}

"أفراح القبّة": العبقريّة بين خيال السيناريست والروائيّ

أنس إبراهيم 29 مارس 2019
مسرح "أفراح القبّة": العبقريّة بين خيال السيناريست والروائيّ
من المسلسل التلفزيوني عن رواية "أفراح القبة" لنجيب محفوظ
كتب برنارد شو ذات مرّة أنّه في ما عدا الحاجة إلى "الصورة" فهو لا يفهم حاجة الممثّلين إلى المسرح بينما لديهم الحياة بأكملها ليمثّلوا فيها.
في "أفراح القبّة"، المسلسل التلفزيوني المقتبس عن رواية نجيب محفوظ "أفراح القبة"، من إخراج محمّد ياسين، وسيناريو وحوار نشوى زايد، ينتقل المسرح إلى الواقع، إلى البيت، بممثّليه الرئيسيين والثانويين، بشرّه وفُسقه، بعُهرهِ، بمجونه وبجنونه، بكلّ ما يحويه من نفاقٍ وخداع، صدق وكذب، شرٍّ وخير. كلُّ الأدوار الرئيسيّة في المسرح تغدو ثانويّة في الحياة، وكلُّ الأدوار الثانويّة فيه تغدو رئيسيّة في الحياة.
إسماعيل، بطلٌ في المسرحيّة و"كومبارس صامت في الحياة" وشخصيّة يُشارُ إلَيها بالاسم في الرواية. عمّ أحمد برجل، كومبارس متحرّك في الواقع وخادم لممثّلي المسرح، وشخصيّة تظهر وتختفي في الرواية. أم هاني مأوى الخمسينيّ المرهق، عاهرته بشكل أدق، ثانوية في الحياة وثانوية في المسرحيّة والرواية. فُتنة، حاجَةُ السيناريست إلى الخلق في مقابل خلق الروائيّ. كذلك عليّة، وأمّ تحيّة وأختها الأخرى، كلّهنّ يمثّلن حاجة السيناريست للخلق في مقابل خلق الروائيّ. هنّ امتدادُ الخيالُ، بوحيٍ من عبقريّة الرواية إلى عبقريّة السيناريست في إقامة مسرحٍ أكثر اتّساعاً من الرواية وفضاءاتها اللغويّة الضيّقة؛ نحو الصّورة، الألوان المبهرة، الموسيقى الساحرة التي ترافق المشاهد بداية ونهاية، نحو القاهرة في الستّينيات ومسرح فرقة الهلالي المسرحيّة وعشوائيّات القاهرة التي تحتملُ ما لا يحتملهُ العقل.
عشوائيّات الفجور، المجون، القهر، الفقر والعجز، أرضُ النّفاق وأرضُ الصّدق الفاجر، أرضٌ مخضّبة بالألوان، مخضّبة بالدماء المهدورة على لاشيء، أرضُ الأطفال المسروقين، مقطوعة أيديهم أو مشوّهة وجوههم لأنّ أدوارهم المسرحيّة/ الواقعيّة، أو مصائرهم المسرحيّة/ الواقعيّة
هي أن يكونوا موضوعاً للشحادة والاسترزاق. من تلك العشوائيّات، تولد شخصيّات المسلسل التي زادت عن شخصيّات الرواية، والتي مثّلت عمق شخصيّة تحيّة التي تدورُ حولها وعبرها ومنها كلٌّ أحداث الرواية والمسلسل.
من أسرة فقيرة تنحدر فتاة جميلة، لضرورات الرّواية والحياة البشعة. أمّ تشغِّلٌ بناتها بالعهر، أب مثليّ يتسبَّبُ بتشويهِ الأم، وكلُّهُنّ فيما عدا تحيّة ينتهين إلى "الحرق" والتشوّه، في رمزيّة شديدة الكثافة حول عالمٍ مخفيٍ حافِلٍ بالتشوّه والبشاعة. إنها غضبَةُ نجيب محفوظ على واقعهِ ربّما، أو غضبة السيناريست نشوى زايد على ماضٍ لم يمضِ بعد ولا يزالُ حيّاً في عشوائيّات القاهرة والعالم العربيّ حتّى زمننا الحاضر هذا.

