}

زكي سلّام: نحّات المرأة والنكبتيْن

مليحة مسلماني 15 يونيو 2019
تشكيل زكي سلّام: نحّات المرأة والنكبتيْن
"نكبة 2012"
يحتكم فنّ النحت بشكل أساسي إلى معطييْن رئيسيْن هما: الكتلة والفراغ، فهو "كتلة في فراغ، وفراغ يحيط بكتلة" (1) وهو أحد تجلّيات جنوح الإنسان منذ القدم نحو الإبداع عبْرَ عمليةِ خلقٍ لعالمٍ يحاكي وجودَه والطبيعةَ من حوله، يطرح من خلاله أسئلته ويمارس طقوسه ويترجم معتقداته وفلسفته. بل يمكن النظر إلى فنّ النحت على أنه سؤال عن الخلق والوجود يتمّ عبر محاكاة عمليةِ الخلقِ ذاتها. وإذا كان النحت قد شكّل في الحضارات القديمة مسرحاً للإنسان جسّد عليه معتقداته الدينية والغيبيّة، فإن فنّ النحت اليوم هو أحد فروع الفنّ التشكيلي، أو الفنون المرئيّة، ويمارَس لأهداف جماليّة إبداعيّة، بصريّة ـ معرفيّة.
لفنّ النحت في الشرق تاريخ موغل في القدم، عكست تماثيله ومنحوتاته هويّات الحضارات القديمة في المنطقة، وطبقاتها الاجتماعية، وأحوالَها السياسية ومعتقداتها الدينية. وعلى الرغم من هذا التاريخ العريق للنحت في الشرق، إلا إنه اليوم، وفي العالم العربي، الشكلُ الفنيُّ الأقل ممارسةً نسبة إلى الفنون الأخرى، بل كانت المنحوتات والمواقع الأثريّة واحدة من ضحايا الاستعمار في الوطن العربي خلال العقود الماضية، وعادت مؤخراً لتكون واحدة من ضحايا الأزمات والصراعات، التي أعقبت اندلاع الثورات العربيّة ضد أنظمة الديكتاتوريّة.

الهويّة بين اندماجٍ ومنفى
تحضر منحوتات الفنان الفلسطينيّ السوريّ زكي سلّام كابنة للإرث الحضاريّ والثقافيّ الجماليّ في سورية وفلسطين، وكشاهدة على واقعهما المعاصر الموسوم بالاستلابِ والاستباحةِ لقتلٍ وحصارٍ وتهجير. وهي، أي هذه المنحوتات، وإن استمدّت مواضيعها من الواقع السياسي والاجتماعي في البلديْن، وجنح ـ بعضها ـ نحو ارتداء ثوبِ هويّتهما الثقافية، إلا إنها تنشد الإنسانَ موضوعاً وغاية؛ فهو العنصر الغالب عليها، يظهر فيها بأحوال مختلفة، بين انتظارٍ وترقّبٍ وتيهٍ وعجزٍ وعشقٍ وألم. ومن الجليّ أن للمرأة الحضور الأبرز في منحوتات سلّام،

ويأتي تجسيدها مرتبطاً بمعطييْن آخرين هما: اللجوء والانتظار.   
ولد زكي سلّام في دمشق عام 1958 لأسرة هُجّرت من قرية الطنطورة الواقعة إلى الجنوب من مدينة حيفا، وتشكّلت هويّته في مخيم اليرموك بين اندماجٍ في الثقافة والمجتمع السوريّيْن من جانب، ومنفىً يستند إلى الرواية والذاكرة الفلسطينيتيْن المُصاغتيْن عبر الأجيال في المخيّم، من جانب آخر. هاجر من مخيم اليرموك، كما فعلت الغالبية العظمى من سكّانه، بعد اندلاع الثورة وتطوّرِ الأحداث إلى حربٍ لم تسلم منها عاصمة الشتات الفلسطينيّ وبقية مخيّمات اللاجئين الفلسطينيين في سورية.

النكبة الثانية
رحل سلّام إلى الجزائر ليستقرّ فيها، تاركاً وراءه إرثه الثقافي والنحتيّ في سورية، والذي سرعان ما دُمّر وسُرق خلال اقتحام مشغله في قرية الحسينيّة في ريف دمشق، ومؤخراً وُجدَت بعض أعماله المسروقة معروضة للبيع في العلن في دكّان لبيع التحف في باب شرقيّ دمشق القديمة (2)؛ ليمرّ الفنان من جديد بتجربة القطيعة المفروضة قسراً مع الجغرافيا وما غُرِس فيها من جذور ثقافيّة، غير أنها، هذه المرة، قطيعة مع المكان السوريّ وثقافته، وهي تجربة لم تترك للفلسطينيين من المكان، ومن امتدادهم وتاريخهم فيه، سوى الذاكرة.
هكذا تصبح الذاكرة وحدها، ومرة أخرى، المعادِلَ المرادِفَ للهويّة لدى فلسطينيّي سوريّة. وسلّام، كنظرائه من الفلسطينيين السوريين، ابنُ هجرتيْن ونكبتيْن، كما يعرّف نفسه. يقول الفنان: "عشتُ في سورية التي ولدت في ريفها قبل أكثر من نصف قرن، أعتبر نفسي فلسطينياً، وبعد مغادرة المخيم في نكبتنا الجديدة، وفي الجزائر التي احتضنتنا، أجد نفسي سوريّاً". ويقول: "وبعد سنوات طويلة سُحب البساط من تحت أقدامنا من جديد، ووجدت نفسي وعائلتي من اللاجئين مرة أخرى، نجونا بجلودنا دون أن نحمل شيئاً معنا، سوى ما كنّا نرتديه".

