}

ثنائية الداخل والخارج: بونار وأنا

أسعد عرابي 21 مارس 2019
تشكيل ثنائية الداخل والخارج: بونار وأنا
بونار يرسم داخل بيته
يقيم متحف تات – غاليري حالياً في لندن معرضاً بانورامياً استعادياً للمعلم الباريسي الأكبر (لما بعد الانطباعية) وهو بيير بونار (1867 - 1947م)، وذلك ما بين نهاية شباط وأوائل أيار من العام الراهن 2019م. ويعتبر اليوم بوابة مشرعة على استهلالات الحداثة والمعاصرة التشكيلية (في أوروبا وأميركا).
بما أني كتبت عنه عدة مرات قبل ذلك، فقد أحببت أن أتعرض لأول مرة إلى تأثيره العميق على تصويري، خاصة على مستوى اللون الطوباوي الذاكراتي الذي ينقل شراكاتنا في دواخل الدار الغاربة. وهو ما يستجيب مع تزامن معرضي الاستعادي المتنقل عبر عدة مدن ابتداءً من باريس وبيروت.
*  * *
يمثّل العنوان مركز الموضوع الذي حرّضني على نبش تلك الصورة الرمزية التي تفضح العلاقة الحميمية إلى درجة القدسية بالدار، وتناسخ روحانية من تتالوا في سكناه من العائلات المتناسلة عن نفس شجرة السجل لأربعة أجيال أو أكثر. وجدتها مجسّدة في مذكرات معلم بالغ التأثير على استهلالاتي التشكيلية والمناخات المشيمية الحميمية الروحية في دواخل البيت العربي الذي كنت أمرح فيه منذ تفتحي الأول مترعرعاً في حضن جدتي المتصوفة أحتكر هذا الوطن الصغير، ولم أكن أتجاوز في حينها الثانية عشرة من مراهقتي، كان إيمانها الباطني مكتنف بالأسرار.
حرّضتني مذكرات بيير بونار التي يعترف فيها بأنه كان لا يصوّر إلا فردوس بواطن منزله من الداخل خاصة ما هو معاش منه، من الحمام إلى المطبخ إلى وجهه ومرآته ونوافذه التي تمثّل برزخاً بين الداخل حيث يتمسّك بعزلته والخارج الذي ينتمي إلى الداخل بطريقة رسمه، ولأنه يذكر في هذه المذكّرات التي توافقت مع كل ما أحمله من عاطفة تجاه الدار فيقول: «سافرت حول منزلي عدة أشهر أحافي جدرانه وأتلمسها من الخارج مسلّحاً بدفتر رسم بسيط أسجل فيه ليس فقط رسوماً تحضيرية مختزلة، وإنما أيضاً ملاحظات مناخية ستلعب دوراً عندما أنجز لوحة الخارج في الداخل، مثل الرطوبة العالية، ورماديات الغيم لا تغطي النور كاملاً والنسيم ينقلب إلى صفعات عاصفة بالتدريج وهكذا".
نجابه في مجموعة لوحاتي جماهير حضرية يجمعها شتات يحافي المدينة التي تحضر وتغيب، يهيمون على وجوههم في اللامكان ودوماً بالقرب من وطنهم البيت، فالفراشة التي تتدانى من اتحادها بلهيب الشمعة لا يمكنها أن تحلّق بعيداً عن اجتذابه لها. تحقق هذه الباقة من اللوحات التراشح البرزخي بين الخارج المهاجر والداخل المنطوي على حميميته، تبدو الشخوص الكرنفالية تعربد في العراء لكنها تحمل ذاكرة وعادات وأزياء حضرية الداخل وأساطيره.
فقدت مسكن طفولتي مرات عديدة، ثم سكنت لوحتي ولم أخرج منها حتى الآن. يبدو الباب
مركزيّاً في اللوحة، أشبه بالمحراب، بما يشع به من طاقة روحية فنية. يحضرني ما كتب على أحد أبواب غرناطة: «والغبطة مستمرّة»، تملك واو العطف هنا روحانية معنى العود الأبدي والذي قد يقود هذه الغبطة إلى الوجد مروراً بالوجدانية والوجودية. كما أن الفرس من الفارس فإن «المكان من المكين»، فأينما حلّ أهل المدينة سواء في ربوعها العاطفية أم في بحر محيطها الجغرافي فهم يحومون حول دواخلها التي ينتسبون إلى ضلوعها. يشبه شرودهم عنها تصاوير رحلة بونار حول منزله.