طارق رمضان.. العاشق السيء الحظ
يكتبُ محفوظ روايته على لسان أربع شخصيّات رئيسيّة تظهرُ في المسلسل أيضاً وهي طارق رمضان، كرم يونس وزوجته حليمة الكبش وابنهُما الملاك في هيئة شيطان أو الشيطان في هيئة ملاك عبّاس كرم يونس. وعلى خلاف الرواية، فإنّ أوّل الأصوات الروائيّة التي تظهرُ في المسلسل هو صوتُ تحيّة، التي لم تملك صوتاً روائياً خاصّاً بها في الرواية، ويتّخذُ السيناريست من تقنيّة محفوظ الروائيّة منهجاً روائياً في المسلسل، فتروي تحيّة، يروي سرحان الهلالي، يروي طارق رمضان، يروي عبّاس كرم يونس وكرم يونس، كلُّهم في المسلسل وبتمازج مرعبٍ بين الموسيقى والصوت، اللون والصورة، يروون أجزاء من سيرة حياتهم الخاصّة لمّا يأخذُ العمل الدراميّ منحى خاصّاً فيه يركّز على حياة شخصيّة ما من بين الشخصيّات الأخرى.
أمّا الرواية، فهِي رواية كرم يونس وزوجته وابنهُما والسّاكنُ الغريب الصديق في بيتهما طارق رمضان. أمّا طارق فهو العاشقُ الأبله الأنانيّ، الماجنُ الدّاعر الذي لم يعرف الحبّ يوماً، لم يعرف الصدق يوماً، ممثّل أدوار ثانويّة، لا يعرف أبداً ما الفرق بين الحياة الواقعيّة وما الفرقُ بين خشبة المسرح. تراه صادقاً في الحياة مرّة حدّ أن يكون ممثّلاً عبقريّاً، وتراه فاشلاً فوق خشبة المسرح حدّ أن يكون طفيلياً ما كان ليكون فوق الخشبة لولا زمالة/ صداقة قديمة جمعته بمدير المسرح سرحان الهلاليّ.
يلتقي بتحيّة، يصادقها فتُصبحُ عشيقته التي لا يحبُّها، كانت ملكهُ وحسب، الشيء الذي يجبُ أن يكون موجوداً، الشيء الذي ليس له حياة دون وجود طارق رمضان في حياته، كوصفهِ لنفسه ولها في الرواية: "كنتُ أتوهّم أن تحيّة ملكي مثل الحذاء المطيع، كنت أنهرها وأهينها وأضربها، كنت أتصوّر ألّا حياة لها بدوني وأنّها تفرّط في حياتها قبل أن تفرّط فيَّ، فلما تلاشت بحركة مباغتة ماكرة قاسية تلاشى معها الأمن والثقة والسيادة وحلّ الجنون.. وبزغ الحبّ من ركن مظلم غائص في الأعماق ينفض عن ذاته سبات البيات الشتويّ ليبحث عن غذائه المفتقد".
الفقد المفاجئ، كلمة "لا" التي نطقتها أخيراً تحيّة في وجه طارق رمضان لتختار عبّاس كرم يونس الذي يصغرها بأكثر من عشرة أعوام، الهزيمة، الفحولة المهانة، الكرامة المهدورة، والمصير المظلم الذي وصلَ إليه بعد خمسين عاماً من الحياة في أدوار ثانويّة تنتهي إلى المهانة؛ كلُّ هذا ولَّد حُباً أعمى، مجنوناً ومسيطراً بصورةٍ هوسيّة لا تُطاق لمّا فقدها للمرّة الأولى، ولمّا رأى نصّ مسرحيّة يعلنُ فيه المؤلّفُ زوجها، عباس كرم يونس، أنّه قاتلها وقاتلُ ابنهما للمرّة الثانية.
