}

علي شمس يودع ألوانه التي لا تعرف الغروب

أسعد عرابي 7 فبراير 2019
تشكيل علي شمس يودع ألوانه التي لا تعرف الغروب
منظر من الشوف لعلي شمس
وصلتني الفاجعة الطازجة على لسان بيان جمعية الفنانين اللبنانيين للرسم والنحت تنعيه عَلمًا من أعلام الفن التشكيلي اللبناني، "وهو الفنان علي شمس الذي كرس حياته المهنية في تدريس الفن والبحث الإبداعي في تناول اللوحة التجريدية والملامح الواقعية في المشهد الطبيعي (...) راجية من المولى أن يتغمدّه بواسع رحمته".
أُرفقت النعوة بصورة تمطر دموع محبيه وتلامذته، تجسّد انفجار الفرح الطفولي المحب للحياة في بسمته المألوفة ومحياه ونظاراته الجذابة، وخصلات شعره التي يشتعل من فوديها الشيب. يطل المشاهد من إحدى لوحاته المائية العملاقة التي لا يعرف مستواها الإعجازي الجمهور. كما لا يعرف آخر مراحله: «التصوير المتوسطي» بألوان الفردوس اللبناني في منطقة الشوف على جذوع الأشجار المقطوعة والمنقولة إلى محترفه في ضيعة «الوردانية»، هي التي عرضتها «صالة شرفان» بيروت عام ٢٠١٠م، وقد جادت مشكورة بإشاعة آخر مقابلة معه في نفس المعرض وبنفس القميص الأحمر المنتزع لونه من زهور شقائق النعمان التي يحبّها، ونعثر على الفيديو في الانترنت. وأرسلها لي الناقد المعتبر أحمد بزون لمعرفته بمدى حميمية علاقتي بالمرحوم.
كان فناننا أكاديميًا متينًا بعكس من يحيطون به من هواة، خاصة المقربين منه. نابه الكثير من تشويه سمعته وحتى محبيه من الأصدقاء من غيرة ونميمة فحشية. استبدل مثلًا صفة استحواذه على بعض رواد الخصائص الأسلوبية المحلية (مثل الباشا وعبّود). أقول باتهامه بالنقل والسرقة عنهم، ولم يشفع تفوقه بالمائيات الرحبة الأخيرة التي خلد فيها حوض سهل ضيعته الوردانية في الشوف، حيث محترفه، بطريقة إعجازية رهيفة. وكذلك آخر مراحله المتمثّلة في التصوير الملّون التصوفي الموسيقى ضمن مدرجات تجريدية رهيفة، تلف مع دائرة الجذوع المقلوعة التي مر ذكرها.
ينطبق على المحترف اللبناني وعلي شمس مثال: «مزمار الحي لا يطرب» فلم يأخذ يومًا حقه الذي يستحقّه فنيًا، لعلّه أيضًا لأنه كان مثاليًا لا يقبل مجاملات ومنافقات أنصاف الحلول
الشائعة في الوسط الفني واختلاطه بفساد السياسة، يصل في أزماته حدود النزق «الفان غوخي». وهو ما ساعد على سوء فهمه طباعًا وعبقرية وسهولة الدسيسة. هو من مواليد ضيعته المذكورة عام ١٩٤٢م أصغر من عمري بعام كنت أظنه أصغر بقرن لبهجته المتألقة المتفائلة أبدًا.
مع ظهور موهبته اللونية خاصة يمّم شطر أمتن أكاديمية في روسيا: معهد فنون بطرسبورغ (العاصمة القيصرية)، ينتهل ما شاء من المتحف التاريخي بجانبها «الأرميتاج» الذي يعانق
لوحتي ماتيس الأشهر: الرقص – الموسيقى. وتخرج بتفوق، وعاد ليشبع شبقه من تاريخ الفن مرافقًا زوجته (في بعثتها الرسمية الباريسية). يرتشف كل ما لذ وطاب من المحفوظات التشكيلية المتجددة في عاصمة النور، حاملًا معه أكداس الكتب الفنية والفلسفية والموسيقية عند عودته. ثم علّم أعقد المواد التشريحية عمليًا في معهد الفنون الأول، مع العناية بالدروس الخصوصية في محترفه عن أصول التكوين في الطبيعة الصامتة وتقلبات ألوانها الضوئية على المنهج الانطباعي. كما كان يمارس أحيانًا طلبيات البورتريه. بما أن ضيعته البحرية قريبة من بلدة أهلي صيدا فقد كنت أقضي معه أوقات سباحة مشوقة وكان الفن دومًا شغله الشاغل لا يكترث بكل ما هو ميتافيزيقي أو مذهبي. مطهر من العقائد الثابتة والمسيطرة على المجتمع الريفي، بما يعكر لغطه من إشاعات وثرثرة فاحشة.
لعلّه من الجدير بالذكر أني انقطعت عن لقاء المرحوم في السنوات الأخيرة قانعًا بالتواصل الهاتفي المتباعد، ازداد قلقي عليه بما شرنق حوله من إشاعات غير دقيقة تبالغ في درجة مرضه بالزهايمر الذي اكتشف إثر حادث سيارة مؤسف، وبأنه فاقد القدرة على التواصل مع أصدقائه وطلابه. لذلك كان هاجسي الأول خلال مناسبة معرضي الاستعادي في بيروت، هو التحري عن أخباره والاطمئنان عليه. كان يشاركني القلق الناقد المرموق أحمد الزين. قررنا معًا السفر إلى محترفه هذا دون موعد لأنه لا يرد على الهاتف، ورافقتنا زوجتي التي كانت تعرفه وتجلّه مثلي.
وكانت مفاجأة سعيدة، ما أن تناهى صوتنا ونحن نناقش أحد أقربائه في باحة المنزل حتى فتح باب محترفه في الطابق الأول مشرقًا وندّت عنه صرخة الترحاب الرنانة المحتفية كعادته قائلًا
«ولك يا أسعد فينك أنت؟» أغبطتنا المفاجأة. عرفني للتو وكان يعرف بأني أقيم معرضًا، فبادر بالطلب بمرافقته لزيارته، عرف البقية أقل ولكنّه كان في حال من التفتح والهمة والديناميكية تتناقض مع ما يشاع عن مرضه الذي أقعده، سرعان ما اعتلينا الدرج ليبدأ عناقه لنا. هالنا بالمقابل وضع المحترف، إهماله منذ دهور دون تنظيف وناهيك عن أكوام اللوحات الفوضوية على غير مألوف عادته المنظمة.
اختلطت في هذا اللقاء غبطة الشوق بالحزن على حال عزلته التي لا تستحقها رهافته وطيبته. سألته عن أعماله الأخيرة المثيرة المصورة على جذوع الأشجار، أجابني بأسف وحيرة بأنها اختفت ولا يعرف مصيرها. علمت عند عودتي إلى باريس بأن مكتبته ولوحاته وأسطواناته انتقلت إلى محترف عقيلته تحت الوصاية وبدعوى ذريعة حمايتها من التسوّس.
جرت زيارتنا اليتيمة خلال أيام بداية العام الماضي. توفي منذ أيام مساء الثامن من كانون الثاني أو صباح التاسع أو قبل ذلك من العام الراهن، لا أحد يعرف لأنه أغمض عينيه في غمرة وحدته دون مرافقة، وغار العالم في حداد مديد على فراقه المفاجئ فلم يكن مرضه قد استفحل بعد!

