}

مسرحية "تصحيح ألوان": كيف يُقاتل الإنسان المتفوِّق

أنور محمد 8 يوليه 2019
مسرح مسرحية "تصحيح ألوان": كيف يُقاتل الإنسان المتفوِّق
مشهد من "تصحيح ألوان"
معركة بحرية لا نهرية أرادها الكاتب والمخرج سامر محمد إسماعيل في مسرحية "تصحيح ألوان" من تأليفه والتي حازت على جائزة أحسن تأليف وأحسن ممثل في دورة مهرجان قرطاج المسرحي الأخيرة، وعُرضت على خشبة المسرح القومي في اللاذقية. إنها معركةٌ بين بطل، الممثِّلة ميرنا معلولي بدورين: الصحافية رشا، ومايا ابنة الضحيتين سُليمى وإسكندر؛ وخائن، الممثِّل يوسف المقبل وهو يلبسُ ثوب الأبطال. وهذا ما دفع المُخرج سامر إسماعيل ليُدخلنا في زمن كرونولوجي في المستوى الأوَّل التمهيدي من الفعل التراجيدي، فنرى وهو يكشف كيف كان يؤسِّس لجريمته، ومن ثمَّ يُدافع عنها، وإذا به في المستوى الثاني التصعيدي يضعنا في زمن لا كرونولوجي وقد صار يتكشَّف كذبه وانحطاطه. فالكذب الذي هو خيانة هو جوهر الفعل المأساوي؛ اختلاط الذكريات مع الأحلام، ومن ثمَّ نراها (فعلاً) داخل مَشاهد متعاقبة من حوارٍ ساخن يكاد يكون دامياً بين جابر ومايا، في نقلات حسيَّة محرِّكة/ متحرِّكة، سرعان ما تتحوَّل إلى الفعل في مواقف بصرية يمكن أن يُسفحَ الدمُ فيها ولا يُسفح.

اندفاعات ومتناقضات
الممثِّل يوسف المقبل الذي أدَّى دور الروائي جابر إبراهيم الذي عفَّش رواية صديقه ورفيقه في الحزب اليساري السرِّي إسكندر ياسين، كان قد عفَّشَ له زوجته الممثلة المسرحية سُليمى، بعد

أن رماه في المُعتقل عشرين سنة بوشاية احتيازه أعداداً من جريدة الحزب كوثيقة دامغة للسلطة الأمنية على أنَّه مجرم سياسي. يوسف كان يفرجينا كيف كان يدغم اندفاعاته الطبيعية كممثِّل مع المتناقضات الجدلية الكفاحية لهذه الشخصية المركَّبة من مزيج من البطولة والخيانة التي كان فيها بطلاً لا خائناً، وهو يصبرُ مُجاملاً على ممارسات/ سلوكيات رفيقه المناضل والروائي المثقَّف إسكندر ياسين الذي كان يتظاهر بالحب والشجاعة والشرف الحزبي والوطني، فيما كان في الواقع - حسب ما يروي جابر إبراهيم للصحافية رشا- يبتلعُ الحزب، يبتلعُ بشبقه الجنسي والسياسي النساء والمال والسلطة، والذي يمثِّل قاعدةً وليس استثناءً في الحياة الحزبية العربية. هذه الشخصية التي التقطها سامر محمد إسماعيل قلَّ مثيلها في الدراما العربية؛ شخصية قيادية في حزبٍ سياسي تحمل أفكاراً شبه كيميائية، تخلط السياسة بالثقافة بالوطن بالقومية بالإنسانية بالعدالة بالاشتراكية. وتتبادل الجذب والصد مع الرفاق كما مع الدولة التي هو ندٌّ لها فيما هي عدوته. شخصية تنشر "كاريزميتها" مثل فيروس الزكام، ورغم أنَّها (بطلة) قضت عشرين سنة في المعتقل، لكنَّها كما قدَّمها المؤلف والمُخرج هي مَنْ سيكذب علينا، مثلما كذبت كلُّ الأحزاب والجمعيات السياسية والخيرية وبمجرَّد أن تقبض على السلطة تقبض على أرواحنا وتصير عندها رهينة.