تبدأ الرواية بمشهد ثورة طارق رمضان على الهلاليّ الذي يُصرّح أنّ عبّاس كرم يونس أخيراً أقنعه بشراء مسرحيّة منه بعد عشرات المحاولات السابقة. "أيّة مسرحيّة!"، يصرخُ طارق رمضان في وجه الهلاليّ الذي يتجاهلُ ردّات فعله. "المؤلّف! ما هو إلّا مجرم يجبُ تسليمه للنيابة"، ويردّ الهلاليّ عليه: "الزم حدّك يا طارق.. انسَ كلّ شيء إلّا أنّك ممثّل". لكنّ طارق لا ينسى، لا ينسى بالمطلق ويظلّ في هيجان أعمى وأهوج، ما بين رفضه العمل في مسرحيّة لإنجاح غريمه وعدوّه وقاتل حبيبته، وما بين ضرورة أن يمثّل فوق خشبة المسرح ما سبَقَ أن عاشه في الحياة مرّة أخرى، هو الوحيدُ الذي يُمثّل دوره في الحياة في مسرحية "أفراح القبّة" التي خطّها قلم عبّاس كرم يونس الذي تزوّج حبيبته وكتب، حكَمَ، شوّه، خَلَق، أعاد كتابة، أعاد

خلق الواقع كيف رآه أو كيف أراد له أن يكون أو كيف تصوّرُ أنّه كان حقاً.
تلك أزمة طارق رمضان التي يعمل المسلسلُ على إيصالها إلى ذروتها في مشهدين عبقريّين؛ الأوّل يخرجُ فيه طارق رمضان من كواليس المسرح في الاستراحة إلى حيث ينتظر المتفرّجين، يستوقفهُ بعضهم يطلبون منه توقيعاً، يوقّع للأول، ثمّ الثاني، ومع مرور الوقت وازدياد أعدادهم وسماعه لمديحهم، تمّحى التكشيرة الجهنميّة من على وجهه وتحلُّ محلّها ابتسامة ممثّل أدرك معنى الشُهرة والنجاح، ينتهي من التوقيع ثمّ يركضُ إلى غرفته وهناك يغلقُ الباب على نفسه ويصرخُ ضاحكاً وقد انبثّت في عروقه نشوة الشهرة المرعبة، تختفي كُلُّ انفعالاته السابقة ويحلُّ محلّها شعورٌ مسيطر واحد وهو أنّه أدرك أخيراً معنى أن يكون مرئياً بعد خمسين عاماً من كونه غير مرئيّ.
المشهد العبقريّ الآخر يتعلّقُ بإشكاليّة إعادة عيشِ الحياة، خوض تجربة الهزيمة والفحولة المهانة. في الرواية وفي حوار بين طارق رمضان والمخرج يقترحُ رمضان على المخرج أن يُدخل تغييراً على نصّ المسرحيّة، الشخصيّة الرئيسيّة، تحيّة، وقبل موتها تطلبُ أن ترى عشيقها للمرّة الأخيرة، يسألهُ المخرج: "ولكن ليس لها عشيق، لها زوج، من عشيقها؟"، "أنا"، يجيب طارق، ويرد المخرج: "ألم نقل أن ننسى الحياة ونركّز في المسرحيّة!". "ولكن تلك الحقيقة!" يقول رمضان، "تلك الحقيقة". الحقيقة التي لا نعرفُ أبداً إن كانت حقيقة. ولكن طارق رمضان، وفي المسلسل، يدخلُ مقاطعاً مشهد تحيّة مع زوجها عبّاس كرم يونس والذي يقوم بتمثيله إسماعيل، يقاطع المشهد الذي يسبقُ موتها، ويدخلُ إليها ويعلنُ حبّه مرّة أخرى لها. آنذاك يظهرُ عباس كرم يونس، مؤلف المسرحيّة، زوجُ تحيّة في الحياة الواقعيّة، يتدخّل صارخاً: "طارق يا رمضان أنا المؤلّف هنا! ويجب أن تلتزم بالنصّ"، ويردُّ طارق صارخاً: "وأنا الممثّل. أنا الممثل يا عباس. أنا الممثّل والخشبة ملكي.. هي دي الحقيقة".