أم الشهيدة 

يبدو أن تجربة التهجير الثانية، أو النكبة الجديدة كما يقول سلّام، هي مدخل أساس للولوج في أعمال الفنان، خاصة تلك التي أنجزها في الجزائر بعد الخروج من سورية؛ فأعمال الفنان قبل التهجير من اليرموك، وإن كانت تختزل إشارات إلى هوية اللجوء الفلسطينيّ ـ كما في منحوتاته التي أنجزها في سورية يجسّد فيها نساءً في حالة من الانتظار والترقّب ـ إلا إن هذه الإشارات الدالّة على لجوءٍ ومنفى، أصبحت أكثر وضوحاً في أعماله التي أنجزها في السنوات الأخيرة. ذلك يبدو جلياً في عمله "نكبة 2012"، الذي أنجزه عام 2013.
يتكون عمل "نكبة 2012" من عدة منحوتات صغيرة الحجم (بارتفاع 28 سم)، يجسّد فيها شخوصاً في حالة من اللجوء والتيه، عالقين في اللامكان ومتجّهين نحو المجهول: وجوه ناظرة إلى الفراغ، شخوص في حالة من الصدمة والفجيعة والضياع، أطفال محنيّة ظهورهم وكأنهم بعمر من يرافقونهم من مسنّين، نساء يحملن أطفالهنّ على ظهورهنّ وأكتافهنّ وصدروهنّ، وأخريات يحملن حقائب صغيرة، لا تحتوي بالتأكيد كل ما احتوته بيوتهن من حاجيّات، في دلالة على خروجٍ سريعٍ قلقٍ مُحاطٍ بالخطر، لا وقت فيه لحزم حقائب تحتوي كلّ ما يملكونه، كما لا تحتمل رحلة اللجوء كذلك حَمْلَ حقائب كبيرة أو ثقيلة، تماماً مثلما حدث مع الفلسطينيين خلال النكبة عام 1948.
يزيد من هشاشة الحالة التي جُسِّدت فيها الشخوص كون العمل قابلاً لإعادة التحريك والتكوين من قِبَل المتلقّي، وكأنّ الشخوص لا يملكون مصيرهم، هم أشبه بحجارة في لعبة شطرنج ـ لعبة حرب. عمل "نكبة 2012" هو تجسيد بصريّ يختزل وجدان الفلسطينيّ السوريّ الذي مرّ بتجربة التهجير والفقد للمرة الثانية، فيه يحضر السؤال بثقلٍ حول اللجوء كقدر يلاحق الفلسطيني، وكتجربة إنسانية عامّة أيضاً، تطال أبناء الشعوب الهاربة من فقرٍ وقمعٍ وحروب وصراعات.

المرأة والانتظار ـ اللجوء والبحر
أنجز سلّام في سورية العديد من المنحوتات، أغلبها من البرونز، التي يجسّد فيها نساءً في حالة من الانتظار والترقّب، ولا تشير الأعمال ـ بشكل مباشر ـ إلى حالة الانتظار المرتبطة باللجوء الفلسطيني، بقدر ما هي تمثيل للوجدان الإنسانيّ الأوسع المرتبط بالانتظار: انتظار عودة غائب، أو حدث هام، أو تغيير مصير، أو انتظار عودة إلى الوطن. غير أن الانتظار الفلسطينيّ، الذي يشكل أحد أعمدة هويّة المخيم ـ المرادف للمؤقّت في الوعي الجمعيّ ـ يعمل أيضاً كأساسٍ خفيّ لهذه الأعمال. يقول الفنان: "منذ بداية [تشكّل] الوعي عندي، واكبت انتظارَ سيدةٍ من قريتي ـ الطنطورة ـ لولدها الذي فُقد كقائد إنزال خلف خطوط العدو [في] حرب 1967: طرق باب، حركة مفاجئة من شخص، نظرة غريبة من شخص.. كل ذلك كان يثير إحساساً لدى هذه السيدة بعودة ولدها.. كل شيء في العالم لم يغيّر شيئاً من إيمان هذه المرأة بعودة ولدها.. عقود من الزمن والسؤال والبحث الحثيث لم تغيّر شيئاً ..وفي مسيرة حياتي مررت على عشرات وعشرات النساء المنتظرات، ولكل واحدة قصتها".