شخصية إشكالية
الممثِّل يوسف المقبل اشتغل على دوره هذا بتوازنٍ ذاتي، كان يتوالد وينمو وهو يرينا كما أراد المُخرج أنَّ الإيديولوجيا أو العقائد إنَّما هي أقنعة. وهذه الشخصية الإشكالية في الحياة السياسية العربية جديدة على المسرح السوري كما العربي، مِنْ قبل لعبت عليها الرواية أو قاربتها، كما

فعل الطيب صالح وعبد الرحمن منيف ونجيب محفوظ على سبيل المثال في بعض رواياتهم. سامر إسماعيل وهو يلعب مع ممثليه يوسف المقبل وميرنا معلولي هذه اللعبة، هو يصنع مسرحاً حيَّاً- لعباً حيَّاً. لا يرفع يافطات سياسية، فالجدار الزجاجي مع الستارة التي بثَّ عليها الإرسال الفيديوي على "الفيسبوك" في آخر لحظات العرض بعد أن صُدِمَ جابر بأنَّ اعترافاته التي كشف فيها عن دُونيته وَضِعَتِهِ ونذالته، كان الناس يتفرجون عليها- ستارة وجدار متضافران مع سياق نموُّ الفعل الذي انتهى بعدها بنوبة صرع أصابت (مايا) وهي لحظة ضعف يستغلها جابر، فَيُكَوِّمُها بعد أن يُقيِّد قدميها ويديها ويضعها في حقيبة سفره التي كان سيرحل بها إلى دولة خليجية ليتسلم الجائزة التي فازت بها روايته - رواية "الخوف" التي كتبها والد مايا ونشرها باسمه بعد أن ضيَّع إسكندر في السجن.

مُجرم وقاض
المخرج سامر إسماعيل قدَّم في عرضه (تصحيح ألوان) أو شرحُ وفضحُ لونَ الألوانْ- الحقيقةَ وهي تجرحنا. ويوسف المقبل وميرنا معلولي لعبا دوريهما بطريقة مفاجئة وغير مُعلنة، غير مُكرَّرة، وبشجاعة وحريَّة في الأداء، وبقدر ما كانا يُخيِّلان كانا واقعيان، كانا يُزيحان الشكل الحقيقي ليحلَّ المُتخيَّل المُفترض وبالعكس. فكما كان جابر مُجرماً كان قاضياً، وكما كانت مايا تُمثِّل دَوْرَيْنْ، الأوَّل عتبة للدور الثاني، كانت واقعية وهي تستدرج جابر الخائن والكذاب والمنافق في مقابلتها الصحافية التي كانت تبثها على "الفيسبوك"، فجاءت بالـ(هناك) إلى الـ(هنا). جاءت بالماضي إلى الحاضر، فهي مع صوت الممثل أيمن زيدان الذي لعب دور

الشاهد/ الشهود، واستدعت صوته من آلة التسجيل الذي كان صوت الماضي كأنَّنا كُنَّا في محكمة.
إسكندر ياسين والدُ مايا في دوره هذا حسب ما رواه جابر، ومن ثمَّ ونحن نسمع صوته يُكذِّب جابر كان يتشارك مع الجمهور، فهو صادقٌ ويكذب، وكذَّاب ويصدق. كأَنَّ سامر إسماعيل يريد أن يُفرجينا كيف يُقاتل الإنسان المتفوِّق، جابر وإسكندر "دونجوانان" في الشبق السياسي والشبق الجنسي، إنسانان متفوقان وخارقان فيكشف المخرج عن جوهريهما الداخلي، فنرى شهوتهما العارمة إلى السلطة والجاه والمال. فيما سُليمى ضحية الزوج إسكندر والعشيق جابر كان جسدها هو قضية القضايا وليس روحها عندهما، وهي القوية بمشاعرها الإنسانية، أعطت كلا الوحشين ما أرادا ولم تأخذ منهما شيئاً. لقد قتلت في داخلها وهي الممثلة النجمة المسرحية؛ إلكترا وأنتيغون وديدمونة وفيدرا والأم شجاعة وسُليمى، وماتت حزينة. وسامر يعتز بهذه الضحية، هذه السُليمى التي استسلمت للسلطة الذكورية الشرقية. يُذكرنا سامر بأنتيغون التي تقابلها مايا التي لا ترى أنَّ أباها حين اضطهدَ أُمَّها كما يروي جابر في علاقته السرية معها كان آثماً. اسكندر عاقبه جابر بالوشاية به إلى السلطة ليخلو له (الجو) وليس النضال. فَسَجْنُ ومن ثمَّ مَوْتُ إسكندر راحةٌ لجابر وليس لسُليمى، وباعثٌ للألم والحقد عند الطفلة مايا التي كبرت، وها هي جاءت لتنتقم لأبويها. مايا تُحب والدها كما أنتيغون، ومستعدة للتضحية بنفسها، لقد كانت ستقتل جابر لولا أن فاجأتها نوبة الصرع، فسقطت على الأرض وهنا استغلَّ جابر هذه اللحظة فعبَّأها في الحقيبة- حقيبة السفر؛ نوبة صرع جاءت ضرورة وإن كانت صدفة، لتدخل في بنية شكل المسرحية كحلٍّ مُفاجئ، لأنَّ استمرار الحدث بعد هذا مستحيل وإلاَّ تمزَّقَ النسيج الدرامي للمسرحية، ولم تحصل على جائزة أحسن نَصٍّ ومُمثِّل في مهرجان قرطاج المسرحي.

*ناقد مسرحي سوري.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.