}

جائزة النيل لأحمد نوار: نصف قرن من الإبداع

أسعد عرابي 21 يوليه 2019
تشكيل جائزة النيل لأحمد نوار: نصف قرن من الإبداع
(أحمد نوار)
أغبطني خبر حصول الفنان التعددي الأكبر د. أحمد نوار على جائزة النيل عن الفنون (الخاصة بالمبدعين المصريين)، والتي منحه إياها باستحقاق المجلس الأعلى للثقافة (نالها عن الآداب د. جابر عصفور ود. مفيد شهاب عن العلوم الاجتماعية) عن العام الراهن 2019م.
كما أسعد الحدث أصدقاءه الكثيرين الذين عرفوه عن قرب خلال سنوات مديدة. وتملك مصروية هذه الجائزة ومنحها له خارج مسؤولياته اعترافاً بفضله الفني والإداري والتنظيمي. تملك إذاً الجائزة نبضاً خاصاً في وقت استراحة المحارب، هو ما يميزها عن ركام الميداليات والجوائز العالمية التي حصدها سابقاً وجعلت منه اسماً فنياً لا يقارن في شموليته العالمية (يقال بأن منافسه على الجائزة كان الموسيقار عمر خيرت).
لعل سحره الشخصي وما يتمتّع به من صفات فعالية الإدارة يناظر تفوقه الفني، هو الذي يمثل مرآة لحيوية مخاض سيرته منذ كان غض العود فتياً يتسم بروح وشجاعة حب الاقتحام والريادة، وبوثوقية تضج بالتوثب الشاب والطموح. ابتدأ مغامرة نضاله الشاب هذه من خلال جذوة الارتحال على الأقدام خلال سنوات وتعرفه على أغلب المدن والبلاد العربية؛ ما بين مصر والحجاز والعراق وبلاد الشام ولبنان وفلسطين وغيرها.
منحته أمثال نشاطه هذا سهولة التواصل الاجتماعي وعفوية صداقاته السمحة التي تحمل ابتسامة محياه الريفي رغم نخبوية ثقافته وفنه ونشاطه السياسي. وعندما كان ضابطاً في الخدمة العسكرية في الجيش أبلى بلاء حسناً في سنوات الاستنزاف التي مسّدت جراح هزيمة 1967م ما بين عامي 1968 و1970م. لم تمنعه غيرته على مصر (مثله مثل عبد الناصر) الإحساس العميق بعروبته، هي التي أثمرت الوحدة بين القطرين والتي لم تستمر "لأن العرب متفقون على ألّا يتفقوا".
تتبدى من جهة ثانية قدرته على الاقتحام بخروجه من الريف واقتحامه وعورة المدينة ثم العاصمة ليتبوأ فيها أثقل المسؤوليات العالمية خاصة أثناء تنظيمه لبينالي القاهرة خلال سنوات عندما كان مسؤولاً خلالها عن المركز القومي للفنون التشكيلية، ثم فرخت نجاحاته بينالات عديدة أخرى خاصة الخاص بالخزف ثم النحت و"أسوان" والعديد من المتاحف (ما بين عمر خليل) ومتحف الفن المصري المعاصر، ومطالبته بعودة الآثار المصرية، بما في ذلك ذقن أبو الهول.
وهذا ناهيك عن خصوبة إنتاجه الفني الذي لم يتوقف شهيقه وزفيره رغم مشاغله الكثيفة، ومن أبرز مشاركاته تأسيس "جماعة المحور"، اجتمع فيها إلى جانبه أصدقاؤه اللامعون ومنهم د. مصطفى الرزاز والنشار وفرغلي عبد الحفيظ، يعتمدون على التصوير الرباعي على مجسم (إنشاء أحادي كل يوشم زاويته ببصمته وحساسيته الفنية)، ثم كان مدرساً فنياً ناجحاً في جامعة المنيا
وسواها، ينشر ديناميكيته أينما كان.
إن سرّ نجاحات نوار البانورامية هو اعتماده وبثقة لا محدودة لإمكانيات معارفه أو بالأحرى الفريق الذي كان يختاره بدالته وسمعته، وكان من حسن حظي أني حظيت بهذا الشرف وهذه الشراكة في التعاون الموثوق إلى جانب مدير بينالي القاهرة المصور والناقد المجيد المرحوم أحمد فؤاد سليم، ثم الإمكانية التربوية الكبيرة وتعددية لغات البحث الأكاديمي التي يتمتع بها مصور وناقد جامعي هو د. مصطفى الرزاز، إذا كان إشراف نوار عموديا على كل قطاع لكن كان هامش المبادرة رحبا لكل مسؤول إلى حد كبير ومؤثر.
ساهمت مثلاً  في إخصاب موضوعات الندوات النظرية الموازية للبينالي، وباقتراح عدد من الفاعلين مثل ترشيحي للناقد العالمي جيرار اكسبروغيرا رئيساً للجنة التحكيم، وتكريم فنان فرنسي معروف هو دومينيك تينو في صالات الأوبرا، وكان التعاون داخل لجان التحكيم الدولية يسعى لكسر الحصار عن المواهب العربية، وساهمت مثلاً في منح محمد القاسمي الفنان المغربي البارز الجائزة الأولى على الفن المعاصر في بينالي دولي وبموافقة بقية أعضاء اللجنة وأختامهم، ومرّت بين الفائزين وفي دورات عديدة أسماء مثل نذير نبعة وعلي شمس، ناهيك عن العروض المنتقاة بعناية من شتى محترفات العالم. ومن الضروري الاعتراف بتفوق منتخبات الفن الأميركي بعد الإسباني (خاصة القطلاني)، ولا شك بأن صلات نوار بمواقع دراسته في مدريد وتقدم تقنية الحفر والطباعة لديه جعلته قريباً من المدرسة الإسبانية برأسها فرانشيسكو جويا ومختبرات التقنية المختلطة في برشلونة، وعدد من محترفات أميركا اللاتينية. وتتمتع أصالة فنه بنفس أخلاقه والتزامه السياسي الوطني القومي.