ما بين عبّاس كرم يونس وكرم يونس
كرم يونس، مات والده وهو صغير حتى لم يلحظ وجوده أصلاً، وتفرّغت أمه للعهر والعيش الفاسق. في الرواية يحكي أنّ تلك الحياة هي الحياة التي جعلتهُ كما هو الآن؛ فاجر فاسق يكره النفاق ويكره الحكومة لمنعها ممارسة الرذيلة بينما هي تدير البلد كماخور كبير. يلمح حليمة للمرة الأولى في المسرح وهي تبحث عن شقة تسكنها بعدما عملت قاطعة تذاكر في المسرح وبعدما عمل هو ملقّناً لفرقة المسرح. يعرضُ عليها أن تسكن عنده فترفض، ثمّ يتقدّم للزواج منها، ولكن بعدما فات الأوان على أن تظلّ حليمة هي الفتاة العفيفة التي لم يلمسها مخلوق قبل كرم يونس.
يتزوّجان، وفي ليلة الدخلة تخبره بالحقيقة، فيقول لها: "الماضي لا يهمّني في شيء"، ولكن "لا أحد يهرب من ماضيه"، كما أكّدت حليمة لنفسها ولابنها عبّاس كرم يونس مراراً. أتذكّر عبارة ساحرة ظهرت في فيلم "ماغنوليا" لتوماس بول أندرسن بينما كنت أتابع المسلسل للمرة الثانية وأقرأ الرواية للمرة الثالثة: "قد نكون قد تخلّصنا من الماضي، لكنّ الماضي لم يتخلّص منّا بعد".
الماضي هو كابوس شخصيّات الرواية والمسلسل، هو الشبح الذي يطاردهم عبرَهُم وفيهم. كرم يونس يُلقِي باللوم، أو ليس اللوم، بل يجدُ التفسير لطبيعته الفاجرة الفاسقة اللامبالية اللاهثة وراء الغريزة والمخلصة لها في الماضي، في أمّه العاهرة، وفي الغلاء المتصاعد. يكره النفاق، يكرهُ كلّ المنافقين، ولا شيء أهمّ لديه من الأفيون والغريزة الحيوانيّة.
يعرضُ على الهلاليّ وصحبه من فرقة المسرح أن يجعل من بيته نادياً للقمار، ماخوراً كما يسمّيه هو في الرواية ويقول: "البيت القديم يتجدد على مبادئ جديدة. ينفض عنه الغبار. تتأهّب أوسع حجرة فيه لاستقبال القادمين من الجحيم. أحترم هؤلاء العظام الذين يمارسون الحرية بلا نفاق. الهلالي والعجرودي وشلبي وإسماعيل وطارق وتحية. حليمة تتوثّب للنفاق. إني لا أرحم المنافقين. تثوب إلى حقيقتها الكامنة. تمسي ربّة البيت الجديدة بكل كفاءة. جميلة وذكية وحرة مثلي وأكثر. جديرة بقيادة ماخور. أمطرت السماء ذهباً. ولكن لم ينظر الولد إلينا بامتعاض؟ ابن من أنت؟ من أبوك؟ من أمك؟ من جدتك؟ ابن حرام أنت، ابن الكتاب والمسرح، وتصدق النفاق يا غبيّ".
تصطدم حريّة كرم يونس بالفضيلة التي يتمسّك بها ابنه عبّاس كرم يونس. عبّاس الذي رأى البيت القديم، البيت الذي بناه جدّه بعرقه، يتحوّل إلى ماخور تدريجياً. منذ قبل أبوه أن يسكن لديه طارق رمضان وهو غريب، ومن ثمّ اصطحاب طارق لتحيّة برفقته وسماعه صوت شقاوتها وغنجها يأتيه من الطابق العلويّ، وأخيراً لدى استقبال أمّه وأبيه الهلاليّ وصحبه في البيت للعب القمار. رأى هذا كلّه وهو يمتعضُ ويزداد كرهاً وحنقاً لأبيه وشفقةً على أمّه حتّى كانت الليلة التي لم يعد لديه أيّة شفقة عليها.