السلطة الروحية في اللون
ابتدأ شغفي بالمناخات القزحية الملوّنة التي تسكن مشاهد منزله الحلزوني المنطوي بنوافذه وجدرانه وحجراته على ذاته، منذ الستينات قبل أن أعبر إلى محراب لوحاته الأصلية منذ استقراري في باريس عام 1975م. أثارت انتباهي الفني خاصة الأعمال المرتبطة بدواخل منزله الذي استقر فيه منذ 1922م ضمن مرفأ كانيه المتوسطي وظلّ أميناً على كشف خباياه التصويرية الباطنة دون مغادرته يوميّاً باعتباره مزدوج القربى منه: المحترف والمبيت معاً حتى توفي عام ١٩٤٧م. كما هو شأني دائماً: لا أصوّر إلا في محترف العيش والأسرة. لأن قوة التصوير تكمن في داخليّته. بمعنى العبور العمودي في المكان والذات وذاكرة معتكف الدار وخلوته الإنسية الأنيسة. لنتخيل بعد ذلك تناقضه الروحي والذوقي مع جماعته الانطباعيين. بمن فيهم تبشير صديقه ورأسهم كلود مونيه في الدعوة التبشيرية للخروج من عتمة المحترفات والاقتصار على التصوير في الهواء الطلق مما يهيّئ امتحان السلوك الضوئي وانعكاساته. يزداد تعارضهما لأنه كان مطابقاً لموقف العالم الفيزيائي شيفرول في تلك الفترة ومختبره الصباغي في صناعة إكساء السجاد، يؤكد الكتاب على عقلانية اختبار تزامن الألوان التي تمزج فيزيائياً على الشبكة وليس كيميائياً على الباليتا. يحضرني انتقاد بول جوجان للانطباعية بجملته التاريخية: إنهم «يبحثون حول العين وليس في المركز الخفي للفكر».
هو ما يلمح بونار إليه بدقة فلسفية صريحة: «البعد الروحي في اللوحة المعاصرة»، لأنه يعتبر بتأثير من روحانية الفيلسوف الأكبر في تلك الفترة هنري برغسون (1859 - 1941م) بأن العقل ينتج العلوم بعكس الحدس (القلب بالمعنى الصوفي) الذي يفيض بالفنون الذوقية، هو ما قاد إلى أبرز قناعات بونار (التي تحوّلت إلى عقيدة بحثية ومخبرية لديّ) وهو أن التصوير أقرب إلى الموسيقى والفلسفة منه إلى الأدب.
لا يحتكر بونار هذا التراشح الفكري مع برغسون (التواصل مثلاً في شراكة الذاكرة والديمومة سواء القزحية منها أم المعاشة من الداخل). عانى من اجتياح روحانية برغسون العديد من علامات الفن المعاصر وعلى رأسهم التوأم كاندينسكي وبول كلي في كتابيهما المتزامنَين في أوائل القرن العشرين، يستعيران مصطلحات برغسون كالوثبة الحية والتطور الخلّاق وآلية تراكم الذاكرة الحدسية، لعلّ أبرز أسباب اهتمامي بالاثنين بونار وبرغسون هو تمايز مفهومهما المشترك حول البعد الروحي في الفن المعاصر (هو نفسه عنوان كتاب كاندينسكي 1910م)، أقول ليس بالصدفة أن بونار أطلق على الجماعة التي ألف بين فنانيها الرافضين لعقلانية الانطباعية بتسميته لهم بالأنبياء، أو المتنبّئون (مثل التنجيم الفلكي)، كما أن أسطع تعريف للمتصوفة كتبه برغسون: «التأليه