دعونا بعد هذه المقدمة أن نعود إلى تطور أداءاته الفنية.

تعددية المدارس والتقنيات
خصّصتُ لنوار العديد من الدراسات الجمالية المعمقة أذكر منها اثنتين، الأولى بالعربية بعنوان: "التحول من رقعة الشطرنج إلى الميثولوجية العضوية" عام 1997م، والثانية قُدمت في معرضه بالفرنسية في معهد العالم العربي عام 1998م (مشاركة مع المرحوم أحمد فؤاد سليم)، بعنوان "طائر الحمام أسير زنزانة إقليدس" (ثنائيات فكرية وجبرية).
أكّدتُ في الأول على انطلاقته الأصيلة من المحفورات الطباعية الإسبانية، وأحادية اللون وتنوع تبصيماته وخاماته وملامسه النسيجية والحمضية الثرية.
يمثل موضوعها أشلاء ومزقاً من عرائس اللاوعي المنتزع من براثن أغوار مدافن الهرم، وحيث تطبق الأبدية على هياكل متهالكة من المسوخ الموميائية المتفسخة والأبدية في آن واحد مستحضراً في محفوراته المعدنية (الزنك أو النحاس) والأحماض والكليشيه السالبة والطابعة الموجبة، ثم التبصيمات المتهافتة وتعددية الأداء التقني مثل الألفونة وسواها، والملصقات الغائرة- النافرة، هو ما يدعى عموماً بالتقنية المختلطة. ثم تستحضر العناصر الطقوسية التي كانت ترافق المتوفى في رحلة الموت والراحة المدفنية ذات الهندسة الأبدية. تتفتت هذه العناصر مثل نتف الأقمشة (أغطية وسراويل وقفطانات وأردية وقمصان ووصلات قماشية)، إزارات وأكمام خيوط وعقود وشتى الاندثارات من نعال إلى أقنعة تعاند الاندثار، تتحول بمجملها إلى هواجس حلمية كابوسية، أشبه بمزق مستجلبة من لعنات "كتاب الموتى" الفرعوني. تحمل هذه المجموعات رفع الحدود بين الفن والصناعة (الحرفية). بعض من هذه