عباس كرم يونس وحليمة الكبش
في ليلة قمار اعتياديّة ينزل الهلاليّ متعباً فيلتقي بحليمة وهي توشك على الصعود إليهم في الطابق العلويّ. تسألهُ إن كان متعباً فيطلب منها كولونيا فتذهبُ لإحضارها من غرفة نومها، بينما عبّاس يراقبُ المشهد كلّه من شق صغير باب غرفته. يتلفّت الهلاليّ من حوله فلا يجد أحداً، فيتبع حليمة إلى الداخل ويغلق الباب وراءه ومعه يغلق عبّاس الباب على نفسه وقد تهاوت

صورة الأمّ الحنون الشقيّة وصارت إلى داعرة، والأب إلى قوّاد، وقد اشتعلت النّار في رأسه وصارت الفضيلة حملاً ينوء به صدره أن يحمله.
"هذه هي الحقيقة. هذا أبي وهذه أمّي. النار تتمادى في الاشتعال. أغمد خنجرك فحتى قيصر قد قتل. سيرانو دي برجراك صاول الأشباح. إني أرفض أبويّ. القواد والداعرة. الجميع. الجميع بلا استثناء. لم لا؟ هي عدوّي الأوّل. أبي مجنون مدمن أمّا أمي فهي المدبّرة لما يجري في الكون من الشرّ".
عبّاس يقتلُ أمّه مرّات كثيرة؛ تروي الأمّ قصّة مختلفة عن الذي جرى. الهلالي دخل إلى غرفتها وتحرّش بها ولكنّها رفضت. لم تقبل أن ينام معها للمرّة الثانية بعد الأولى في بداية عملها في المسرح. إلّا أنّ ما علق في ذهن عبّاس كان شيئاً آخر.
في صباح اليوم التالي يولد عبّاسٌ آخر، لم يعد ملاك حليمة المدلل، لم يعد يصدّق من كلماتها شيء، لم يعد يرى في والده شيطاناً بل مجرّد مدمنٍ تافهٍ وحليمة أمسَت مدبّرة الشرّ في الكون، الداعرة المحترفة، الكاذبة التي تتنفّس كذباً.
"البيت غنيمة في يد السفلة"، هكذا صار في نظره، وكانت تحيّة في طريقها إليه مصادفة لمّا ملّت من طارق وإهاناته وضربه وعدم رغبته بالزواج منها. مرّرت له تحيّة عنوان بيتها، وكان هو دائم الهيجان في حضرتها، يكبتُ ما استطاع من شهواته ورغباته بها حتّى صار على باب منزلها. لم يعد يستطيع البقاء في منزل والديه، وكان قد هيّأ لنفسه أحلاماً غاية في الجمال، في البراءة والنقاء والبدايات الجديدة "المستحيلة" مع شبح الماضي الذي يطارد الجميع. تزوّج من تحيّة، وعمل ملقناً في مكان أبيه في المسرح، وواظب على كتابة المسرحيّات الواحدة تلو الأخرى والتي لقيت الرفض جميعاً من الهلاليّ، بينما كانت الأعباءُ تزدادُ في البيت، وتختنقُ الأحلام تدريجياً وتصغر حتّى لم يعد لها مكانٌ في الحياة اليوميّة.
تلد تحيّة طاهراً. طفل هزيل معلول الجسم، وتمسي هي الأخرى مريضة. يتوقّف المؤلّف الشابّ عن العمل والكتابة ويتحوّل إلى ممرّض بينما تكبرُ في داخله فكرة ربّاها منذ زمنٍ مضى، منذ ذلك الصباح وتلك الليلة التي رأى فيها أمّه وهي تتحوّل إلى داعرة محترفة؛ فكرة مسرحيّة عن "البيت القديم- الماخور".
