}

ثمانينية ضياء العزاوي.. "أيقونة" التشكيل العراقي والعربي

هاني حوراني هاني حوراني 10 يوليه 2019
تشكيل ثمانينية ضياء العزاوي.. "أيقونة" التشكيل العراقي والعربي
العزاوي في متحف الفن الحديث في الدوحة (19/10/2016/فرنس برس)
احتفى فنانون ومعماريون ومثقفون عراقيون قبل أيام بثمانينية الفنان التشكيلي العراقي الكبير ضياء العزاوي، من خلال معرض جماعي أقيم في جاليري كريم في العاصمة الأردنية، وضم "بورتريهات" للعزاوي، كما رآه هؤلاء الذين جاؤوا من مدن وبلدان عديدة للاحتفاء بالمناسبة.
وعلى الرغم من حرارة المحتفين العراقيين بأستاذهم، إلا إن الاحتفاء بدا لي، كمراقب، باهتاً وحزيناً، لا يتناسب مع قامة ضياء العزاوي الذي ترك بصمات لا تمحى في مسار التشكيل العراقي والعربي خلال نصف قرن، وهو الأمر الذي يحيلنا إلى مأساة العراق مع فنانيه ومثقفيه الذين تشردوا، قسراً أو اختياراً، في أنحاء العالم، منذ تسعينيات القرن الماضي إن لم نذهب إلى مدى أبعد.
يذكر أن العزاوي، المولود عام 1939، كان غادر بغداد في أواسط السبعينيات من القرن المنصرم إلى العاصمة البريطانية، حيث عمل مستشاراً فنياً في المركز الثقافي العراقي، ولم يلبث أن عمل مديراً فنياً لمجلة "فنون عربية" التي كان يترأس تحريرها الشاعر العراقي الراحل بلند الحيدري، وقد استمرت المجلة التي كانت تصدر بتمويل عراقي لسنتين فقط (1981 / 1982)، وهي خاتمة سنوات صعود العراق الاقتصادي والسياسي والثقافي، الذي لم يلبث أن انتكس مع دخوله في سلسلة من الحروب الإقليمية مطلع الثمانينيات. ولا يزال التشكيليون العرب يذكرون "فنون عربية"، ويسعون إلى الاحتفاظ بأعدادها السابقة بعد أن توقفت لأسباب عدة أبرزها الإخراج الجمالي المميز للمجلة، والذي يعود الفضل به إلى ضياء العزاوي الذي كان قد أمضى سنوات عدة من العمل في الطباعة، خلال سنواته البغدادية.
استمر غياب ضياء العزاوي عن بغداد والعراق خلال ثمانينيات القرن الماضي، حيث تفرغ لأعماله الفنية الخاصة بعد توقف "فنون عربية"، لكنه واصل الإقامة في لندن، العاصمة البريطانية، والتي سوف تتحول إلى مقر إقامته الدائم، فبعد أن كانت لندن بمثابة ملجأ طوعي له، خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، باتت منذ الاحتلال الأميركي للعراق عام
2003 بمثابة منفى إجباري لفنان اتسعت ضفافه أكثر فأكثر ليغدو، بأعماله ومساهماته، أقرب إلى العالمية.
منذ ثمانينيات القرن الماضي، وبعد انغماسه في التفرغ للإنتاج الفني، ازدادت عروضه الفردية، فمن متوسط معرض شخصي في العام الواحد إلى معرضين أو أكثر أحياناً في السنة الواحدة، خلال العقدين الأخيرين، وبالمثل اتسعت رقعة عروضه التي فاقت الـ55 معرضاً شخصياً، فضلاً عن مشاركاته في عشرات المعارض والتظاهرات الجماعية. وهكذا شوهدت معارضه الشخصية في أكثر من خمس عشرة مدينة أو عاصمة عربية، إضافة إلى مدن أوروبية وأميركية أبرزها باريس، لندن، جنيف، ستوكهولم، جوتنبرغ، ستراسبورغ، والعاصمة الأميركية واشنطن.
على أن الإقامة المضطردة لضياء العزاوي خارج بلاده لم تفقده مصادر الإلهام التي شكلت وغذت أعماله الفنية على مدار العقود الماضية، فهو من ناحية أولى لم تنقطع أواصر صلته القوية والعضوية بالحركة التشكيلية العراقية، خلال العقود الصعبة الأخيرة، كما لم تتوقف أعماله عن الحضور في صالات الفنون في العواصم العربية المجاورة للعراق ولا سيما عمان وبيروت ودمشق، حيث التجأ العديد من التشكيليين العراقيين إليها إبان عقد التسعينيات وما بعد.
ورغم تعدد "الآباء الروحيين" و"عرابي" التشكيل العراقي في المنفى، ولعل أبرزهم إسماعيل فتاح الترك، ورافع الناصري، إلا إن مكانة ضياء العزاوي بالنسبة للأجيال اللاحقة من تشكيليي العراق، تحولت إلى ما يشبه "المؤسسة"، فقد وظف العزاوي مكانته وعلاقاته في ترويج ودعم أعمال الفنانين التشكيليين العراقيين، خاصة في دول الخليج العربي، التي شرعت في بناء متاحفها الفنية وتكوين مجموعاتها الخاصة على أيدي أمراء وشيوخ تلك البلدان، اعتباراً من تسعينيات القرن الماضي، وليس سراً أن العزاوي يواصل دوره "الرعائي" الصامت للفن التشكيلي العراقي في الساحات العربية والدولية، وفي دعم الفنانين المتميزين على اقتحام صالات وأسواق الفنون الإقليمية والدولية.