الدائم للوجود»، فإذا لم يكن يعرف الفلسفة العربية بلغته الأصليّة فلا شكّ بأن ثقافته الخصبة دفعته للاطلاع على ترجمات الحلاج والغزالي وابن عربي والنفّري والنابلسي والرومي وسواهم بالفرنسيّة. هو ما يشير إلى أن البعد الروحي في الفن كما هو في الفلسفة والموسيقى لا علاقة له بالعقائد الموروثة سواء أكانت توحيدية أم بوذية أم هندوسية، فالبعد الروحي في الأقنعة الأفريقية لا علاقة له بالوثنيّة، ينطبق هذا على شتى الحضارات البائدة والباقية. لأنه يتّسم بالشمولية الإنسانية التي تتجاوز المكان والزمان، نعرفها منذ فريسكات «شوفي» قبل أربعين ألف عام المتزامنة مع الصرخات الوجودية التي تحوّلت إلى تقاليد موسيقية سحرية كما هي لدى الأقوام الأسترالية.
لو عدنا إلى موضوعنا المركزي: التأثير الأسلوبي لبونار على استهلالاتي التكوينية في اللوحة، خاصّة لوحات مرحلة كاني المتوسطيّة المذكورة، هناك تناظر محسوس بين عالمينا ابتداءً من صفتهما المشتركة الداخلية الحميمية، بالأحرى مركزية الداخل (وروحانيته) وهامشية الخارج (بمرآته المعكوسة). ناهيك عن تشابه سكان هذا الداخل (محترف العش الزوجي) من إنس وحيوانات وغيرها. إذا كانت قطته تسربت إلى لوحتي وتقمّصت وضعية قطتي الشخصية التي تعربد بين الداخل والخارج، وكذلك التناظر مع بقيّة العناصر كالفتاة الراسخة بجانب أطباق ما تشتهي الأنفس والريحان من ألوان الثمار والزهور، لكن الأهم من ذلك، هو تناظر هذه العناصر اليومية مع موضوعات لوحاتي وكذلك في خبايا العش المنزلي وأدوات الرسم والتصوير وكائنات المحترف التي تسكن شتى الزوايا أي إعادة نفس الاستثمار البنائي للفراغ من خلال فواصل الجدران وتعامدية خطوط النوافذ الرحبة وانعكاسات المرايا المتقابلة مثل المشكاة (الكاليودوسكوب)، واقتصاره مثلي على جسد زوجته سواء في مخدع النوم أو في الحمام ذي البلاط أو الزيلليج المغربي الموّشح بانعكاسات الماء واندياحها مع تفاصيل الجسد الأنثوي. إن إخلاصه لزوجته كما هي حالي لا ينفصل عن إخلاصه اللوني لسكينة وطمأنينة وأبديّة ذاكرة منزله الداخلي. في كل مرة يتمدد المشهد ليشمل ذاكرته الانطباعية في الخارج الجغرافي يسعى جهده لإدخاله من النافذة الرحبة المطلّة عليه باتجاه مشيمة البيت، يرسخ التباس هذا العبور إلى الذات تصوير وجهه في المرايا المقابلة. تتجاوز شراكتنا لحميمية المكان والتباس شرخ الكائنات المنزلية بالأعمدة الجدارية إلى وصول هذا المناخ عن طريق تلغيز انتساب ألوانه إلى ما يناقض تشريحه (فدرجات رأس الفتاة تنتسب إلى الجدار، ويدها ورداؤها وغطاء الطاولة الرهيفة تقع في عالم لوني آخر يقع تلغيزه الحلمي الموسيقي الذاكراتي البرغسوني ما بين التجريد والتشخيص الشبحي).