بموت تحيّة وموت طاهر ينتهي الواقع ويبرز الحلم قاتلاً في نظر عبّاس يونس. يستعرضُ ماضيه كلّه وحُلمَهُ فيه؛ "الواقع أنّ الشرطة كبست البيت، والمرض قتل تحية وابنها، ولكن ثمّة قاتلاً آخر هو الحلم. الحلم الذي أبلغ الشرطة، هو الذي قتل تحيّة، هو الذي قتل الطفل، البطل الحقيقيّ للمسرحيّة هو الحلم، هو الذي توفّرت له الشروط الدراميّة. بذلك اعترف وبذلك أكفر. بذلك أكتب مسرحيّة حقيقيّة لأوّل مرّة أتحدّى سرحان الهلاليّ أن يرفضها. سيعتقد هو وغيره أنّني أعترف بالواقع السطحي لا الحلم الجوهريّ، ولكن كلّ شيء يهون في سبيل الفنّ، في سبيل التطهير، في سبيل الصراع الواجب على شخص ولد ونشأ في الإثم وصمّم بقوة على الثورة".
بطريقة أو بأخرى، الحلم هو عبّاسُ الذي كان ممكناً أن يكون شخصاً آخر في الواقع لو توفّرت له الشروط الدراميّة/ الواقعيّة الممكنة في المسرحيّة. الحلمُ هو عبّاس الذي كان ليبلّغ عن والديه فعلاً ويزجّهما في السجنِ عشر سنوات بتهمة تحويل بيتهما إلى نادي قمار. الحلمُ هو عبّاس الذي كان ليقتل تحيّة والطّفل، ليصير بطلاً تراجيدياً لمسرحيّة عبقريّة. الحلمُ هو الثّورة على هذا كلّه، الثورة على المرض، الموت، القتل، الفجور، النفاق، الفسق، العهر والمجون، السجن، الدولة، الواقع القذر وكلُّ أشياء العالم الواقعيّ.
من واقع المأساة إذن تولد الملهاة، ومن تراجيديّة المصير الفرديّ تولد العبقريّة. كلّ شيء يجري في الحياة أساسُ مسرحيّة ما، لكن ليست هنالك مسرحيّة دون تراجيديا، وليس هنالك مسرح دون قتل، حب، سفاح، جنون، هوج وجريمة ضدّ المجتمع والتقاليد. "ما تحيّة إلّا صورة من أمّي بل هي أفضل. عندما اعترضت سبيلي مسَّتني فحرّكت حلماً جديداً. عندما تذكّرت مسّها لي وأنا وحيد انبثقت من سعير نفسي فكرة. هذه الدار العتيقة التي بناها جدّي بعرق جبينه وكيف تحوّلت إلى ماخور! هذه هي الفكرة. لا دليل لديّ على نجاحها إلّا ارتعاشة الفرح التي خامرتني. هل تصلح أساساً لمسرحيّة؟ وهل تقوم مسرحيّة بلا حبّ؟".
يمكنُ القول، لو كان ممكناً، إنه في تلك اللحظة التي كان فيها عبّاس كرم يونس يجلسُ مع والدته في الصباح التالي مشمئزاً متقززاً منها ودخلت عليهما تحيّة فولدت في روحه الفكرة والحلم؛ في تلك اللحظة كلُّ أفعاله كانت تصبُّ في رسم مصيرٍ تراجيديٍ يمكنُ بعده الخروج بمسرحيّة عظيمة وعبقريّة لا يمكن للهلاليّ ولا لأيّ مدير مسرحٍ آخر رفضها مطلقاً. في تلك اللحظة حوّل عبّاس يونس حياته إلى مسرحيّة معدّة مسبقاً للكتابة والتمثيل في انتظار التراجيديا والتي لا بدّ أن تخلق في النهاية لأنّ كلّ شيء كان معدّاً من قبل لظهورها وخلقها.
