}

جمانة عبّود.. توثيق علاقة الفلسطينيّ مع الوطن والأرض والماء

يوسف الشايب 26 فبراير 2019
تشكيل جمانة عبّود.. توثيق علاقة الفلسطينيّ مع الوطن والأرض والماء
جمانة عبود
أطلقت الفنانة الفلسطينية جمانة عبّود، مؤخراً، كتاباً جديداً يوثّق لعدد من أعمالها، حمل عنوان "أنتظر شوقاً في عيون الحرامية"، والمقصود هنا جمع "عين" (نبع ماء)، ليستحيل الكتاب الذي يحتوي على صور ولوحات وأشعار إلى مساحة فنية جديدة.
وأشارت عبّود في حديث لـ"ضفة ثالثة"، إلى أن في الكتاب توثيقاً لمشاريع فنية عملت وتعمل عليها منذ ثمانية إلى تسعة أعوام.. "كنا حلمنا أنا والقيّمة لارا الخالدي أن يتم توثيق كافة مراحل هذه المشاريع، بل كافة المشاريع أيضاً، لكن في نهاية المطاف خرج مركّزاً، بحيث تناول مشروعين، يقومان على التعاطي مع الفولكلور الفلسطيني، والأساطير، والعلاقة مع الوطن، والأرض، والماء"، لافتة إلى أن الهدف من الكتاب "يتجاوز توثيق أعمال فنية، بل طرح تساؤلات تنهل من الأساطير باتجاه الواقع، وخاصة ما يتمحور حول علاقتنا بالأرض، وكيف يمكن تجييرها لفهم هذه الجدلية، بل وربما التساؤل عن: من نحن؟ وأين نحن الآن؟".
أما القيّمة لارا الخالدي، فأشارت إلى أن هذا الكتاب يذهب إلى جهة تحويل مشاريع الفنانة جمانة عبّود داخل كتاب يتمثّل في حيّز معرضي، بحيث يتناول إعادة تركيب لعمليها "لا أشعر بشيء"، و"مسكونة"، وهو مشروع عملت عليه لخمسة أعوام، عبر زيارات متكررة لعيون ماء في فلسطين، بالاتكاء على دراسة حول الأساطير وعيون الماء لتوفيق كنعان، تتطرق لرصد الموروث الشعبي حول هذه العيون وما يسكنها من عفاريت مفترضة، وهو مشروع متعدد الوسائط ما بين فيديو، وأعمال رسم، ونحت، وأشعار، وغيرها.

ليس مجرّد عمل توثيقي
وقالت الخالدي لـ"ضفة ثالثة": الفنانة جمانة عبّود تتعاطى مع المشهد الطبيعي الفلسطيني، وعلى الدوام، بشكل مغاير كلياً، بحيث تعيد تكوينه، وتعيد تكوين علاقتنا وإياه، وأيضاً مع الفولكلور الفلسطيني، بل وتعيد هذه اللغة إلى الواجهة كثقافة مشتركة ومُوحِدة، وربط هذا الفولكلور بالأرض، التي هي محور مشاريعها، ومن هنا فالكتاب منتج فني جديد، وليس مجرد عمل توثيقي.
ويحتوي الكتاب الصادر بالإنكليزية على أشعار لصاحبته، وعلى يوميات من رحلاتها إلى حيث

عيون المياه، وصور، ولوحات، ومقتطفات مجتزأة بصرياً من أفلام أو منحوتات، إضافة إلى مقالين للناقدة الفنية تينا شرويل، والروائية مارينا وورنر، والأخيرة تناولت العلاقة ما بين أعمال جمانة عبّود والفولكلور العالمي، في حين تناولت الأولى علاقة هذه الأعمال بالمشهد الطبيعي في فلسطين، والكيفية ذات النكهة الخاصة في التعاطي مع هذا المشهد.