*          *          *

من الطبيعي أن يولد الفنان (مثل كل الناس) وحيدًا لكن مهنته تفرض عليه الاختلاء مع لوحته أغلب نهاره وأطراف ليله وحيدًا، لدرجة أن بعض الفنانين المتواضعي الموهبة لا يحتملون هذا الاعتزال الوجودي، فيتوقفون عن التصوير ويؤثرون دعم علاقاتهم الاجتماعية المصلحية والسلطوية. لكنه من المحزن أن يودّع كائن مبدع مثل علي عالمنا وهو خالي الوفاض: بلا كتب ولا لوحات ولا أسطوانات، وكأنه كتب عليه حصار الخواء الكافكاوي ووحشة القهر، قد يكون هذا مما عجل في وفاته. فما أن عبر العام الجديد ٢٠١٩ م حتى خرج منه إلى الأبدية!
تحت عنوان «ألوان علي شمس لا تعرف الغروب» كتبت عنه إثر عودتي، أي الجزء الأول قبل وفاته، وها أنذا أكرر العنوان في الحلقة الثانية بعد وفاته. يبدو أن افتقادي له سيدوم طويلًا رحمه الله. ولن يخفف من بلوى محبيه وتلامذته سوى تخصيص معرض أو متحف لتخليد مسيرته الفنية التي نالت ما يكفي من "الإجحاف" وقبل أن يفرط بميراثه أوصياؤه وورثته.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.