أسعد عرابي 


















لوحتي مثل لوحته وريثة هذا الأداء المتعدد في زاوية النظر والإضاءة، تتحد الألوان البعيدة مع القريبة في فردوس حلمي (أحياناً كافكاوي رمادي لا يخلو من السرد الرومانسي). تقتصر لوحتانا على بعدين بحيث تتوزع الألوان على مقام منظور عين الطائر كما هو في تصاوير المنمنمات (رسوم المخطوطات العربية).
يحضرني في هذا المقام مجموعة لوحات أنجزتها في أوائل السبعينات موضوعها «دمشق من الداخل والخارج». العاريات الشرقيات في الداخل، وأحجبة الملاءات المقنعة في الخارج (كذلك موضوع الحمامات النسائية).

*  * *
من الجدير بالذكر أن «منزل- محترف» بونار تحوّل إلى متحفه الرئيسي في فرنسا، يعانق وثيقة طوباوية بخط يده يذكر فيها أنه في بحر العام 1939 - 1940م (في أواخر حياته) قام برحلة مديدة استمرت عدّة أشهر، يحافي من خلالها كل يوم جدران منزله من الخارج، مجهّزاً بدفتر رسوم سريعة قبل أن ينفذ ذاكرتها اللونية في الداخل، هي الرحلة الوحيدة التي قطعت

عزلته المستديمة في البيت، لكنّه بالنتيجة لم يخرج من صومعته وحضنه الداخلي لأنه أدخل الخارج إلى الداخل وليس العكس، بمعنى أن كل ما رسمه في الداخل أو الخارج ينتمي إلى الداخل « فثنائية الداخل والخارج» وهمية لأنها تقتصر على طرف واحد.
استعدت مؤخراً لوحات هذه الرحلة المعراجيّة حول المنزل دون مغادرته. بشبق كبير، هو شأني عندما أنجزت في الثمانينات لوحات مستوحاة من ذاكرة ميناء الصيادين في صيدا. أستعيد من خلالها ذاكرتي بما يخصّ العادة التي درجنا عليها أنا ووالدي بالاشتراك مع عمّي أمين الذي كان يعمل لحّاماً في نفس المنطقة، يقودنا بمركبة كلّ مساء ما بين الساعة السادسة والسابعة لأن الأسماك في بعض سويعات هذا الوقت تعوم ساكنة. مما يسهّل علينا التقاطها باليدين دون مقاومة، نحملها إلى الدكان لنشويها ونقضي سهرة تعجّ بأنفاس الأراجيل وخدر جرعات العرق (كؤوس الراح)، المهمّ أن البرزخ البحري يبدو في اللوحة وكأنه داخليّ كذلك رسم المركب يبدو مجازيّاً وكأنه يعوم داخل المنزل. استمرّت هذه الحساسية الميتافيزيقية عندما صورت مؤخراً الهجرة المتوسطيّة والغرق الذي يعاني منه أطفال ونساء النازحين السوريين. في (معرض «الساكن والمسكون» في غاليري موازان - باريس 2017م).
لم تفارق حساسية لوحاتي حتى اليوم ثنائية الداخل والخارج وكما هي في تجمّعات الأشخاص في المعرض الراهن، شخوص حضريّة خارجة لتوّها من طوباوية البيت والحارة والمدينة. ترفل في أزيائها المألوفة، تعربد في فناء عدمي في اللامكان، ممسوسة بهذيان سكوني غير انفعالي لأنهم أشخاص داخليون تغمرهم الدعة والسكينة المريبة. سواء أكانوا لا زالوا ملتصقين بالدار أم يتجمهرون في ساحة مسرحية عبثية خارجية وكأننا ضمن هرج ومرج كرنفالي. هم داخليّون حتى لو انسلخوا أو هاجروا عن الداخل الحضري إلى الداخل التشكيلي.

***

أسعد عرابي المسكون بصوت أم كلثوم 


















تحضرني في الختام أبيات من قصيدة «نجوى» لشاعر الشام المهاجر خير الدين الزركلي
يقول:
«العين بعد فراقها الوطنا    لا ساكناً ألفت ولا سكنا
أذكرتني ما لست ناسيه     ولرب ذكرى جددت حزنا»

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.