}

محمد الرواس والبحث عن "العالم الجديد"

أسعد عرابي 3 أبريل 2019
تشكيل محمد الرواس والبحث عن "العالم الجديد"
(محمد الرواس)
أن يقيم محمد الرواس معرضاً لتصاويره الأخيرة، وخاصة في الصالة الأشد تألقاً في بيروت (غاليري صالح بركات)، لا يمكن اعتباره حدثاً تشكيلياً عابراً، بل هو بالأحرى مركزي في العاصمة الثقافية اللبنانية. إذا كان هذا التحالف النخبوي بين الاسمين ليس جديداً، يبدو اليوم أشد إثارة بصرية وتخيلية بدليل شيوع أصدائه، مستمراً ما بين الخامس من فبراير/ شباط، وأواخر أبريل/ نيسان عام 2019م.
والفنان من مواليد بيروت 1951م، تمثّل هذه المدينة مرآة روحه. عايش أحزان حربها الأهلية، وارتحل عنها مرّات عديدة دراسية. فهو مثل أي لبناني محكوم بقدر الأسفار: ما بين المتوسط والأطلسي مروراً بالمانش. ما أن ختم دراسته في معهد فنون مدينته حتى هيأ له تفوقه منحةً لدراسات عليا في معهد فني معروف في لندن. هو ما رسّخ ذائقته الأنكلوساكسونية (مدرس في الجامعة الأميركية إلى جانب اللبنانية). هو ما قاده إلى اكتشافه وتقاربه من مختبرات "مدرسة نيويورك": التعبيرية – التجريدية التي تنامت بعد الحرب العالمية الثانية، وما خلفت من أصداء البوب آرت وسواها.
تعانق التظاهرة أكثر من عشرين لوحة وبقياس يتجاوز حدود شبه مربعه المألوف (130 - 120)سم، ترصع الباقة منحوتة واحدة وأخرى هي الأبعد غوراً في تاريخ المجموعة: تجريدية طباعية منجزة مع اندلاع شرارة الحرب الأهلية عام 1975م. أعيدت مؤخراً بتأويل توأمي. هو إذن فنان تعددي: مصور وحفار ونحات. يرفع الحدود بين أنواع الفنون كما هو
فرع "الباوهاوس" في واشنطن وتأثّره بتبشيرها الهندسي، هو الذي أسّسه لسلي موهولي ناجي وألبير، الهاربان منذ عام 1932م من نير النازية التي أغلقت المدرسة، وأحرقت لوحات مدرسيها التجريدية (من أمثال كاندينسكي وبول كلي وشلايمر وايتين وموندريان وغيرهم) تحت تهمة ممارسة "الفن الفاسد". خاصة وأن أبرز هؤلاء وهما بول كلي وناجي يدينان باليهودية. لعلّه من الجدير بالذكر أن طباعاته وتبصيماتها الصحافية مرت تحت مكبس أتون الحرب اللبنانية وتوثيقات فظائعها اليومية التي خلفت في رهافته الحسية جرحاً لم يندمل حتى اليوم. نعثر في محفوراته السبعينية على آثار ثقوب الرصاص في عمق الورق.

السفر في نسبية الفضاء التشكيلي
إن التذوق المباشر لمختبر الرواس أيسر من الكتابة عنه. وذلك بسبب تداخل مكوناته وتوليفاته ومراجعه المركبة. ناهيك عن تشابك استعاراته وخاصة الطرق المعقدة في استحواذه الشرعي لمناهل صناعة اللوحة الأميركية ما بين أربعينات نهاية الحرب العالمية، وثمانينات ما بعد الحداثة، هي الفترة التي انتزعت فيها نيويورك مونوبولية المعاصرة من باريس، ثم التي أفضت إلى إعادة التحالف والتراشح في التأثير إبان فترة تبادل العروض ما بين "الواقعية الجديدة" الفرنسية (بقيادة الناقد بيير ريستاني)، والبوب آرت الأميركي. لدرجة أن بعض نجوم ورواد الطرف الأول تلبسوا أساليب الطرف الثاني: النحات سيزار أصبح من جماعة البوب وروشنبرغ (الأشد تأثيراً على الرواس ورأس الدادئية المحدثة) تحول إلى حساسية الواقعية الجديدة. هو ما يعني أن تقريبنا للمجهر التحليلي لتوليفات الرواس تتداخل فيها تأثيرات التعبيرية التجريدية + البوب آرت + المفاهيمية + الهبيرياليزم، من جهة ثم بعض اتجاهات الواقعية الجديدة لتنوعها، فشمولية المصالحة تتراوح بين ضفتي المحيط الأطلسي انطلاقا من المتوسطية اللبنانية.
لا شك بأن ترسيخ أفضلية استثمار الوثيقة الفوتوغرافية الحدثيّة يتحالف مع إنشاءات روشنبرغ المجهزة والتي استعارت مادتها بالتدريج من ملصقات الصور اليومية الطباعية، ثم تحولت إلى مساحات ورقية معلقة يشارك الجمهور في اختيارات مواقع صورها وملصقات طباعاتها المرصعة بالكتابات (المانشيتات المكبرة أو المصغرة). تكشف شبه التجريدية اليتيمة الأبعد تاريخياً في المعرض علاقته المشبوبة المبكرة بمختبرات مدرسة نيويورك (ابتداءً من التعبيرية التجريدية)، فالاستعارة الأسلوبية هنا من عضويات أرشيل غوركي (المعلم الأرمني والمبادر الأول في هذه المدرسة). حمل غوركي رغم تفرّد "موتيفاته" الحلمية موروث التجريدي

