}

"الوعد" لكوسمنسكي: دراما بريطانيّة تعيد كتابة التاريخ

أنس إبراهيم 13 يوليه 2019
سينما "الوعد" لكوسمنسكي: دراما بريطانيّة تعيد كتابة التاريخ
المخرج بيتر كوسمنسكي خلال تصوير "الوعد" (عين نيوز)
ببداية تقليديّة في السينما الغربيّة التي تتناول القضيّة الفلسطينيّة، بدأ المخرج البريطاني بيتر كوسمنسكي قصة عمله الدرامي القصير نسبياً "الوعد" (4 حلقات مدّتها 5 ساعات و56 دقيقة) في نيسان/ أبريل 1945 في معسكر الاعتقال النازيّ "بيرغن بيلسن" على لسان الشخصيّة الرئيسيّة في العمل، وهي الرّقيب في الجيش البريطاني ليونارد ماثيو وهو يصفُ تفاصيل المعسكر، والمشاعر التي اختبرها أثناء تواجده هناك قبل نقله إلى فلسطين.
يروي العمل الدرامي قصتين متوازيتين؛ الأولى قصّة ليونارد ماثيو، كرقيب في الجيش البريطانيّ في فلسطين، والعلاقة التي جمعتهُ بكلّ من "كلارا" الفتاة اليهوديّة والمجنّدة في عصابة "الإرغون" الصهيونية، وبمحمّد أبو حسن، الفلسطيني الذي عمل في الجيش البريطانيّ إبّان فترة الانتداب في فلسطين. والقصّة الثانية هي قصّة حفيدتهُ إرين ماثيو، والتي تسافر إلى فلسطين برفقة صديقتها البريطانيّة الإسرائيليّة لقضاء فترة التجنيد بينما تقيم إرين لدى عائلة صديقتها في الوقت الذي تبدأ فيه بقراءة مذكّرات جدّها والتي كتبها في السنوات السابقة على خروج بريطانيا ووقوع النّكبة.
تثير البداية التقليديّة للعمل الدراميّ الريبة في الاتّجاه الذي ينحوُ إليه المسلسل في رواية قصّة القضيّة التي لم يسبق أن تمّت روايتها من عيون ضحاياها غربيّاً وسيطَرَ دائماً على روايتها التعاطف الغربيّ مع الصهيونيّة واليهود بسبب المحرقة النازيّة بحقّ اليهود في أوروبا. لكن مع مرور الوقت، يخلقُ كوسمنسكي حالة استثناء حقيقيّة في الدراما الغربيّة التي تناولت القضيّة الفلسطينيّة، ويخرجُ عن كافّة التقاليد السينمائيّة والروائيّة التي طغَت على تقاليد رواية هذه القضيّة غربياً وعالمياً.
أن تروي دراما غربيّة قصّة النكبة من عيون الضحايا، وأن تعرضَ مشاهد الإبادة الجماعيّة مع تفنيدٍ للحُجج الصهيونيّة التقليديّة وببساطة أن تُحطَّمْ أسطورة تفوّق الصهيونيّة الأخلاقي، وأن تعرض مشاهد لأطفال ونساء المستوطنين وهم يرمون بالحجارة أطفالاً فلسطينيّين عائدين من مدارسهم في الخليل عام 2005، وأن تعرض مشاهد لحياة المستوطنين الذكوريّة البطريركيّة الداخليّة على شاشة غربيّة وتعرض سيطرة المتشدّد الصهيوني ليسَ على المرأة المستوطنة وحسب بل أيضاً على الجيش الإسرائيلي دونَ أيّة إشاراة لحيوانيّة الآخر، لاستحقاقهِ لذلك، بتعاطفٍ كاملٍ، بواقعيّة كاملة لا يجرؤ الكثيرون على عرضها، ذلك معنى "حالة الاستثناء". وأن تقيم مقارنة تاريخيّة بين التفجيرات الصهيونيّة في فندق الملك داود، وما بين العمليّات
الاستشهاديّة الفلسطينيّة في الحاضر، مع إدانة كاملة للحالتَين، ولكن، وعلى لسانٍ إسرائيليّ أن تُبرِّر كِلا العملَين بأنّهما نتيجة انعدام القدرة لدى الفلسطينيين، والصهاينة إبّان الانتداب، على عرض وجهة نظرهم بطريقة أخرى، ذلك يعني انفتاحاً غير مسبوق على معنى الصّراع في الأرض المحتلّة ما قبل النكبة وما بعدها.
كوسمنسكي غرّد خارج السّرب في عمله "الوعد" بطريقة غير مسبوقة من قبل في السينما الغربيّة، ورغم أنّ العمل وقع في كليشيهات كثيرة حول العرب، وحول ضرورة ربط المحرقة برغبة الصهيونيّة بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين وذلك على لسان الشخصيّة الرئيسيّة في العمل في تعليقها على وجودها في المعسكر النازيّ: "أعتقد إن مررتُ بما مرّ به أولئك الأشخاص، سأرغب بوطنٍ أيضاً"، إلّا إنّ تلك الكليشيهات التي سيطرت على أجزاءٍ بسيطة في العمل لم تَحُلْ دون أن يتمكّن العمل من إدانة الصهيونيّة كحركة ما قبل النكبة وإسرائيل كدولة ما بعد النّكبة ناسفاً في النهاية الحجّة الصهيونيّة الأشهَرْ حول حقّ اليهود في وطن قومي لهم وهي المحرقة نفسها التي بدأ بها العمل الدراميّ قصّة شخصيّته الرئيسيّة.

