}

جورج ندرة والتجريد المستقبلي

أسعد عرابي 9 مارس 2019
تشكيل جورج ندرة والتجريد المستقبلي
(جورج ندرة)
جورج ندرة مثله مثل العديد من التشكيليين الطليعة (الشرق أوسطية)، في عاصمة النور. هم الذين يعانون من وعورة الحصول على ما تستحقه مواهبهم. فأزمة تسويق الفن المعاصر التي بدأت منذ ٢٠٠٨م نالت من هؤلاء قبل غيرهم، وذلك برغم أنه فرنسي الجنسية منذ عام ١٩٨٦م، ومن أصول لبنانية (مولود عام ١٩٥٩م)، ودرس في «بوزار» العاصمة ويعلّم في عدد من محترفات المحافظة، بل إن سيرته الفنية الثرية تكشف تعاظم الأزمة في السنوات الأخيرة متوقفاً منذ ٢٠٠٤ م عن أي نشاط. لكن الفنان يقاس بتاريخه، ومساهماته التراكمية، وليس فقط بحاضره الأسلوبي كما هو الحكم التعسفي لمديري صالات العرض. فصلاحية التسويق في عصر ما بعد العولمة تحتكر كتابة تاريخ ومستقبل الفن، حتى أصبحت سلطة بعضهم جزءاً من سلطة بلدهم الاقتصادية، كما هو شأن فناني الصين الاستهلاكيين الذين يمثلون النموذج المتقدم في الاجتياح الاقتصادي والإبداعي.
تتعدد معارض ندرة في أوروبا طولاً وعرضاً في صالات فرنسا وألمانيا وسويسرا وكندا وبلجيكا. ثم صالونات مايك ٢٠٠٠، والساغا، ومونروج، ودورات «الواقعية الجديدة». وحتى
لا أرهق القارئ غير المختص سأتوقف عند هذا الصالون الأخير المتخصص (منذ تأسيسه عام ١٩٤٥م) بـ«التجريد» رغم خداع اسمه: الواقعيات الجديدة، باعتبار أن التجريد في حينها أشد واقعية ووثوقية من أية إحالة واقعية أو أكاديمية أو وصفية أو رومانسية..
تسلم منذ السبعينيات إدارته ثلاثة معلمين كبار منحازون إلى الثقافة العربية – الفرانكفونية – المتوسطية، وهم الفرنسي الذي عاش لفترة في شمس الجزائر جاك نلار، التجريدي الغنائي الأول في مدرسة باريس والمدرس الأبرز في البوزار (المدرسة الوطنية العليا)، وانخرطت في محترفه ست سنوات واستمرت علاقتي الحميمة به بعد ذلك، خاصة في ديمومة الاشتراك في صالونه أي خلال الفترة التي تحولت فيها دلالة مدينتي المشرقية إلى تجريد موسيقي تجريبي. كما شجعت إدارة المعلم اللبناني عبود الجالية الفنية اللبنانية الشابة. وتعرفت عليهم بعد عقد من أمثال أسادور، وجورج ندرة، وهنبعل، وجعيتاني. أما أبرزهم، وهو إيلي بورجيله، فكان يغرّد خارج سربهم بطريقة إسبانية (قريبة من أنطوني تابييس)، وأما عون فكان يتحرك بين بيروت وباريس، ناهيك عن مساهمة بعض التجريديين السوريين في العرض على غرار المرحوم فرزات، وإبراهيم جلل. وهنا لا بد من التذكير أنه في الوقت الذي غلبت فيه التعبيرية (بتياراتها المتعددة) على المحترف السوري المعاصر، غلب على نهضوية المحترف اللبناني التجريد المتوسطي ابتداء من الرائدين عبود وصليبا الدويهي، يتوزع فنانوها بين لبنان وباريس كما هو تقاسم الشعر النهضوي بين لبنان والمهجر الأميركي. وإذا كانت هناك أسماء تعبيرية لامعة مثل غيراغوسيان وشرف وماضي فقد غلب على بعضها التجريد المتوسطي مثل الباشا وشمس وملاعب وغيرهم.
الاسم الثالث في إدارة الصالون هو الجزائري محمد أكسوح، الذي كان بالغ التأثير المتوسطي على فناني الجالية العربية عموماً في غنائيته بمشتقاتها الرمادية الرهيفة، والغرف المغلقة القريبة من حميمية بونار.