السوريالي الباريسي المهاجر (مع مارسيل دوشامب) إلى نيويورك وهو أندريه ماسون. تتخلّق أشكال غوركي الخصوباتيّة من مخالبها الجنسية. تعاني من حضور دلالتها وغيابها تحت وابل من التعديلات والصراعات بين الخط وتداعيات الاشتقاقات اللونية. يستعير الرواس هذا التفاني العدمي الحدسي. هو الذي يمثّل لقاح الذاكرة الجنسية للأجناس العضوية – النباتية. معرجاً على السلوك المأزوم لفرشاة وليام دوكوونينع (وبالذات من مرحلة تدمير هيئة نسائه ومحق أشباحها المتفتتة).
إذا راجعنا طباعاته (الحجرية أو السيريغرافية) السابقة لهذا التاريخ، عثرنا على استعارات الرواس من لزنشتاين (البوب آرت) سواء في تكبيره لنقاط "الأوفست" داخل رسوم المسلسلات (يستخدم الرواس أبطال الرسام السويسري هيرجي خاصة مسلسل تان تان الشهير). يصل الرواس إلى أبعد من ذلك بصياغة الجماهير الشبحية من النقاط. مستحضراً النزعة المتفرعة عن الانطباعية التي نظر لها سينياك وهي التجزيئية أو النقطية بقطبيها سورا وغروس.
نصل في توازي هذه النكهة الطباعية إلى التأثر النسبي بسيريغرافي آندي وارهول (البوب آرت المتأخر). أما استبدال الألوان والفرشاة بالوثائق الفوتوغرافية فيرجع إلى تأثير روشنبرغ من جهة وتأثير ملصقات (كولاج) جاك فيللوغلي بما فيها الكتابات الاستهلاكية مع صور الصحافة والإعلانات الملصقة التي كان يقتلعها من جدران أنفاق المترو (الواقعية الجديدة). ناهيك عن آلية النسخ الأكاديمي، ابتداءً من صور الفوتو في ميدان ما يسمّى "بالهيبرياليزم". وارهول نفسه كان يستخدم بوزيتيف ونيكاتيف ألوان بورتريه الفوتو في الشاشة الحرير أو مارسيال رايس وغيرهم.
تغلب على انتقائية الرواس من هذه المختبرات صفة النخبوية التي تعاف الاستهلاك. وتسمو باتجاه التجوال النبيل في أرشيف ذاكرة الفن العالمي. يستحضر على سبيل المثال وليس الحصر أمثال ميكيل آنج وفيرمير وفيلاسكس وبيكاسو. أما الأمثلة الشاذة على غرار بقية الاكسسوارات (كابتين تان تان أو بورتريه بيجين الرسام الصيني الضاحك أبداً) فتمثل مصادر الاستفزاز الصوري العبثي الذي ينتمي إلى حساسية "ما بعد الحداثة".
يتمّسك رغم ذلك (مثله مثل جورج بازلتز) بتقاليد لوحة الحامل، وبأنها لم تستنفد بعد، كواسطة ما قبل حداثية وما بعدها. ثم إن لوحته تكاد تسلّم بسطوة الوسائط الموازية، مثل فن الفيديو المنطلق من استقلال الوثيقة الفوتوغرافية على تنوعها عن قيم اللوحة. تتأكد حساسية الرواس ما بعد الحداثية من توازيها مع تقدم العلوم الفيزيائية الحديثة (ما بعد أينشتاين) في الولايات المتحدة، هي التي تحمل الهاجس الأميركي الشمولي بارتياد عالم جديد، حققه سابقاً الموسيقي الهنغاري "فورجاك" بتأسيس أول سيمفونية في الولايات المتحدة تحمل عنوان "العالم الجديد". إن توحّد فناننا مع هذا الهاجس الشمولي أوصل مناخات لوحاته إلى عالم جديد في التشكيل الصوري: "نسبية الزمان والمكان". فتعددية الزمان تبدو من مواطن استعاراته الدلالية التي تتجول في أرشيف تاريخ الفن بمعزل عن سياقه التاريخي. كما تكشف تعددية مصادر الرؤيا (المناظير) وتعدد مصادر الإضاءة وقلب النسب الواقعية من عملقة الأقزام إلى تقزيم العمالقة، كل هذا يضع إدراك المكان في ذهن المشاهد نسبياً تماماً كما يتخيله أينشتاين.
يفترض أن الإنسان إذا استيقظ ذات صباح، وكان كل ما حوله (بما فيه هو نفسه) قد كبر وتضخم "بنفس النسبة"، لا يلحظ فرقاً. إلا إذا حافظت بعض العناصر على قياسها السابق. ثم أثبت أن الزمن يتراجع كلما تجاوزت المركبة سرعة الضوء (أي 300 ألف كم في الثانية). مناخات الرواس معنيّة بهذه النسبية. ومعنيّة بتقدم الفيزياء الفرعية بفضل "السبرنيتيك"، فإذا كانت "فيزياء الشعث" أثمرت برامج عضوية مثل "الفراكتال" فطبوغرافية شخوصه مثلها

