}

"الألوان الانطباعية" لأوَّل مرة في بلد عربي وأفريقي

نجيب مبارك 15 مايو 2019
معرض "الألوان الانطباعية"، المقام حالياً في الرباط، هو أوَّلُ معرض يجلب روائع متحف أورساي الشهير إلى القارة الأفريقية، وأوّلُ معرض "انطباعيّ" في العالمين العربي والإسلامي، وأوّل معرض يعبر ضفّة المتوسط من الشمال إلى الجنوب، لهذا فهو بالتأكيد معرض رائد وغير مسبوق. وقد جاء ثمرة تعاون بين المؤسسة الوطنية للمتاحف بالمغرب ومتحف أورساي الفرنسي الذي ساهم بمعروضات فنّية استثنائية، من خلال متتالية من القاعات تعالج كل واحدة منها لوناً معيناً من ألوان الانطباعيين المتوهّجة: رونوار، ماني، مونيه، سيزان، سيسلي، بيسارو، فانتان- لاتور، ديلاكروا، فان غوغ... إلخ.

اكتشاف روائع متحف أورساي
يضمّ معرض "الألوان الانطباعية"، الذي يحتضنه متحف محمد السادس للفن الحديث والمعاصر بالرباط في الفترة ما بين 9 أبريل/نيسان و31 أغسطس/آب 2019، أروعَ اللّوحات الفنية لمتحف أورساي الفرنسي. وهو فرصة فريدة بالنسبة للزوّار المغاربة والأجانب للاطلاع على أكبر مجموعة لأعمال الرسّامين الانطباعيّين في العالم، والغوص في إحدى المراحل الزاهرة في تاريخ الفن، فترة شاهدة على ثورة فنّية جريئة، قلبت أسسَ التشكيل الأكاديمي الغربي رأساً على عقب ومهّدت السبيل أمام الحداثة من دون أن تقطع صلتها بالتقاليد. وهو أيضاً معرض يطمح إلى مقاربة موضوع لا يحظى إلّا نادراً بالدّرس لدى المهتمّين بـ"الحركة الانطباعية"، هو موضوع اللّون، ذلك أنّ مرحلة الانطباعيين قد صادفت فعلاً لحظةَ تطوّر كبير في علم البصريات، وازدهارٍ في علم الكيمياء الّذي ابتكر ألواناً جديدة، فتَحت للفنّانين مجالاً لتمثُّلٍ غير مسبوق. وقد نهل مونيه ورونوار وبيسارو وكايبوت وغيرهم

من هذه التقنيات الّتي منحتهم أساليبَ جديدة لتوصيف العالم. وينبني الخطابُ في هذا المعرض على عشرات الأعمال الفنّية، حتّى وإن أريد له أن يكون مقتضباً، وهو يستعيد مسار رسّامين انطباعيّين اختاروا ألواناً منفتحة، ويذكّرنا بالدّور الّذي اضطلعوا به في سياق تاريخ معيّن من الحداثة، احتلّ فيه تحرير اللوّن مكانة مركزية. لهذا، فالمعرض، بوصفه تجربة جمالية حقيقية، دعوة إلى الغوص في الألوان، من الأسود إلى الورديّ، مروراً بالأبيض والأخضر والأزرق.
في الجزء الأخير من المعرض، ينعتق اللّون من عقال الواقع، وقد بلغ أوج كثافته، ليصير موجوداً لذاته. كما تسمح فضاءات التأمّل الكثيرة المتناثرة على امتداد المعرض، خصوصاً أنها تتضمّن مجموعة لم يسبق عرضها من رسوم أوجين بودان، بتوفير مفاتيحَ فهمِ الانطباعية وإبراز ملامح الثّورة الّتي مثَّلها الانتقال من الرّسم في المحترَف إلى الرّسم في الهواء الطلق. فمن خلال باقة منتقاة من الروائع الفنية، الّتي تنتمي إلى مجموعات متحف أورساي، يُبرز هذا المعرض كيف أعاد الانطباعيون تعريف فنّ الرسم بفضل تحكّم خاصّ في الألوان، كان ثمرة للتجريب في الهواء الطلق، وثمرة استيعاب لأعمال رواد التّقليد مثل ديلاكروا، واستلهام لبعض النظريات العلمية التي عاصروها.

