ميزت معظم الصور والفيديوهات، كان بإمكان سبيل غصوب وأعضاء اللجنة العلمية ديمتري بيك ومارين بوغارون وزياد ماجد وطارق نحاس ورشا صالح الاجتهاد أكثر لضمان توازن أكبر، سواء تعلق الأمر بمضامين كان يجب أن تمتد إلى بيروت السياسة في زمن الحرب والسلم والفكر والإبداع والمجتمع والصراعات السياسية التي أدت إلى خلافات قاتلة بسبب كيفية التعامل مع اللاجئين السوريين، أو بأشكال وطرق عرض تركت بعض الصور تظهر قريبة للجمهور مقارنة بأخرى. ولكن المهمة لم تكن سهلة، وبيروت لا تختزل في معرض يحتضنه "معهد ثقافات الإسلام" غير الصالح لهكذا حدث هام لأكثر من سبب، وعليه ربما يجب أن ينقل إلى "معهد العالم العربي". كما أن توزع معرض بيروت عبر جهتي بناية غير عملية بالمرة كان من الأسباب التي حالت دون تحقيق الأثر المرجو من معرض نوعي يستحق إقبالاً جماهيرياً حقيقياً.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.