}

"فلسفة الجسد" لمحمّد العمراني: سرديّةٌ قِلقةٌ للرّوح

مليحة مسلماني 1 يونيو 2019
تشكيل "فلسفة الجسد" لمحمّد العمراني: سرديّةٌ قِلقةٌ للرّوح
لوحة "مهرج يحترق" المستوحاة من مسيرات العودة
تربط الجسدَ بالفنّ علاقةٌ ذات تاريخ طويل وشائك؛ حملت في طيّاتها أسئلةً وجدلاً حول الجسد باعتباره جزءاً من وحدة التكوين الإنسانيّ، المشتمل على الروح والعقل والوجدان، وغيرها من مفاهيم ذات مُسمّيات تحيل كلّها إلى الباطن الخَفِيِّ غير المحسوس وغير المرئيّ؛ فوحده الجسد هو التمثُّل المنكشف من هذا التكوين، هو الظاهر المرئيّ الأقرب إلى الإنسان في طريقه إلى معرفة نفسه واكتشافها، وهو كذلك الأقرب إلى الآخرين لمعرفته، حُبّاً ورغبةً في سياق العلاقات الإنسانية، أو استباحةً لانتهاكٍ، كأَسْرٍ أو اغتيال، كما في سياق الصراعات والحروب.  
تبدأ أزمة الجسد في الوعي الاجتماعيّ، وفي الفنّ والفلسفة والأديان، من اختلاف طَرائِقِ فهمه وتباينها؛ من محاولات تصنيفه وتأطيره كـ "جزء" منفصل، بمعنى رؤيته كوحدة وجودية منفصلة تربطها علاقةٌ ضدّيةٌ ــ تناقضيّةٌ مع الروح، في مقابل رؤيته "جزءاً في كلٍّ" لا يتجزّأ هو وحدة التكوين الإنسانيّ الجسديّ والروحيّ والحسّيّ؛ الثقافة الإغريقيّة، على سبيل المثال، كانت في الأساس ثقافة الجسد، فقد صوّر الفنّ الإغريقيّ الجسد بصورة تعبيريّة، لا تخلو من النزعة الروحيّة، التي لم تُصوَّر بدورها منفصلة عن الجسد، بل كانت تتواجد معه.
في أعمال الفنان الشاب محمد العمراني، التي عُرضت مؤخراً في "جاليري التقاء" في غزّة، تكاد صورة الجسد تقترب من كونها انعكاساً للروح ــ الوعي، أكثر من كونها تمثيلاً لأجسادٍ واضحةٍ هويّاتها الشكليّة المرئيّة ومعالمها التشريحيّة. معظم الأعمال تصوّر أجساداً هزيلة، نحيفة، لا تضاريس بارزة فيها، لا صدور ولا أعضاء تناسلية واضحة أو بارزة ولا بُطون ظاهرة، وهي كلّها تضاريس يعطي بروزها وتضخيمها للجسدِ بُعداً رَغْبويّاً ــ شهوانياً وحِسّياً. على العكس من ذلك، تبدو أجساد محمد العمراني مُثقَلة بالقلق والسؤال، وعالقة في اللازمكان، ما يجعلها أقرب لصورِ روحٍ يلاحقها قلقُ البحث عن معنىً وهويّة.
الجسدُ في معرض العمرانيّ، الذي حمل عنوان "فلسفة الجسد"، هو موضوع للبحث والسؤال والمعرفة؛ فللجسد، كما للفلسفة، أسئلتهُ وطرائقهُ في المعرفة، وهو كذلك موضوعٌ للحبّ، فكما أن كلمة "فلسفة" المشتقّة من "فيلوسوفيا" في اليونانية، تعني "حبّ الحكمة"، كذلك فإن فلسفة الجسد، أو الوصول إلى حكمة الجسد، غير ممكنة بدون علاقة حبٍّ تربطه بصاحبه ــ الإنسان السّاعي إلى معرفته.

لوحة "القمر الدموي" 

