}

مهرجان "كان" السينمائي الـ72: حضور فلسطيني يتحدّى الغرب

أشرف الحساني 23 مايو 2019
سينما مهرجان "كان" السينمائي الـ72: حضور فلسطيني يتحدّى الغرب
المخرج الفلسطيني إيليا سليمان في مهرجان كان (18/5/2019/Getty)
ككل سنة، تعودنا أن يباغت بصيرتنا وقلوبنا بسحر ودهشة، المهرجان الدولي للسينما "كان" بالمدينة الفرنسية التي تحمل اسم المهرجان، والمطلة على البحر الأبيض المتوسط، الواقعة بجنوب فرنسا قرب مدينة نيس في منطقة جبال الألب، بما تتميز به هذه المدينة من تراث معماري خاص شاهد على أزمنة جريحة مرت بها المدينة سياسيا واجتماعيا منذ العصر الوسيط إلى اليوم، ويتجلى ذلك في مجموعة القصور القديمة المختلفة والباذخة البناء، التي تزخر بها المدينة، وأهمها قصر "كارلتون" الذي بني قديماً من طرف هنري رول، ثم قصر المهرجانات، الذي يحتضن كل سنة المهرجان السينمائي، فضلاً عن العديد من المطاعم السياحية الباذخة الكثيرة المتراصة على جنباتها، والتي يقصدها في الغالب الأثرياء.
لهذا السبب تعد المدينة اليوم قبلة العشاق من مختلف دول العالم، نظراً للدور الكبير الذي أصبحت تلعبه داخل فرنسا ككل، ويعود ذلك إلى الارتباط الوثيق بالمهرجان، الذي ينظم كل سنة داخلها، ويستقبل أعداداً هائلة من عشاق الفن السابع لمتابعة هذا الحدث الاستثنائي، الذي تشهده المدينة كل سنة من هذا الشهر، منذ أكثر من سبعين سنة خلت. وبفعل هذا العرس السينمائي باتت مدينة كان (Cannes) الفرنسية ليست ككل المدن الأخرى كباريس ونانسي وبوردو ونيس، لما أصبح لها من بعد سياحي كبير ومن خصوصية جمالية وفنية أساسية داخل الأجندات السياسية الفرنسية بسبب المهرجان، الذي يحتفي بالمنتوج السينمائي من مختلف دول العالم والبحر الأبيض المتوسط، يضمن للمدينة اليوم بعداً ثقافياً وفنياً، كما يوطد علاقات التجاور والتبادل الثقافي بين مختلف دول العالم من أجل تبادل الخبرات والآراء حول واقع السينما والتعريف بآخر الأفلام العالمية وفق أشكال مختلفة من النتاجات الفنية.

"كان": عرس سينمائي متجدد
يحتل مهرجان "كان" السينمائي اليوم مكانة متميزة ضمن قائمة أشهر المهرجانات العالمية ذيوعاً وانتشاراً بشكل لا يكاد يربك المرء في تمييزه عن باقي المهرجانات الترفيهية الرتيبة الأخرى، التي باتت اليوم مجرد كرنفالات احتفالية لا علاقة لها بجوهر الفعل السينمائي، وهو الأمر الذي ضمن له ديمومته التنظيمية والفنية، ليظل متربعاً على عرش المهرجانات العالمية على مدى سبعين سنة، تكتظ من خلاله المدينة من حيث عدد الزائرين المتفاقمين سنوياً خاصة في شهر مايو من كل سنة، وتصبح الفنادق والمطاعم والمقاهي غاصة بالناس على اختلاف سحناتهم والقادمين من مختلف أقطار دول العالم. ومنذ سنة 1939 سيبرز المهرجان ليشكل الحدث الأبهى في العالم خلال دورته الأولى، ونظراً للحرب العالمية الثانية التي شهدها العالم سنة 1939 سيتوقف المهرجان في يومه الثالث ويتم تأجيله لسنوات بسبب احتلال الألمان لبعض الأراضي الفرنسية خلال هذه الفترة كما هو معروف تاريخيا، ما جعل المهرجان يظل معلقا، حتى انتهت الحرب العالمية الثانية سنة 1945 ويتم إعادة فتحه بشكل رسمي سنة 1946 رغم بعض التوقفات التي طالته بسبب ضعف ميزانية الدعم المخصصة له، خاصة في سنوات 1948 و1950 و1968. منذ ذلك الحين ظل مهرجان "كان" علامة بارزة في تاريخ السينما خلال القرن العشرين، ما جعله ملتقى للفكر السينمائي العالمي وتبادل الخبرات الفنية، بين مختلف المخرجين والممثلين والنقاد من مختلف دول العالم مع حرصه الشديد على دعم المخرجين الجدد وتقديم المساعدة الترويجية لأفلامهم وعرضها وإشراكها وإقحامها أحياناً