اللفائف السوريالية احتشدت ضمن مواضيع حربي سيناء والاستنزاف. يتحول بعدها إلى احتشاد ملحمي متخم بالرموز والإحالات سواء المنخورة منها أم الفضائية المستقبلية، ما بين عالم المومياءات السحري وعالم الروبوهات العولمي. وذلك ليبدأ بالخروج من تقاليد لوحة المسند أو الحامل والمحفورة الطباعية إلى رفع الحدود في ملصقاته بين النحت الثلاثي الأبعاد والتصوير الثنائي الأبعاد، وصولاً في غشتالت التكوين إلى البنائية الهندسية للمثلث أو الهرم (شكل خارطة الدلتا) التي تعانق شتى هذه الشطحات العضوية الملتبسة من الأحياء والأموات.
وهنا نصل إلى فحوى الدراسة الفرنسية في معرضه الاستعادي في معهد العالم العربي عام 1998م.
يعتمد نوار منذ بداية التسعينات (وحتى قبل ذلك التاريخ) على هندسة الفراغ المفاهيمي (الفرضي)، معتمداً على الأغلب على طوبوغرافية جبرية مستقاة من تعامدات رقعة الشطرنج. وعندما تتعدد مصاريع اللوحات التربيعية يذكرنا بارتصاف تربيعات السيراميك المملوكي والفاطمي، مثل هذا التعامد يعطي للمثلث وللخطوط المتكسرة ديناميكيتها القصوى، تتحول منذ 1990م رقعة الشطرنج إلى نافذة مشربية (كما هي لدى مهندس العرب حسن فتحي)، يصنعها مثل أي حرفي شعبي من قضبان القصب ويلصقها بالغراء. ثم أخذ يحرك محور هذا المربع المحجم بزاوية 45° حول محوره. وهكذا يلتقي مع الأرابسك والرقش الموروث في حيوية تدوير المربع وتربيع الدائرة، وإذا كانت مجهرياته المحجوزة داخل سجون الهندسة الإقليدية ثلاثية الحجوم على رفيفها الضبابي والتباس تخطيطها الحركي (بتقنية مستقبلية) فإن الهندسة الجبهوية العامة المواجهة والمعانقة لشتى حجرات التكوين تبدو مسطحة منمالية مختزلة إلى بعدين.
وهي توحي بالإجمال بالعلوم التخيلية المستقبلية التي يدعوها بالطاقة (جول فيران)، ثم يعبر إلى النصب العملاقة والإنشاءات الملحمية الملتحمة مع مسرح العمارة والتنظيم الحضري وصولاً حتى إخراجه لأحد الأفلام، تعتمد هذه الطقوس ما بعد الحداثية على الالتزام اللامحدود بالقضية الفلسطينية (باعتبارها مركز الصراع العربي - الإسرائيلي)، ثم بالاعتماد على معاونين وفريق عمل، بحيث يبدو هذا التحالف المتعدد الاختصاصات أشبه بعمل جماعي أكثر منه فردي، فالفنان في هذه الحالة يشبه المخرج السينمائي أو قائد الأوركسترا المسؤول عن تفاصيل العزف الجماعي.
نقرأ في أعماله الإنشائية المشهدية (باستعاراتها من ديكورات مسارح الرقص وسواها) شتى أنماط التضاد البصري والذهني لدرجة الاستفزاز الذي حل اليوم محل البحث عن الانسجام الكوني خاصة في الطبيعية والمرئي الذي ارتبط بتيارات لوحة المسند (الحامل)، وبالتالي فإن توجه تعبير نوار إلى مساحة ما بعد الحداثة يطوي صفحة التعبير التقليدي في اللوحة التصويرية، وذلك بالبحث عن الوسائط المحدثة البديلة والتي تصل في تكريسها للطاقة إلى التعقيدات السبرنية والهولوغرام.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.