جاذبية وحضور قويّ
من أين استمدت أعمال ضياء العزاوي جاذبيتها وحضورها القوي في الساحة التشكيلية العراقية والعربية؟
يعود تكوين العزاوي الأكاديمي المبكر إلى دراسته في كلية الآثار في جامعة بغداد، والتي تخرج منها عام 1962، وفي الفترة نفسها تقريباً كان قد التحق بأكاديمية الفنون الجميلة في بغداد، ومنذ عام 1964 بدأ العزاوي بعرض أعماله وشارك في تأسيس الجماعات الفنية التي تتالى ظهورها خلال الستينيات، ولعل أبرزها جماعة "الرؤية الجديدة" (1969) و"البعد الواحد" (1971). وهكذا بدأ ضياء العزاوي يعرف منذ مطلع السبعينيات باعتباره أحد رموز الحداثة التشكيلية العراقية.
عرف ضياء العزاوي مبكراً بتخطيطاته بالحبر ومن ثم لوحاته المعتمدة على مزيج من الحروفية والأشكال البشرية في تشكيلات متنوعة تتسم بالشاعرية. ولم تلبث أن احتوت أعماله على نسيج أكثر تعقيداً من العناصر التي ضمت رموزاً من الحضارات العراقية القديمة

والحروفية والوجوه أو الأعضاء البشرية وغيرها.
شهدت أعمال ضياء العزاوي، خلال مسيرته التي تتجاوز الخمسين عاماً، تطورات وتغيرات متنوعة، ولكن الملفت أنه لم يكن من الصعب التعرف على هوية أعماله، التي باتت تنفذ غالباً بمادة الأكريليك على القماش، وتتسم بمساحات من الألوان الصريحة، واليوم يمكن القول بثقة إن ضياء العزاوي منح التشكيل العربي ما يمكن تسميته باللوحة "ذات الهوية العربية" والتي يمكن تمييزها بوضوح عن "اللوحة الغربية" التي ظلت مرجعية نظرية للفنانين العرب.
إن جاذبية أعمال ضياء العزاوي لا تعود فقط إلى أسباب أسلوبية، وإنما أيضاً إلى تعدد الأشكال و"الفورمات" الفنية التي عمل عليها منذ البداية، مثل الأعمال الحفرية والطباعية التي استلهمت الشعر الجاهلي والشعر الحديث على حد سواء، والتي تم تنفيذها على الشاشة الحريرية، وبعدد محدود من النسخ المرقمة والموقعة من الفنان. كما نفذ العزاوي أعمالاً جدارية كبيرة الحجم وأخرى نحتية متنوعة الموضوعات والمواد.
بقي أن نشير، ونحن بمناسبة ثمانينية ضياء العزاوي، إلى أن غيابه عن العراق مدة تفوق النصف قرن لم تفقده صلته القوية بوطنه وعالمه العربي. فأعماله تتنفس بقوة روحه العراقية والعربية. ولعل معرضه "شيء مختلف" الذي ضم أعماله النحتية الأخيرة تحفل بالموضوعات التي تندد بالاحتلال الأميركي للعراق ووجهه القبيح، مثل العمل الذي يصور دبابة أميركية تربض فوق سطح مجسم يرمز إلى متحف الآثار العراقي، والذي تزين جدرانه صور آشورية لحيوانات أسطورية. وقد ضم المعرض المذكور أعمالاً مستلهمة من القواطع الإسمنتية التي

كثر استخدامها في بغداد، منذ الاحتلال الأميركي، وكذلك في العديد من المدن والعواصم العربية، كحواجز لمنع الدخول إلى المناطق الحساسة أمنياً.
وفي سياق التنويه بالتزام العزاوي بقضايا وطنه وأمته لا يمكن إلا أن نتوقف أمام التصاق الفنان العراقي الكبير بالقضية الفلسطينية التي تكاد تكون "قضيته الشخصية"، حيث لم يتلكأ في التعبير عن وقوفه إلى جانب الشعب الفلسطيني، ونضاله العنيد من أجل استعادة أرضه، وتشهد تخطيطاته وأعماله المبكرة، منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي وإلى اليوم، على هذا الالتزام القوي، والذي تمثل مؤخراً بعملين نحتيين تضمنهما معرضه الأخير في عمان "شيء مختلف"، يستلهمان "حنظلة" الشخصية التي أبدعها رسام الكاريكاتير الراحل ناجي العلي، نموذجاً للطفل الفلسطيني اللاجئ.
وتمثل العمل الأول في منحوتة صغيرة تصور حنظلة منتصب القامة حافياً، واضعاً يديه خلف ظهره، وهي منفذة بمادة البرونز الأحمر الداكن. أما العمل الثاني فيصور حنظلة حاملاً زهرة من فوق الحطام فيما يقول عنوان العمل على لسان حنظلة: "صباح الخير... بيروت". وكأن العزاوي يوجه هذه التحية باسم الشعب الفلسطيني إلى بيروت التي صمدت معهم وبهم، في حصار صيف 1982 الإسرائيلي. ويذكر هنا أن هذا العمل هو الوحيد في المعرض المنفذ بمادة الستانلس ستيل ذات اللون الذهبي شديد اللمعان.

*رسام ومصور فوتوغرافي وباحث أردني.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.