داخل جوائز متنوعة مرموقة يقدمها المهرجان كل سنة وأهمها جائزة "السعفة الذهبية" التي تمنحها إدارة المهرجان المكونة من نخبة مخرجين وممثلين من العالم لأفضل فيلم في الدورة؛ هذا إضافة إلى العديد من الفعاليات السينمائية، التي يحرص المهرجان على تنظيمها كل سنة ومنها: أسبوع النقاد، الأفلام القصيرة، نصف شهر المخرجين وغيرها.

أفلام جديدة ومتنوعة
الدورة الأخيرة- 72- تمتد ما بين 14 و25 من مايو الجاري، ويترأسها المخرج المكسيكي أليخاندرو غونزاليس إيناريتو رفقة ممثلين ومخرجين آخرين من العالم كالممثلة الأميركية آل فانينغ، وماي مونا ندباي من بوركينا فاسو، والمخرجة الإيطالية أليس رورواسر، ثم كاتبة السيناريو الأميركية كيلي ريشاردت، والكاتب الفرنسي أنكي بلال، والمخرج اليوناني يورغوس لانتيموس، والسيناريست الفرنسي روبن كامبيلو، وأخيرا المخرج البولندي بافيل باوليكوسكي.
كما تجدر الإشارة إلى أن المهرجان افتتح بفيلم "الموتى الذين لا يموتون" للمخرج الأميركي جيم جارموش، الذي يتناول قصة موتى قاموا من قبورهم نتيجة هزة أصابت الكرة الأرضية، لتبدأ عملية نهش لحم البشر بإحدى المدن التي هاجموها. وقد لعب أدوار الفيلم كل من بيل موراي، تيلدا سوينتن، ستيف بوسيمي، آدم درايفر وغيرهم من المشاهير الآخرين. وترأست المخرجة اللبنانية نادين لبكي فقرة "نظرة ما"، وترأس كلير دينيس فقرة "الأفلام القصيرة".
وضمت قائمة المسابقة الرسمية 19 فيلماً من دول مختلفة بما فيها بعض الدول العربية، خاصة فلسطين، التي يمثلها فيلم "لا بد أن تكون هي الجنة" لإيليا سليمان، هذا إضافة إلى أفلام عربية أخرى مثل "الوحوش" للمخرج المغربي أكسيل، الذي حاز على عدة جوائز في مهرجان آسني نورغ الدولي للفيلم في دورته 12، ثم "أغنية البجع" للمخرج يزيد القادري، و"من أجل سما" للمخرجة السورية وعد الخطيب، و"بابيشا" للمخرجة الجزائرية مونيا بيدور، و"زوجة أخي" للمخرجة التونسية مونيا شكري، و"آدم" للمخرجة المغربية مريم التوزاني،

و"فخ" للمخرجة المصرية ندى رياض وغيرها من الأفلام العربية، الموزعة بين الأفلام القصيرة والأفلام الطويلة لأسبوع النقاد ونظرة ما ثم المسابقة الرسمية، التي يمثلها فيلم إيليا سليمان. وهو ما يؤكد نضج السينما العربية في السنوات القليلة الماضية، إذ استطاعت أن تفرض نفسها بقوة، وأن تكون إحدى نقاط الاستقطاب داخل المهرجانات العالمية مثل كان وبرلين وفينيسيا، دون أن ننسى السينما التونسية خلال سنة 2016 وما حققته من انتصارات مذهلة عبر فوزها بـ 4 جوائز في سنة واحدة داخل مهرجانات عالمية، فضلا عن الترشيحات داخل القائمة القصيرة لجائزة الأوسكار.