قابلة للحدوث على حافة نسبية الزمان – المكان. تكشف الاكسسوارات المتناقضة في القياس أبجدية ماكيت المنحوتة اليتيمة في المعرض. لا شك بأن أداء لوحته المركبة المتقدمة رياضياً وتقنياً (من كولاج صور يومية ومتحفية، إلى مونتاج سبرنيتيك، إلى إسقاط تكويناته المتماسكة حلميّاً، أو وفق قانون الشعث) على سطح اللوحة، ثم معالجتها بالأكريليك وما يحفظه من ضوء وتفرّج وسرعة جفاف ثم بالألوان الزيتية الكفيلة بصقل التفاصيل والظلال، ناهيك عن تقنيات التبصيم السابق في الطباعة إلخ، أقول إن امتداد هذه الرحلة التقنية في شدق التقدم المستقبلي تقود إلى شمولية عالمه الجديد دون تخليه عن خصائص هويته المحلية، هي نفس الخصائص التي حافظت عليها فرانكوفونية شفيق عبود، وأنكلوساكسونية صليبا الدويهي. هي شجاعة انفتاح المحترف المتوسطي اللبناني على الآخر (أوروبا وأميركا) بمعزل عن تجذر التعاويذ وتتريث الحروف. ذلك أن تاريخه الثقافي الفينيقي يذعن لقدر الترحال (مثل هوميروس) ومثل ابن بطوطة الذي يذكر في مقدمته ما ينطبق على عالم فناننا الجديد والمكتشف "أسعى جهدي ما استطعت ألا أسلك طريقاً كنت قد طرقته سابقاً". هو ما نسميه بفيروس النهضة الذي حملته لبنان إلى مصر وبثّته مصر إلى بلاد الشام، والذي يعتمد منذ محمد علي على الانفتاح دون حذر على الآخر دون الخوف من التخلي عن الخصائص الثقافية. ومحمد الرواس نموذج نهضوي يتجاوز قاسم أمين في دفاعه عن المرأة. حين يعتبرها رمزاً للسلام ويعتبر الذكر مسؤولاً عن آثام الحرب وجنون الاقتتال. فإذا ما عدنا من جديد إلى لوحاته وجدنا نساءه غانيات طازجات غضات بضات شهيات، مما يفضح ذائقته المتحررة في حب النساء مثل "الغداء على العشب" لمانيه الذي استعاد استثمار لوحته. نجده من جديد يتمسك بشبق تربيته النهضوية فيجعل من نسائه جاذبية تشكيلية مركزية طبعت بالطمأنينة والجمال والتوازن الجسدي والروحي حتى بدت الصالة وكأنها كأس معرفي متألق (يتلون بلون الخمر الذي يتراقص فيه)، وهكذا استعيدت حرية أبو نواس وبما يعطر لوحة مشروع عالمه الجديد النهضوي ما وراء الأطلسي. في كل لوحة جديدة تحط نساء مركبته الفضائية البيضاء على كوكب جديد بزمان نسبي. ثم يشق بعناصره المحدثة الزيتية – الأكريليك الفراغ الكوني بسرعة الضوء، متمسكاً بطوباوية الارتياد دون أدنى أمل بالعودة إلى الأرض كما هي حال مواطنيه من شعراء المهجر.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.