}

مسرحيّة "البقايا": تعرية الأفكار والإنسان

عارف حمزة 16 مارس 2019
مسرح مسرحيّة "البقايا": تعرية الأفكار والإنسان
من مسرحيّة "البقايا"
بدأت منذ نهاية شهر شباط/ فبراير الماضي، وتستمر طوال شهر آذار/ مارس الحالي، عروض مسرحيّة "البقايا" على خشبة المسرح الألماني الشهير في مدينة هامبورغ. والمسرحيّة التي تدور أحداثها في ساعتين وخمس وأربعين دقيقة تذهب إلى كشف الصراعات الإنسانيّة مع الذات والآخر والأفكار السياسيّة التي حكمت هذه الأرض، وليس ألمانيا فحسب، طيلة العقود الماضيّة، وخاصة تلك الأفكار الاشتراكيّة واليمينيّة والليبراليّة.
المسرحيّة تدور في وقت ما بعد ظهيرة السابع من تشرين الأول/ أكتوبر في منزل والديّ فيرا وكلارا ولودفيغ هولر، حيث يتمّ التحضير لحفلة عيد ميلاد أحد من العائلة. الأشقاء الثلاثة كبروا سويّة في بيت العائلة الكبير، لكنّهم لم يستطيعوا، طوال السنوات الطويلة، التحرّر من براثن ماضيهم، النفسي والعاطفيّ والسياسيّ أيضاً. في منزل الوالدين الراحلين تُقام مأدبة لعيد ميلاد شقيقهم المُداوم في مشفى الأمراض العقليّة، لكن في قطعة أخرى يبدو كأنّ حفلة عيد الميلاد تُقام من أجل الاحتفال بميلاد القائد النازي هيملر، الذي ولد في ميونيخ في 7 أكتوبر 1900! حيث ما زال لودفيغ مناصراً للأفكار الفاشيّة التي رفعتها النازيّة من أجل بناء ألمانيا في الظاهر، لكنّها في الواقع دمّرت ألمانيا وقتلت الكثير من الألمان. الشقيقة فيرا تبدو مناصرة لأفكار أخيها، وهذه المناصرة بدت عاطفيّة منها، بسبب خوفها عليه كي لا يموت بسبب قلبه الضعيف الذي تعرّض لضربات سابقة. بينما كلارا تظهر على أنّها المعارضة لتلك الأفكار التي حطّمت حياة كلّ الناس.
المسرحيّة هي عن ثلاثة أشقاء، في ثلاث عائلات، يحملون أفكاراً مختلفة، لكن يجمعهم التوتر والحقد وتصفية الحسابات عن أحقاد بُنيت بينهم طوال عشرات السنوات. لذلك تبدو هذه القطعة من حياتهم وكأنّها ساعات اجتماعهم القليلة والوحيدة برغم عيشهم معاً في المنزل ذاته.
كارين هينكيل وريتا تيلا صاغتا نصّ هذا العرض من ثلاثة أعمال للكاتب النمساوي الشهير توماس بيرنهارد، الذي تُرجمت بعض أعماله إلى العربيّة، وهي مسرحيّة "قبل التقاعد"، التي عُرضت لأول مرّة منفردة في عام 1979، ومسرحيّة "ريتّر، ديني، فوسّ"، التي عُرضت لأول مرة في عام 1986، ورواية "انقراض، تفسّخ"، وهي من الأعمال الشهيرة لبيرنهارد (ولد في هولندا عام 1931 وتوفي في النمسا عام 1989)، والذي يُعتبر بدوره من أهم كتّاب الألمانيّة في النصف الثاني من القرن العشرين، وحاز على العديد من الجوائز من خلال كتابته في المسرح والرواية والشعر، ورفض الكثير من الجوائز، وعُرفت أعماله بتلك السوداويّة، ربّما بسبب مرضه الدائم جرّاء إصابته بمرض السلّ وهو في التاسعة من عمره، والتي جعلته كاتباً متشائماً من مصير البشريّة.
هذه الأعمال الثلاثة أخذ النص المُصاغ من كل واحد منها ثلاثة أشقاء، امرأتين ورجل، وبالتالي يبدو السرد والحوار منفصلاً، وكأنّه يتم تمثيل ثلاثة نصوص منفصلة في وقت واحد وفي عرض واحد. بمعنى أنّ الخشبة لم يتم تقطيعها بين ثلاثة عروض تُعرض في الوقت ذاته، بل يتناوب الممثلون في كلّ مرّة، وهي لعبة ذكيّة لمخرجتي العرض، خاصّة وأنّ الشخصيّات الأخرى لا تبقى صامتة أو ثابتة خلال عمل شخصيات قطعة ما، بل تتداخل وتتداخل حتى تصبح وكأنّها قصّة واحدة في النهاية. قصّة كل العائلات وليس العائلات الثلاث فحسب.
النسوة في هذا العرض يبدون مُسالمات، ومنقادات لأفكار الأخوة المختلفة، حتى كلارا في
معارضتها لأفكار أخيها تبدو قليلة الحيلة في ذلك الزمن الألماني، خلال حكم النازيّة، برغم أنّها تتحدّث عن أفكارها بلا خوف، ولكنّها تصمت وتفكّر في الغياب.
الرجال الثلاثة يختلفون بشدّة في الأفكار، ولا يُمكن تصديق وجود شخصيّات كهذه ضمن عائلة واحدة ولكن مختلفة بشدّة؛ من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. الذي يحمل الأفكار الليبراليّة يعود من مشفى الأمراض العقليّة، هو رسام ومُدلّل ويصرخ طوال الوقت، والشقيقتان ترضخان لتدليله، ربّما بسبب مرضه وربّما لأنّه أصغر الأشقاء. ترضخان لدرجة أن إحداهما تقع في حبه وشبقه. الأخت الأخرى تشتري له "سروالاً داخليّاً" وكأنّه دلالة على معنى الليبراليّة والحريات في مجتمع محافظ. الآخر يبدو أنّه مع الاشتراكيّة في أقصى حالاتها، ويختنق من الأماكن المغلقة والخاصة، في إشارة إلى الأفكار المحافظة واليمينيّة، ويذهب طوال الوقت لفتح الشبابيك والسقوط منها، بينما يذهب الآخرون لإغلاقها. الرجل الأخير هو ذلك الرجل النازيّ، والذي يلبس في نهاية المسرحيّة بدلة الجنديّ النازيّ الشهيرة، لأنّ "الجنديّ داخل الجنديّ لا يموت"، بينما في بدايتها كان يلبس معطفاً لم يُبدّله طوال عشرين عاماً، وعندما يفتح أزرار معطفه يكون عارياً من الداخل. وهكذا نجداً رجالاً عراة من الخارج وعراة من الداخل وعراة من اللباس الداخليّ!