ينبثق سؤال الروح عن الوجود ــ التجسّد، في لوحة "القمر الدمويّ"، والتي كانت أولى اللوحات التي رسمها الفنان في هذه التجربة، إذ هي سردٌ بصريّ لفعل الولادة: جسدٌ نصف
عارٍ، عينان تنظران في الفراغ في إحالة إلى ولادة السؤال، يدان مغمورتان بالدماء ــ دلالة على الألم والمعاناة المرتبطة بالولادة، يستلقي الجسد على ما يشبه أريكة نصفها لونه بنّي ــ لون التراب، ونصفها الأعلى أزرق ــ لون البحر والسماء، وكلها عناصر تحيل إلى الوجود بمُطلقهِ بلا حدود تشير إلى زمان أو مكان. في الخلفيّة دائرةٌ حمراء، قمرٌ دمويّ هو المرادف للرحم، حيث انبثاق الجسد في فعلِ ولادة، والتي هي الهويّة الأولى الواقعة بين ضدّين: وجود الجسد كموضوع جماليّ من ناحية، وارتباط هذا الوجود بدمٍ وألمٍ من ناحية ثانية.
يَلِدُ القمر الدمويّ أجساداً أخرى، لذكور وإناث مجهولي الهويّة، لا مكان ينتمون إليه ولا زمان يدلّ على تاريخ ثقافيّ يحملونه، عالقون في لحظة زمنيّة هي لحظة سؤال أو ألم أو قلق؛ المكان في أعمال العمرانيّ سائلٌ لا تحدّه حدود وهويات، وزمانه متجمّدٌ في لحظة وجدانيّة، أو إدراكيّة، أو في لحظة العجز عن الإدراك. وتصوّر لوحة "جسدٌ متهالِك" جسداً لأنثى يشبه جسد الذكر المنبثق في لوحة "القمر الدموي"، وفي انتقال الفنان إلى تصوير أجساد أخرى مختلفة بحثٌ في اختلاف الهويّات الجسديّة، وفي الاختلاف ذاته كحقيقة وجوديّة. في ذات الوقت ينجلي للرائي تشابهٌ بين الملامح والأجساد، لدرجة تمّحي فيها، وإلى حدّ كبير، الحدودُ بين معالم الذكورة والأنوثة، كتجلّييْن من تجليّات الاختلاف، هذا التشابه هو إشارة إلى البعد الكونيّ للجسد كحقيقة إنسانية ووحدة جوديّة مجرّدة عن الكثرة المتمثّلة في تنوّع الهويّات، الجنسيّة والثقافيّة.
تتعانق الأجساد في أعمال أخرى، في حالة من طلب الآخر والتعرّف عليه، وهو طلبٌ مدفوعٌ بالحاجة، فالقلق والشعور بالتهديد يرافقانها في معظم الأعمال، بل ويدفعان الجسد إلى أكل ذاته كما في لوحة "الجسد يأكل نفسه"؛ أكل الجسد لذاته هو فعلُ إنهاءٍ ذاتيّ، أي هو الانتحار، بمعناه المعنويّ والجسديّ، فهو فعلُ نفيٍ للجسد وإنهاءٍ له، وهو الفعلُ الضدُّ للفعل الأوّل والهويّة الأولى ــ الولادة. الجسد هشٌّ، كما في لوحة "جسدٌ من زجاج"، وهشاشته ذات مصدريْن، أحدهما ظاهرٌ، تمثّله استباحةُ الجسد بالقتل أو الحصار أو بتدخّلات السلطة في تشكيل هويّته، سواء أكانت سلطة سياسيّة أو اجتماعيّة أو ثقافيّة، وآخر خَفِيّ، هو شفافيّة الباطن ــ الوعي ــ الروح، الحاوي لها الجسد.

لوحة "الجسد يأكل نفسه" 

يتخّذ الفنان صورةَ المُهرّج ليطرح موضوع الجسد بين العام والخاص؛ العام باعتباره المجتمع والسلطة والثقافة، والخاص وهو الجسد ذاته وما يتخفّى تحت جلده من انفعالات وأفكار. في لوحة "امرأة جالسة 2"، تظهر المرأة في صورة أقرب للمُهرّج، إذ ترتدي قميصاً ملوناً بألوان زاهية ومزيّناً بأشكال هندسية، تعتلي خَدَّيْها بقعتان ورديّتان، وتجلس في وضعية الجهوزيّة لالتقاط الصورة، غير أن عينيها تحدّقان في الفراغ والسؤال؛ تقع اللحظة الزمنيّة في اللوحة بين متقابليْن هما: الخارج المُعبَّر عنه بالوضعية التي تناسب "عيناً أخرى" تراقب لتلتقط صورةً
للجسد ترسم بها حدود هويّته، والداخل ــ الوجدان الذي يجد في العينين منفذاً للظهور، لتشيرا بدورهما إلى ما وراء هذا الجسد وبهرجته الظاهرة من قلق وانفعالات.
تتعاظم أزمة الجسد في لوحة "مُهرّجٌ يحترق"، والتي يستوحيها الفنان من مسيرات العودة في غزة، وتحديداً من حادثة إصابة شابٍ في وجهه بقنبلة غاز، وقد صورته الكاميرات يركض والدخان يخرج من فمه وأنفه وأذنيه. تمثّل اللوحة موقف الفنان تجاه ما يحصل في غزة، ورؤيته للجسد باعتباره عنصراً في مجتمع يؤدّي أدواراً كما يؤدي المهرّجون أدوارهم، وباعتباره في ذات الوقت هويةً وتمظهراً لوجود إنسانيّ يشتمل في طيّات وعيه على طبقات متداخلة من الوجدان والانفعالات والآلام والآمال والأحلام.
أخيراً، لا يمكن ألّا تُرى غزّة في أعمال "فلسفة الجسد"، غزّة الخائفة القلقة الدائم شعورها بأنها مُهدَّدة، فمهما أغرقت هذه الأعمال في اللامكان واللازمان وفي البعد الكونيّ للجسد، إلا أنه لا يمكن فصلها عن سياقها الغزّي والفلسطينيّ الأوسع، الموسومِ بالقتل اليوميّ وباستباحة الجسد وبالحرب وبالتهديد الدائم بها. يقول محمد "حتى وأنا أرسم، أشعر طوال الوقت بالتهديد".
أعمال محمد العمراني، وإن كانت سرديّةً بصريّةً للروحِ القلقةِ الباحثةِ عن أصل وجودها ومُبتغاه، إلا إنها أيضاً تمثيلٌ للوعيِ الغزّيّ والفلسطينيّ المتجسّد جسداً محاصراً، ومستباحاً لاغتيال يوميّ؛ هي الجسد الفلسطينيّ في مأساته، والكونيّ في أزمته الوجوديّة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.