بحثاً عن اللّوحة الواضحة
بعد منتصف القرن التاسع عشر، لم يعد الفنانون مقتنعين بنقل رسومات المناظر الطبيعية من أجل إعادة تشكيلها في الورشة. لقد صاروا يخرجون للرسم في الهواء الطلق من أجل الإمساك باللحظة والضوء. وهم كانوا في ذلك يتبعون مثال بعض رسّامي المناظر الطبيعية الإنكليز، على غرار يونفكينغ، أو رسّام النزعة البحرية الفرنسية يوغين بودان، في اشتغالهما "على الموتيف" حيث يوجد، أي في موقعه الأصلي خارج الورشة. لكن ما ساهم أكثر في انتشار الرسم في الهواء الطلق هو استخدام الملوَّن الكلاسيكي، الإهليجي الشكل والمصنوع من خشب صلب وخفيف، والمغطَّى بطبقة من الزيت تمنع امتصاص الألوان. كما ظهرت في تلك الفترة حوامل اللوحة، ثلاثية الأرجل والقابلة للطيّ، التي يسهل نقلها إلى الطبيعة خارج الورشة. وقد صُنعت نماذجها لتكون مرفقة بصندوق يسمح بنقل جميع معدات الصباغة. ومع اختراع وصناعة أنبوب الصباغة المَرِن عام 1841، وتسويقه في فرنسا من طرف متجر لوفران

ابتداء من 1859، امتلك الرسّامون خلطات صباغة جاهزة للاستخدام، ما سهّل عليهم الصباغة في الهواء الطلق.
لقد حاول جيل جديد من الفنانين، الّذين ظهروا على الساحة التشكيلية الباريسية لأوّل مرّة في ستينيات القرن التاسع عشر، التخلّص من المواضعات ومن العمل في الورشة مفضّلين ممارسة فنّ المنظر الطبيعي باللّجوء عمداً إلى ملوَّن أكثر إشراقاً، ورسم اللوحة انطلاقاً من موضوع ما. وقاد الميلُ إلى اعتماد الضوء الانطباعيينَ إلى اختيار تصاوير جديدة لموضوعاتهم. واستبدلت الشجيرات المتشابكة الظليلة بحدائق مشمسة جدّاً ومناظر طبيعية ونهرية وشاطئية، أو حتى بمناظر حضرية حديثة. كما صارت الشمس الساطعة، التي يمكنها تقليص حيز الظلّ، مطلوبة بشكل خاصّ، تماماً كما السّماوات الصّحوة التي تجعل الطبيعة تسبح في ضوء ناعمٍ ومتساوٍ. ولهذا، عندما سئِم هؤلاء الفنانون من رؤية لوحاتهم تُرفض من قبل لجنة تحكيم المعرض الرسمي، نظّموا أوّل معرضٍ جماعي لهم عام 1874. وبهذه المناسبة، أطلق عليهم ناقدٌ فنّي وصفاً ساخراً هو "الانطباعيين"، وذلك بغرض التهكم عليهم وتبخيس قيمة أعمالهم، لكن هذا الوصف سرعان ما صار عنوان مرحلة مشرقة من مراحل الفنّ الحديث.

الألوان: من الظلّ إلى الضوء
يلعب اللّون الأسود وطيف التراب دوراً هامّاً في الرسم الفرنسي خلال خمسينيات وستينيات القرن 19، ذلك لأنّ إقبال أساتذة الرسم الإسباني والهولندي عليهما في القرن السابع عشر دفع الرسامين الشباب إلى اختصار ملوَّنهم إلى بضع تناغمات بين الأسود والأبيض والرمادي والبنّي والأحمر. يقول شارل بودلير: "يعرف روّادُ الرّسم صناعةَ اللّون بمعطف أسود وربطة عنق بيضاء وخلفيّة رمادية". وقد قام إدوار ماني، الّذي كان شديد الإعجاب ببلاسكيز وغُويَا، بثورة في الفنّ التشكيلي لعصره مستبدلاً النموذج الأكاديمي بتقابلاتٍ عنيفة بين الظّلال والأضواء. ولم يعد الأسود، المنتشر في خطوط سميكة، غياباً للّونِ ولكن مادة ملوّنة حقيقية في حدّ ذاتها، مادة تعيد إرسال الضوء، وتجعل كميل بيسارو يقول: "إنّ ماني أقوى منّا جميعاً، فقد خلَقَ النّورَ من اللّون الأسود".
من جهة أخرى، كان تمثيل الثلوج يحظى بشعبية خاصّة لدى الانطباعيين في ستينيات وسبعينيات القرن التاسع عشر. واعتُبرت ترجمةُ الرسّام للفروق الدقيقة في منظر طبيعي يغطيه وشاح أبيض موحّد، مواجهةً لتحدّي نقلِ ظلالِ الضوء اللَّانهائية على مادّة أحادية اللّون، ما دام من الضروري لعجينة الصباغة أن تجعلها خفيفة. كما أنّ بياض الثّلج كان يتيح للفنانين، الّذين استندوا إلى نظريات علمية معينة، دعامةً مثالية في تجاربهم على الظّلال الملوّنة والألوان المكمّلة. وبالفعل، منذ نهاية القرن الثامن عشر، أبرز منظّرو اللّون أن تلوين الظّلال وعلاقات التقابل بين ما يسمّى الألوان الأوّلية والألوان الثانويّة: الأصفر يقابل الأرجواني، والأحمر يقابل الأخضر، والأزرق يقابل البرتقالي، كما أنّ التعارضات تبقى منسجمة حينما يتبادل اللّونان الإشعاع، هما المرتبطان ببعضهما البعض. وهكذا، نجد أنّ ظلال المناظر الطبيعية لمونيه أو سيسلي تميل لأن تكون زرقاء، عندما تشعّ الشمس بضوء أصفر- برتقالي.
لقد رسم جميع الفنّانين الانطباعيين المنظرَ الطبيعيّ على نطاق واسع. وقد تمسّك بهذا النّوع كلٌّ من مونيه ورونوار وسيسلي عندما رسموا ضفاف نهر السّين من أرجونتاي إلى بوجيفال، حيث كانت تجدّف الزوارق الباريسية في اتجاه الغرب. كما رسم بيسارو وسيزان أيضاً المنظر