الخصائص الأسلوبية المركبة
قبل أزمة تسويق الفن المعاصر كانت أمور العرض والتسويق أقل وعورة ومشقة. وهو ما يفسر عدم استقرار فناننا في العثور على صالة دائمة منذ سنوات إقامته وحتى اليوم. فقد استحكمت أكثر فأكثر سيطرة اللوبيات على الصالات الكبرى والمزادات والصالونات بآليتها العولمية الهمجية المنحازة إلى الصناعة الاستهلاكية للنجوم وافتعال المودات العابرة والتيارات التجارية مع عدم الاكتراث بالمواهب بمستوى ندرة، لذلك فهو مثل أمثاله يعتمد اليوم على العرض المتواضع الشيوع بافتتاح محترفه المستقل للجمهور ضمن صيغة شائعة «الباب المفتوح» ولفترة محدودة كل موسم.
ترد صعوبة تذوق أعماله من تلغيز أصالتها المركبة. فقد صادف أن ابتدأ تجريده بانخراطه في موروث جماعة «المحمول والسطح» (Support et Surfaces) التي تأسست على أعقاب ثورة الطلاب عام ١٩٦٨م خاصة بنموذجها الفنان فيالا، وسرعان ما تحولت المفردات لديه إلى نظام شطرنجي متعامد، خلع بعدها إطارات اللوحة ليصور على سطوح خشبية متعددة الخامات والمواد بتقنية مختلطة متداعية، ثم تحولت بالتدريج إلى منحوتات إنشائية لا تنفك عن تقاليد لوحة الحامل. لكن تأكيده على البعد الثالث في التعبير التشكيلي رفع الحدود بين التصوير (بملصقاته التكعيبية) ونحت السطوح بشتى الملامس والخامات والأنسجة أو «المواديّة» النافرة ذات التضاريس العدمية (المستلهمة من فوترييه وأنطوني تابييس).
وهكذا بدأ الهيكل الفيزيائي يتهافت ضمن «دادائية» عبثية ما بعد حداثية. ثم ترسخت هذه المغامرة باستعارته من «التيار المفاهيمي» مشاركة الجمهور في صناعة مرايا صورته الذاتية (للجمهور)، وترسخت أكثر باستعارته من التيار الاختزالي «المينيمالي» (بنموذجه جود)

صناعة المنحوتات الخشبية المختزلة السطوح والمعلقة على العناصر المعمارية اليومية كما يعلق جود رفوفه وأدراجه الهندسية. وذلك قبل أن يبلغ في مغامرته تجليات أصيلة بالغة الخصوصية، وذلك بمضاعفة اللوحات أفقياً أو عمودياً حتى اللانهاية بمعنى ضمن امتداد قياسي غير حسابي، مستعيراً من جديد وبتأويل شخصي ذي حساسية متميزة بعضاً من تجارب تيار «البيئة» (l’Environnement)، هو الذي ابتدأ من البانوهات الدائرية لكلود مونيه في أواخر حياته، والتي تطوق الإنسان من كل جانب، ناهيك عن تأثير أحد تجارب برانكوسي النحتية التي تتمدد دون حدود عمودياً.
لا شك في أن هذا التحول المتمسّك بنفس الحساسية الحدسية أو الإيقاعية الموادية البكر يثير العديد من الأسئلة الوجودية التي تقود إلى أسئلة راهنية أخرى تتقارب من فلسفة هنري برغسون، والتخلق الدائم الروحي في الوجود. ألم أخبركم أن أصالته مركبة، وهي سر نقطة ضعفه التسويقية، هي التي تمثل طهارته البحثية الدؤوبة والتي تسعى لطرح الأسئلة الوجدانية - الوجودية - الوجدية أكثر من الإجابة عنها.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.