انتظار 

نساء مجموعة "انتظار" يظهرن في حالة مغرقة في البؤس المتراكم عن وجدانٍ أنتجه إحساس عميق بالفقد، مترهّلات الأجساد، غارقات في حالاتهن المترقّبة لعودة الغائب، عالقات في الزمن، ملتصقات بكراسيّ الانتظار. المرأة هنا هي اختزالٌ بصريٌّ للوجدان الجمعيّ المرتبط باللجوء الذي يعقبه فَقْد، والمرتبط بدوره بانتظارِ استردادِ ما فُقِد. تنهض نساء سلّام من جديد بعد التهجير من اليرموك، وبعد عمله "نكبة 2012"، ليحضرن بشكل أوضح فلسطينيات

الهويّة، في منحوتات يظهرن في معظمها مرتديات الثوب التقليدي، وليمثّلن مزيجاً من الصلابة والصبر والجمال الأسطوريّ القديم كما في عمله "امرأة من فلسطين"، ويختزلن الخصوبة والحياة كفعليْن مضادّين للموت وجمود الانتظار والفقد، كما في عمله "جالسة"، ويقتربن في حالتهن العامة من صورة السيدة العذراء، اللاجئة والأم المكلومة، كما في عمله "أم الشهيدة"، والذي يذكّر بتمثال "بييتا" الشهير لمايكل آنجلو، جسّد فيه السيدة العذراء تحتضن السيد المسيح بعد إنزاله عن الصليب.
تبيع المرأة السمك في أحد الأعمال، أو تحمل سمكة على رأسها في أعمال أخرى، ويصبح رأسها صَدَفة بحريّة كما في عمل "صَدَفَة"، وهكذا لا تختزل المرأة في أعمال سلّام التاريخ والحاضر والهوية الموزعة ما بين نكبتيْن وهجرتيْن فحسب، ولا الخصوبة والحياة وحالات الانتظار والألم والشوق وغيرها من أصناف الوجدان الإنساني فقط، بل تتسع صورتها لتشمل البحر كهوية أولى شكّلت ذاكرة الفنان ووعيه ومصدر حنينه المستمر إلى الوطن.
البحر هو الهوية الأولى، هو جدّ سلّام، الفلاح الطنطوريّ الذي لم يمارس غير بيع السمك مهنة ومصدراً للرزق والغذاء، وهو الملاذ إلى المجهول الذي ركب أمواجه المهجّرون من حيفا ومن بقية مدن وقرى فلسطين الساحلية خلال النكبة، وهو أيضاً الضفة الأخرى التي تنتظر الناجين من القتل والتعذيب في سورية. في كتاب “Freelestine” الذي يضم قصصاً مصوّرة لمجموعة من الفنانين الجزائريين يعبرون فيها عن رؤيتهم لفلسطين وما يجري فيها، شارك سلّام بقصة كتبها بعنوان "طنطوري"، ترافقها رسوم أنجزتها ابنته سومر، وتعرض القصة بشكل مكثف حكاية عائلتهما منذ النكبة، مروراً بمختلف النكسات والخيبات التي تعرضت لها أجيال مختلفة من العائلة، ولا تنتهي الحكاية بتهجير اللاجئين الفلسطينيين من مخيم اليرموك في دمشق عام 2012. يقول سلّام في "طنطوري": "جدّي عشق لازورد السماء على شاطئ حيفا، مع دخان شواء التونة الغارقة بعصير الليمون. غير أنه عاش بقية حياته يكره الليمون الذي يذكّره بقمر يوم النكبة والتهجير، مطروداً من المكان والتراث والأسطورة.. فقدتْ عند جدي الليمونة اسمها، وصارت قمر الغياب..".

هوامش:
(1) انظروا: محمود شاهين، الكتلة والفراغ، البيان، 9 تشرين الأول/ أكتوبر 2006، على الرابط: https://www.albayan.ae/five-senses/2006-10-09-1.952097
(2) نشر الفنان مؤخراً على صفحته على "فيسبوك" صور أعماله المسروقة معروضة للبيع في محل تحف في باب شرقي دمشق القديمة، وكتب قائلاً: "مستباحون..لا شيء يغطينا تحت سماء الرب. بعض أعمالي المسروقة من منزلنا في العروبة (مخيم اليرموك) معروضة للبيع بالعلن في محل تحف في باب شرقي دمشق القديمة، وكنا قد فقدنا كامل محتويات المنزل بما فيها أعمالنا الفنية كعائلة ومقتنياتنا من أعمال فنانين نحبهم والمكتبة. وقبلها كامل محتويات المشغل". انظروا: صفحة الفنان على "فيسبوك"، على الرابط:
https://www.facebook.com/ZakiSallam/photos/a.256987361135273/1233897650110901/?type=3&theater

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.