الطبيعي للشمال الغربي، عندما كانا يتجوّلان بنواحي بونتوار ويرسمان الريف والفلاحين. لذلك، إذا كانت ألوانهما الخضراء والزرقاء قد ظلّت مهيمِنة، كما كانت فعلاً عند الأجيال السابقة، فلأنّها تتمايز عن ألوان أخرى عديدة. لقد واجه الانطباعيون أيضاً تحدّي اختيارهم لموضوعات صعبة: السّماوات المتغيرّة والمياه الجارية. وفي شغفهم بالألوان غير الممزوجة، الألوان الأكثر إشراقاً، أمكن للانطباعيين اللّجوء إلى صباغات جديدة ظهرت وتطوّرت بفضل تقدّم الكيمياء. فعلى سبيل المثال، استُبدلت الخلطات التقليدية الباهتة للألوان الزرقاء والصفراء وطيف التراب وعوّضتها تدريجياً أصباغٌ اصطناعية خضراء لامعة (أخضر فيرونيز، أخضر زمرّدي).

من يوجين ديلاكروا إلى الانطباعية الجديدة
انبثق جيل من الانطباعييّن الجدد، مثل جورج سورا وبول سينياك، خلال آخرِ معرض للمجموعة الانطباعية عام 1886، وكانت رغبة هؤلاء تتّجه نحو تبسيط التجارب الملونة للأساتذة، من يوجين ديلاكروا إلى مونيه، لهذا تصوّروا تقنية مستوحاة من النظريات العلمية لميشيل يوجين شيفرول أو أوغدن رود، وربطوا هذا المبدأ بالمزج البصري. فبالنسبة إليهم، لا يتمّ الحصول على اللّون البنفسجي بخلط الأصباغ الحمراء والزرقاء، ولكن بمجاورة اللّمسات الحمراء والزرقاء الّتي تشكّل اللّون البنفسجي لدى العين النّاظرة. ويجب أن نتذكر أن ديلاكروا، قبل الانطباعيين، كان قد أعطى اللّون المكانة الأولى في لوحاته وأظهر جرأة كبيرة في استخدام الأطياف الصريحة. أمّا بول سينياك، وهو منظّر مجموعة الانطباعيين الجدد، فقد جعل من نفسه عمدة لهذه الثورة الحديثة في الألوان من خلال نصّه التأسيسي "من يوجين ديلاكروا إلى الانطباعية الجديدة"، المنشور سنة 1898 في المجلة البيضاء.
في السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وهي مرحلة شديدة الفوران نظرياً وفنياً، ظهرت حركات جديدة (النبي، الرمزية، التوحشية) لعب اللّون دوراً رئيساً لديها، إذ كان هو المعبّر والكاشف عن الأحاسيس. وبهذا المعنى، تناولت الأعمال الانطباعية اللّون من زاوية متجدّدة جزئيّاً. ففي لوحات مونيه المتأخّرة، لم يعد يراهن على الترابط المنسجم وعلى استخدام تشكيلة جديدة من أطياف اللّون، خصوصاً الورديّ منها. أمّا رونوار، فقد غيَّر هو أيضاً ملوَّنه ومكان رؤيته فجعلها تنعطف نحو أساتذته من رسّامي اللّوفر، واشتغل على ترجمة تألّق وشفافية الأجساد الأنثوية بألوان ورديّة زاهية وحمراء صريحة. كما قام سيزان أيضاً بتطوير نظام للتّلوين يجعل الرسم "انسجاماً متوازياً مع الطبيعة"، أمام المناظر الطبيعية لمسقط رأسه في منطقة بروفانس. وأخيراً، لا يمكن أن ننسى أنّه في هذه المنطقة، منطقة بروفانس بالذات، خصوصاً في آرل، سيطلق فانسن فان غوغ القوّة التعبيرية والرمزية للألوان، ويحرّرها بشكلٍ نهائي، وهو الأمر الذي سيفتح الباب على مصراعيه أمام أعظم تجارب التّشكيل في القرن العشرين.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.