حضور فلسطيني متألق
ما أثار انتباهي حقيقة داخل المهرجان هو ترشيح فيلم المخرج الفلسطيني إيليا سليمان ضمن المسابقة الرسمية لمهرجان "كان"، وهي المرة الثالثة له بعد فيلميه "يد إلهية" و"الزمن الباقي"، والذي يضمر في طياته أبعادا فكرية وفنية، كما يطرح على المهتمين بالشأن السينمائي العربي جملة من التساؤلات المرتبطة بالفيلموغرافيا العربية داخل المهرجانات العالمية من خلال أمرين: الأول، يتمثل في واقع السينما العربية والاعتراف بمنجزها الفني والجمالي وما شهدته مؤخرا من طفرة فنية ليس فقط على مستواها التقني فقط، بل أيضا من ناحية مضامينها الفكرية والسياسية الجريئة، خاصة السينما التونسية والعراقية واللبنانية والسورية، بما حققته هذه الأخيرة مؤخرا من أفلام قوية على الرغم من البعد التوثيقي، الذي ظل يميز بعض متون أفلامها الطويلة والقصيرة معا، لكنها استطاعت أن تنقل لنا بلغة سينمائية مذهلة دقيقة تفاصيل ما يجري في الواقع السوري اليوم، من أعين مخرجين جدد، لم نسمع بهم من قبل، لكنهم أثبتوا جدارتهم وقوتهم العملية في تخييل الواقع السوري وفق قالب سينمائي متميز يحاكي الواقع دون أن ينصاع ويذوب فيه بشكل كلي، مقارنة مع المشهد السينمائي المغربي، فعلى الرغم من التتويجات الفنية والجوائز الكثيرة، التي حصلت عليها بعض الأفلام المغربية داخل مهرجانات ومحافل دولية (كمال كمال، نبيل عيوش، هشام العسري، فوزي بنسعيدي)، ما تزال الصناعة السينمائية بالمغرب ذات مجهود فردي يرهق المخرج ويجعله دوما يفكر في تقشف المشهد، هذا فضلا عن الدعم الوطني، الذي باتت تتحكم فيه بعض لوبيات الإنتاج، والتي تحتكم في طرائق تقييمها للمتن الفيلمي إلى منطق السوق ومعايير العرض والطلب والتهريج والتصفيق المجاني، فضلا عن الدعم الخارجي، الذي تمنحه بعض المؤسسات الفنية الغربية، والمتماشي هو الآخر مع رؤية وأيديولوجية المؤسسة وثقافة ترفيه الحشود الهلامية حسب المفهوم الذي جاءت به مدرسة فرانكفورت.
أما الأمر الثاني فيتعلق بجرح تاريخي، متمثل في أفول سلطة الغرب ودحض الأطروحة القائمة حول مركزية الغرب والاستعلاء والتصغير، الذي يقابل به المنجز الإبداعي العربي، فأن يتم ترشيح فيلم من بلد عربي، خاصة فلسطين، وداخل مسابقة رسمية بمهرجان سينمائي عريق مثل "كان" أمر أقرب إلى الحلم منه إلى الممكن، إذ أن المخرج الفلسطيني المتميز إيليا سليمان سبق أن ترشح مرتين لجائزة "السعفة الذهبية"، الأولى سنة 2002 بفيلمه "يد إلهية" فحاز على جائزة لجنة التحكيم، والثانية سنة 2009 عن فيلم "الزمن الباقي". وقد استطاع الفيلم في نظري أن يوسع حدود الرؤية وأن يكسر هذه العلاقة القائمة بين الغرب والشرق، وبين المركز والهامش وغيرهما من الثنائيات، التي عمد بعض المستشرقين إلى تكريسها في بعض الأدبيات التاريخية خلال مرحلة التحديث، منذ القرن التاسع عشر إلى اليوم.
إن فلسطين التي ستظل النجمة الحاضرة في الوعي واللاوعي العربي بتاريخها الجريح، تمثل اليوم خزانا فنيا وجماليا ساحرا لا ينضب، بل ورمزا للكيان العربي ورمزا للصلابة والقوة على جميع الأصعدة. فلسطين الحاضرة دائما وأبدا في مخيالنا الجمعي، تفرحنا وتعلمنا دوما دروسا في التضحية، رغم القهر والحصار والغبن والألم والدم المستشري في حدائقها، ما تزال تئن وتنضح بالحياة، مقاومة كل أشكال الظلم والفساد والتطبيع والاستبداد التاريخي، الذي ظلت تعاني منه، تقف اليوم من خلال أبنائها من فنانين ومفكرين ومخرجين وشعراء كبار صامدة في وجه خراب العالم واستبداد الأنظمة السياسية وقمعيتها وعنف التاريخ، لتقول لنا: أنا امرأة من أقصى الريح.. عصية على المحو والنسيان.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.