كليشّيهات لا بدّ منها
كالأسود في الفيلم الأميركيّ، يظهرُ العربيُّ في "الوعد" متردداً، ضعيفاً، و"خارجياً" بطريقة أو بأخرى. إن كانت قصّة الماضي أو الحاضر، يظهر الصهيونيّ أو اليهوديّ منسجماً تماماً مع الصّورة، يظهرُ كأنّه ليسَ "خارجياً" عن النصّ، أو عن المكان والزمان، بينما ظهور العربيُّ في النصّ، في الصورة، يظهرُ "خارجياً" بشكلٍ ملموس وقويّ. يتكلّمُ ببطء، كأنّ المخرج يعرفُ ما يمكنُ للأوروبيّ أن يقول في أيّة لحظة وأيّة دقيقة، بينما العربيُّ يظلُّ لغزاً، وهو في حالة "ارتباك" دائمة، كأنّه ليس من هذا المكان، كأنّه دمية ناطقة، إلّا لو تكلّم بالإنكليزيّة بطلاقة، كالمرأة المسنّة التي تظهرُ في الحلقة الأخيرة وهي تتحدّث بإنكليزيّة بريطانيّة طليقة، ببساطة غير حقيقيّة ومفتعلة، كأنّ امرأة بريطانيّة حلّت في جسد امرأة فلسطينيّة مسنّة وأسكتت كلّ ما هو فلسطينيّ وراحت ترطنُ بإنكليزيّة بريطانيّة ليست من هذا المكان. ولو تكلّم العربيّ بالعربيّة سيظهرُ غير حقيقي وعاجز عن التعبير وأقربُ إلى أن يرغب بالصّراخ حتّى يُسمع.
ذلك كليشيه مألوف في السينما الغربيّة، التي حتى إن أرادت أن تروي القصّة بتعاطفٍ مع الآخر، ستجدُ نفسها في مأزق عدم قدرتها على استحضار شخصيّة عربيّة حقيقيّة وتلجأ إلى تاريخٍ من أدبيّات الاستشراق، فتروحُ إمّا تمسخهُ إلى كائنٍ متوحّش أو تمسخهُ إلى كائنٍ عاطفي عاجزٍ وضعيف، وفي كلتا الحالتَين، سيكونُ غير حقيقيّ، وببساطة سيكون شخصيّة مفتعلة دائماً.
في المقابل، اليهوديّ ينتمِي لأوروبا أصلاً، لذلك فهو أوروبيّ، ولذلك لا يصطدم المخرج بالحاجة إلى الخلق. طليقُ اللسان، قادر على الذّهاب أبعد من مجرّد أن يكون ضحيّة أو جلّاداً، لديه القدرة على الصياغة والتبرير، على الإقناع، على أن يكون شخصيّة حقيقيّة، على أن يُبادر إلى الفعل. بينما ينكفئ العربيّ على نفسه دائماً، ليسَت لديه القدرة إلّا أن يكون ضحيّة صامتة

كحالة "محمد أبو حسن" العامل في الجيش البريطانيّ، أو مجرّد عمليّة انتحاريّة في مقهى في تل أبيب، أو فتاة صغيرة تحنُّ إلى أختها وتريد من يمشّط لها شعرها. هي صور في غاية النّمطية، وربما لا تدلُّ على تقصّد لهذه النمطية بقدر ما تدلُّ على فقرٍ كامنٍ في المخيّلة الأوروبيّة حول الشخصيّة العربيّة أو "الآخر" غير الأوروبي.

