}

صلاح المُر في "مصنع القطن": واقعٌ يسترد جناحيه

طارق إمام طارق إمام 18 يوليه 2019
تشكيل صلاح المُر في "مصنع القطن": واقعٌ يسترد جناحيه
(صلاح المُر)
(1)

"صور لعمال مصنع القطن": عنوان تقريري، تسجيلي وتوثيقي الطابع، حتى يهيأ لك أنه يدير ظهره للتخييل، فيما نحن أمام تجربةٍ تحظى بقدرٍ وافر من خيانة المحاكاة. هكذا اختار التشكيلي السوداني صلاح المُر أن ينطلق في معرضه الأحدث، والذي احتضنه جاليري مشربية بالقاهرة مؤخرا، من سؤال المسافة: المسافة بين الواقع والحلم، الحاضر والماضي، الثقافة والغريزة، وهي المسافة التي تقف فيها ذاكرة الطفولة ومخيلتها معاً، كبطلتين لهذه التجربة، تذيبان تلك الثنائيات لصالح واقعٍ فنيٍ هجين.
إنها مفارقةٌ أولى وجوهرية في فكرة "الإحالة"، بين "اللافتة" و"المرجع"، أو لنقل بين "الدال" الرئيسي (عنوان المعرض) ومجمل الأفق الدلالي فوق الواقعي الذي يحيل إليه. إنها ربما المسافة بين الواقع وانعكاس هذا الواقع كتصوّر، الانعكاس الذي يعني هنا التحريف والتخريف والتشويه. هي أيضاً إشارة للطريقة التي يمكن عبرها لموجود تجريبي خارجي (الواقع) أن يتحول إلى متن بصري يحصل على الصورة من الداخل (الوعي الباطن). غير أن العنوان كذلك يحمل إشارة شديدة الأهمية، هي طبيعة "الذوات" التي يلتقطها المُر لتصبح أبطاله. إنه انحيازٌ ساطع: حيث البسطاء، المهمشون الذين لا يحظون بأي بطولة اجتماعية أو ثقافية أو طبقية، وهم يوضعون تحت ضوء الفن، ليُعاد اكتشافهم في حلم، أو ربما ليُسمح لهم بالظهور فيما يحلمون بالذات.

(2)

لا تبحث أعمال المُر عن "التفسير" كطريقةٍ أولية في فض الالتباس الفني برد العناصر والعلاقات إلى مرجعيةٍ ثابتة قارة في الواقع، بل تطمح في التأويل، ذلك أنها لا تُنتج علاقات منطقية بين عناصرها، ما تترجمه طبيعة تعامل المُر مع الكتلة (المحرفة دائماً) وملامح هذه الكتلة، والطبيعة اللونية المنزاحة عن الاتفاقي. إنها تحيل لما يُشبه الواقع الحلمي عبر الاستعانة بعناصر مستمدة من الواقع (ودعني أقول من البيئة)، وهي نفس آلية عمل الحلم، وربما لهذا