تقنيّات كثيرة
في المسرحية تقنيّات كثيرة اشتغلت عليها المخرجتان، حتى باستخدام الأطفال الذين ظلّوا يلبسون الثياب السوداء طوال العرض ويغنّون تلك الأغاني التي تخصّ الطفولة، كي تُذكّر

أولئك الحاملين للأفكار المتناقضة والمتصارعة بأن يتذكروا طفولاتهم أو بدايات تشكّل الحب في العائلة وبين الإخوة. كذلك استخدمت خشبة المسرح بشكل كامل مع التقنيّات الصوتيّة والضوئيّة التي رافقت حركة الممثلين الواضحين، وحتى المتوارين عن قطعة معيّنة.
شيء آخر يُحسب لهذا العرض، هو أن تقوم ممثلة بأداء شخصيّة رجل، بينما قام ممثل بلعب شخصيّة الأنثى، وكان أداؤهما، كما باقي الممثلين، على درجة عالية من الإبداع والحضور والإمتاع.
عوالم بيرنهارد السوداويّة واضحة؛ تلك العوالم التي لا تبحث عن التنوير والوعظ ورشق الآمال، بقدر ما تُذكّر بالقلق والخوف والسلطة الأبويّة والتسلّط حتى في العائلة الواحدة، سواء أكانوا أشقاء أم أزواج. عوالم مكتوبة كي تضع الناس أمام الحقائق التي تُعرّي الإنسان والأفكار.
العرض يُرسل الكثير من الإشارات، حتى في جعل ممثل يقوم بدور أنثى أو أنثى تقوم بدور رجل، حول الأفكار ومعنى الحريّات والتسلّط. تلك الإشارات هي التي تفاعل معها الجمهور بشكل كبير، لدرجة أنّ الممثلين عادوا من الكواليس أكثر من مرة، في نهاية العرض كي يُحيّوا الجمهور الذي لم يكن يتوقف عن التصفيق.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.