تكتب المسرحيّة في النهاية، ويكون عبّاس كرم يونس هو قاتلُ تحيّة وابنه في المسرحيّة، هو الذي بلّغ الشرطة عن والديه، هو المؤلّف نفسه في المسرحيّة نفسها وعلى الخشبة وفي الواقع، هو كلّ شيء، هو الإله الروائيّ، هو الابنُ البارّ والعاق، ابنُ القوّاد والداعرة، الشاهدُ على مصير البيت القديم لأن يكون ماخوراً غنيمة في يد السفلة، كلُّ هذا كان بانفعالٍ هائجٍ بحمّى الخلق.

موت العبقريّة وموت الخيال
لكنّ الخلق لا يستمرّ، تنتهي الرواية بعبقريّة كما ينتهي المسلسل بعبقرية من نوع آخر. في الرواية، يجدُ عبّاس كرم يونس نفسه في غرفة، وحيداً في الفراغ، دون أيّ قدرة على الخلق،

دون أيّ قدرة على الحياة، في مواجهة مفزعة مع الموت، مع العدم والفراغ. لم يبقَ لهُ شيءٌ سوى مصير البطل نفسه في المسرحيّة الذي خطّه هو نفسه، وهو أن ينتحر.
أمّا المسلسل، فعبقريّة أخرى. ذلك المشهد الذي اقترحه طارق رمضان على المخرج، وهو عودة العشيق بطلبٍ من تحيّة، أي عودة طارق رمضان، يحدثُ في النهاية. يأتي طارق رمضان إلى بيت تحيّة وعبّاس، ويعود عبّاس من عمله ليجدهما مع بعضهما. فتطلبُ تحيّة للمرة الثانية من طارق رمضان أن يذهب وتبقى هي وعبّاس كرم يونس الزوج والمؤلف.
يسألُها إن كانت تحبّ طارق، فتجيبه أنّها تحبّه. "متى توقّفت عن حبّي؟"، "منذ مات طاهر". يموت طاهر ابنهُما، فتبقى تحيّة في بيت عبّاس بلا معنى. القصّة التقليديّة عن موت الطفل وعدم احتمال العيش بين الزوجين لتذكيرهما الواحد للآخر بالطفل الميّت. إلّا أنّها ليست تقليديّة بالمطلق في نهاية المسلسل. في لحظة ما، يتوقّف التمثيل عن أن يكون جزءاً من مسلسل، وتظهر تحيّة وهي تقول: "تهيّأ لي أنّني أحببتك.. احتجتُ أن أحبّك"، ولكنّها تظهرُ فوق خشبة مسرح وليس في مشهد من مسلسل دراميّ.
ينقلبُ المسلسل إلى مسرح، ينقلبُ كلّ شيء كان إلى مسرحيّة في داخل مسرحيّة في داخل مسرحيّة. ليس للواقع مكان لا في الرواية ولا في المسرحيّة أو المسلسل؛ الحلمُ هو المسيطر، الحلمُ هو القاتل عند عبّاس أو عند تحيّة، في قصّة كرم يونس أو قصّة حليمة الكبش، الحلمُ هو كلّ شيء، حلمٌ في حلمٌ وليس للواقع مكان. تكتملُ العبقريّة لمّا يُلقي عبّاس بتحيّة على الأرض ويخرجُ من البيت فوق خشبة المسرح ثمّ يعود ويضربُ الباب بيديه وهو يصرخ: "ما تموتيش يا تحيّة.. أنا المؤلّف هنا، لم أقتلك، ولن أقتلك! افتحي يا تحيّة". ينتهي المشهد، تسدل الستارة، ثم تفتح مرّة أخرى، يظهر الممثلون، كلّهم، لنسأل: ماذا كنّا نشاهد؟ مسرحيّة؟ أم مسلسل؟ ما الذي حدث حقاً وما الذي لم يحدث؟
الجمهور أيضاً هو ممثلٌ آخرٌ في خشبة مسرح، وقد تكون خشبة مسرح أخرى.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.