تتطلب تأويلاً شبيهاً بالطريقة غير الأيقونية في تفسير الأحلام: امرأة تحمل مقعداً خشبياً، "برتقالياً" في مفارقةٍ أولى هي المفارقة اللونية، ومفرغاً في مفارقة ثانية دلالية حيث تفقد "الوسيلة" وظيفتها الاستعمالية الجوهرية لصالح وظيفةٍ جمالية غير غرضية. تكتفي المرأة بالنظر (في مفارقةٍ ثالثة، سلوكية هذه المرة) دون أن يطرح ذلك دلالةً مباشرة. في لوحةٍ أخرى ثمة رجلٌ جوار وحش (أقرب لأسد)، يحدق كلاهما أمامهما بسلام، فيما يتقاسمان لون البشرة ذاته والملامح نفسها، كما لو كانا شقيقين، في إذابةٍ للحدود الواهية بين الإنساني والحيواني، أو بين الثقافي والغريزي، وفي نقضٍ دلاليٍ عنيف لطبيعة العلاقة بين الكتلتين: الافتراس. فوق ذلك فإن للرجل نفسه فمين بدلاً من واحد، يمنحانه صيغة المسخ. في لوحةٍ ثالثة ينهض طقس ميلاد قائم على التحام الكتلة الجمعية (ممثلةً في النساء) قبالة توحد الكتلة الفردية (يمثلها المولود). يسدر قطيع النساء في الأسود فيما الوليد تُنيره الصُفرة. يبدو طقساً قاتماً جنائزياً أكثر مما يبدو مبشراً بالميلاد، مثلما تُضيء الصفرة حس الأفول فيما نحن في لحظة إزهار. في هذه التجربة ثمة رؤوسٌ تولّد من رأس شخص وتضاعف من نفسها فيما حدود جسده ثابتة، أو رأسا رجلٍ وامرأة فوق جسدٍ واحد يموّهان "هويته". امرأتان، إحداهما خضراء، وبينهما زهرة "فان جوخية"، رجلٌ ممدد فوق بقرة متماهياً معها بالرقدة التي تجعل منه اتحاداً بأفقية الجذع الحيواني الأفقي. هنا أجساد أطفال لهم ملامح العجائز والعكس، ثمة رجالٌ كما لو جرى تصغيرهم وأطفالٌ عمالقة، آلةٌ موسيقية تطرأ حيث لا يجب أن توجد على شرف شخصين عاريين. عالمٌ حلمي، متصل بالعجائبي، حتى أن خنزيراً أو بقرة يظهران بسلام بين حوائط غرف وتحت أسقفٍ بيتية وسيقانهما على السجاد، كأنهما ليسا خارج محيطهما الطبيعي.
بالتقاطع مع اللوحات، تنهض المنحوتات: أشد تجسيداً بطبيعة الحال، وبالمقابل أكثر اقتصاداً على المستوى اللوني حتى تكاد تنحصر في لونين: الأسود والأبيض، كما لو كانت ترجمةً لونية للماضي، أو تعميقاً لأبطالٍ خانتهم الألوان. تلتفت المنحوتات للحيوان أيضاً لتمنحه الحق في التواجد وسط جماعته الإنسانية. بدورها تستلهم الأعمال النحتية هنا أيقونات الفن الأفريقي البدائي، بينما تختبر وجوهَ اللوحات نفسها في فضاءٍ متقاطع، مانحةً إياها مذاق الأيقونات. كأنما تمنح المنحوتات، بطريقتها، تلك الذوات المهمشة بطولةً ما بتحويلها لأيقونات تخلّد هذه المرة وجوه العاديين وليس البشر من أنصاف الآلهة. البطولة في المنحوتات للوجوه، حيث تغيب الأجساد أو تُجرّد حتى تصبح "حوامل" للوجوه.
أغلب شخوص المُر تواجه المتلقي المفترض، كأنهم يحصلون على صورة فوتوغرافية في

ستوديو. يدعم ذلك افتقادهم للحركة، فنحن على الغالب أمام أجسادٍ ووجوه في لحظة الثبات الأليفة تلك قبل الحصول على صورة فوتوغرافية، وربما لذلك السبب وصف المُر تجربته بأنها "صور". ثمة حائط في الخلفية (تتغير ألوانه ونقوشه، أيضاً بطريقة ستوديوهات التصوير الفوتوغرافي التقليدية)، وسجاد يتكرر تحت أقدام الشخوص في أكثر من لوحة. الفوتوغرافيا حاضرةٌ في خلفية هذه التجربة، لكنها وبنفس قوة استدعائها تفقد جوهرها الكنائي، وطبيعتها كمحاكاة للواقع، تحت سيل التحريفات اللامنتهية.

(3)