كليشيهات تمتدُّ إلى التّاريخ
من الشائع عربياً وفلسطينياً أن الدور البريطاني في تسليم فلسطين إلى اليهود والحركة الصهيونيّة كان حاسماً في مسار التّاريخ وصولاً إلى النّكبة، إلّا إنّ ما هو غير شائع هو دور الحركة الصهيونيّة نفسها في مسار التّاريخ ذاك. بكلماتٍ بسيطة وباختصار، تعلّم اليهود من تجاربهم في أوروبا وتعلّم المستوطنون الصهاينة في فلسطين من تجربة عيشهم بجانب العرب أنّ إقامة دولة لليهود في فلسطين يجبُ أن يتمّ بإرادة صهيونيّة خالِصة، بعملٍ صهيونيٍ خالِص، دون أيّ اعتماد على الأصدقاء رغم ضرورة وجودهم والاستفادة بشكلٍ مثاليّ ممّا يقدمونه للحركة الصهيونيّة. ذلك كان أساسُ الصّراع بين الصهيونيّة والجيش البريطانيّ، والذي قادته عصابة "الإرغون" الصهيونيّة التي رأت في سياسات الانتداب البريطانيّ عائقاً دون الدولة اليهوديّة المنشودة في فلسطين.
هذا الصراع كان أساسُ قصة المسلسل الدراميّة والتي طغى عليها إلى حدّ الإيحاء بأنّ الجيش البريطانيّ كان في صراعٍ حقيقيّ يقترب أن يكون وجودياً مع الحركة الصهيونيّة في إغفالٍ أو إسقاطٍ ربّما لا يكون متعمّداً لدور الاستعمار البريطاني وسياساته في تدعيم القوّة الصهيونيّة ما قبل النّكبة. كما أنّ طغيان هذا الجانب من التاريخ على القصّة ساهم في غياب أيّ مقاومة فلسطينيّة في العمل سواء للجيش البريطانيّ أو للعصابات الصهيونيّة.

الاعتراف
في الدقائق الأخيرة من العمل، يصلُ اعتراف المخرج البريطاني بعد 63 عاماً على النّكبة على لسان الرقيب البريطانيّ ليونارد ماثيو والذي ينشقُّ عن الجيش البريطانيّ قبل الانسحاب

بساعات وينضمُّ للمقاتلين الفلسطينيين ليعود سجيناً إلى بلاده: "لقد تركنا العرب في القذارة، أعلم ذلك إن كنت أعلم أيّ شيء. لكن ماذا عن اليهود ودولتهم اللعينة والتي قاتلوا من أجلها بقوة؟ قبل 3 سنوات كنت أعطيهم أيّ شيء يريدونه، فهم يستحقّونه بعد كلّ ما مرّوا به.. أمّا الآن فلستُ متأكّداً. دولتهم الثمينة هذه نشأت بالعنف والقسوة لجيرانها. لست متأكّداً إن كنت أتمنى لها الإزدهار".
يعترفُ ليونارد ماثيو، والذي يمرُّ بتحوّلات نفسيّة وشخصيّة عميقة طوال حلقات العمل الدراميّ، بالدور البريطاني في النّكبة الفلسطينيّة، وبالحقيقة التي حاولت الحركة الصهيونيّة منذ نشأة إسرائيل أن تعتّم عليها وهي نكبة شعب فلسطين في مقابل تأكيدها الدّائم على المحرقة النّازية.
بهذه الكلمات ينسف كوسمنسكي حجّة الصهيونيّة، وبهذه الكلمات يعترفُ بخطيئة بريطانيا في فلسطين.
أخيراً، للعمل الدراميّ إشكاليّات عديدة غير تلك التي احتوتها هذه المقالة، لكنّه تجربة دراميّة روائيّة شديدة التكثيف، تحاول أن تغرّد خارج سربِ الصهيونيّة وآلتها الدعائيّة حدّ الصّدام معها. وربّما لو كانت للمخرج مخيّلة أخرى غير مخيّلته الأوروبيّة، لاستطاع عبر شخصيّات عربيّة حقيقيّة أن يكون استثناءً خالِصاً في السّينما الغربيّة والعالميّة.
 

 *كاتب من فلسطين.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.