في "صور لعمال شركة القطن"، كما في مشروعه إجمالاً، يبدو المُر مشغولاً باختبار جماليات الفن الفطري، بوصفه انعكاساً لمخيّلة الجماعة الشعبية في التعبير عن شوقها "التشكيلي" الغفل والمرتجل. بطريقته، يزيح الفن الفطري أدبيات الفن الواقعي ومقاييسه النموذجية تشريحياً ومنطقياً (كما تتبناها نظرية المحاكاة) ليُنتج، بالضرورة، نصاً يعارض تساوق "الواقع". إنه موقفٌ أيديولوجي أيضا، حيث الواقع هو فضاء السلطة والنظام الذي يُخمد كل ما هو بدائي، فطري، غريزي، ويقمعه. إنه إذاً ردٌ فني "لا واعٍ" على خطابٍ مُعادٍ كونه لا يمثل سوى السادة، هو خطاب سلطة (سياسية/ اجتماعية) تعكس نفسها على السلطة الجمالية لتصبح ذراعها الاستاطيقي.
بالمقابل ينحو الفن الفطري لتوظيف الخرافة ولمزج عناصر لا يمكن أن تلتقي في الواقع، منتجاً نصه البصري المتصل برؤية غير عقلانية للعالم سواء كانت وثنية أم مستندة للمجاز الديني أو للمخيلة الجمعية. يبدو المُر شغوفاً بتمثل القيم التشكيلية "للجماعة" عبر اعتماد عددٍ من عناصرها في تحويل العالم إلى فن، مع فارق جوهري هو أنه يفعل ذلك عن "قصدية" ليقدم نصاً تشكيلياً لا يمتح من الواقع إلّا ليحرفه أو يشوهه أو يفتحه على العجائبي والفانتازي، وبلمسةٍ وحشية لا تخفى على متلقيه، فيما أراه يضع المُر في القلب من واقعيةٍ سحرية تشكيلية تمتح من الموروث الميثولوجي وتعيد عبره تعريف الواقع في علاقته بما هو فوق واقعي.

(4)

في عمل المُر ثمة عناية واضحة بالتجسيد، يمكن الوقوف عليها بتأمل كُتل شخوصه، وتُبرزها

بشكلٍ أعمق الوجوه، حيث يولي المُر اهتماماً خاصاً بالوجه الإنساني. لكن المُر وفور تجسيده يحرّفه (بالآلية نفسها التي أسلفتُ الإشارة إليها) ليجعله يحظى بشفتين أو ليضع عينين في زاويةٍ واحدة، أو ليمنح الجسد برمته لوناً مفارقاً كالأخضر أو الأصفر أو الأزرق، وإجمالاً، يبدو المُر شغوفاً بتجسيد وجهٍ بشري آخذ في التحوّل إلى مسخ. درجات البني والحنطي، التي لا يكف المُر عن اختبارها، تحيل بدورها ثقافياً للون البشرة النيلية، ذلك اللون الذي طالما كان موضوعاً للعنصرية من جهة وللتهميش من جهةٍ أخرى. يستحضره المُر، بدرجات متراوحة، يُسقط عليه الضوء تارة ويتركه في الظل تارة، غير أنه يبقى بطلاً. يحفر المُر أخاديد عميقة في أغلب وجوهه، وبقطعاتٍ حادة ترسم هوّات عميقة كشقوقٍ طبيعية، تتجاوز فكرة التجاعيد "الإنسانية" لتفتح الوجوه على الطبيعة وكأنها تضاريس من اليابسة حصلت على ملامح بشرية. ويضع المُر ذلك على خلفيات زاهيةٍ في العادة، تخترقها الزخارف المستلهمة من البيئة المحلية من ورود أو أزهار أو نقوش. دائماً هناك "بلاتوه" يأتي المُر بشخصياته إليه منتزعاً إياها من عالم الطبيعة المفتوح: لا وجود لشارع أو مدينة أو إطلالة على نهر أو بحر، وأبطال اللوحات لا يحظون بشخوصٍ أخرى أو بأبعاد مكانية في العمق. يبدو أن المُر يختبر خصيصة أخرى في الفن الفطري هي غياب الإيهام العمق. يفعل ذلك عن عمد مُسبغاً على عمله، أو معمقاً، ذلك الحس بأن النص البصري قادمٌ من المخيّلة الطفولية. ربما لذلك يحرص المُر على تلك الآلية التي تعرفها رسوم الطفولة، بخطوط غير معقدة وملامح صريحة وألوان ساطعة.
يرتد المُر في تجربته الأحدث للفطرة، يرتد للإنسان العاري، إنسان ما قبل الثقافة، وما قبل السلطة. جميع شخوص المُر هي الشخص نفسه: المهمش، والحالم، والعابر، وهي ترتد لتصبح المُر نفسه، كونه أحد هؤلاء وليس محض شاهدٍ من الخارج. ربما على هذه الشاكلة يعثر المُر على فردوسه، أو ربما يُدرك أنه، بهذه الطريقة فقط، يمكن للواقع أن يتخفف، ولو لبعض الوقت، من جحيمه.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.