سلسلة بدأت بـ"العودة"
وأشارت عبّود في ندوة إطلاق الكتاب في مركز خليل السكاكيني الثقافي بمدينة رام الله، إلى أن مشاريعها الفنية، ومنذ عشرين عاماً، عبارة عن سلسلة من المشاريع المرتبطة إلى حد كبير ببعضها البعض، وكان أولها فيديو في العام 2002 تحت اسم "العودة"، والذي يجسد حالتها هي العائدة من كندا، وما يتمحور حول الجذور والانتماء، والإحساس بالوطن، وفيه توجهت إلى الأساطير، حيث تتبعت أسطورة ألمانية تتحدث عن شقيقين ذكر وأنثى يضيعان في الغابة، ويضعان قطعاً من الخبز كي يتمكنا من العودة إلى المنزل بتتبع هذه القطع، إلا أن العصافير تأكل هذه القطع فيبقيان في حالة من التيه.. "صحيح أن الأسطورة لم تكن فلسطينية، لكنني تحدثت في العمل عمّا هو قريب مني، أو شعرته كذلك، أي معنى العودة بكامل تجلياتها، إلى الوطن، والأرض، واللغة، والحبيبة، وغير ذلك، في محاولة لإعادة نسج العلاقة مع المكان، كاشفة أن الحكايات التي ورثتها وهي طفلة صغيرة عن ذويها، هي التي صاغت علاقة انتمائها لوطنها وأرضها.

لا أشعر بشيء
وحول مشروعها "لا أشعر بشيء"، أشارت عبّود إلى أنه كان نتاج إقامة فنية في لندن عام 2012، وهي الإقامة التي جعلتها تكمل هذا المشروع الذي كانت تعمل عليه منذ سنوات، وسبقه مشروعها الفني "يا حوت لا توكل قمرنا".. وقالت: عبر أصدقائي حاولت التعرف إلى الحكايات والأساطير التي كانت تنتقل عبر الكبار إليّ وإلى أبناء جيلي، فما يقال في فلسطين لأطفالها، ربما يختلف عمّا كان يقال لأطفال فلسطين خارجها، وهنا استرجعت حكايات "عيون الماء" التي كانوا يحذروننا من الاقتراب منها بادعاء أن "غولة تأكل الأطفال" تسكن على مقربة منها، وبدأت بملاحقة أساطير "العيون"، واكتشفت عام 2009 أنه مشروع كبير يحتاج إلى كثير من الوقت والجهد، فخرجت وقتها بمشروع "يا حوت لا توكل قمرنا" والقادم من

أسطورة تأويل كسوف القمر، والطلب منا كأطفال بحمل ملاعق والتوسل إلى الحوت بألا يأكل قمرنا، وبالتالي يسود الظلام، ونتج مشروع متكامل منه أداء تمثيلي لعدد من الأطفال.
وفي لندن، خرجت بمشروع "لا أشعر بشيء"، والمأخوذ من أسطورة "الكتعة"، أي الفتاة مقطوعة اليدين، وهي أسطورة فلسطينية تفيد بأن زوجة الأخ تشي له بأن شقيقته "غولة" فيقوم بتقطيع أطرافها العليا والسفلى، مع أن الشقيقة تنفي ذلك جملة وتفصيلا، لكنه لا يصدّقها، مع أن زوجته تكون هي "الغولة الحقيقية".
ولفتت عبّود إلى أن مشاريعها الفنية لا تسعى لتوثيق هذه الحكايات، بقدر ترميزها وتأويلها بطريقة فنية، وكان التركيز هنا على فقدان حاسة اللمس، والتوسع باتجاه فقدان أي من حواسنا الأساسية، والتي قد ترمز أيضاً إلى علاقتنا مع الأرض، وعلاقتنا نحن الفلسطينيين مع ذاكرتنا وهويتنا، وحالة البتر التي قد تطاول هذه العلاقة.

قصائد في أعمال فنية
وحول اتجاهها للشعر بالإنكليزية في عدد من أعمالها الفنية، قالت عبّود إنها ترى في الشعر وسيلة فنية أساسية للتعبير، مشدّدة على أن الهدف أيضاً من وراء القصائد ليس إعادة رواية الحكاية أو الأسطورة، وإن كان سؤال ماهية "الراوي" و"الرواية" يرافقها باستمرار، "لذا أتعامل مع أي مشروع فني قائم على أسطورة ما وفق عدة طبقات، وصوتي وقصائدي جزء من تكوين هذه الطبقات المفتوحة على تأويلات عدّة".
وقالت: حين أختار أسطورة ما لأبني عليها مشروعاً فنياً، فإنني أعمد إلى تحطيمها، ومن ثم إعادة بنائها، بطريقة حميمية ربما، تمسّ المشاهد عبر إعادة تكوين العلاقة ما بين الأسطورة والمتلقي أيضاً، وهنا لا يخرج فن الأداء في هذه المشاريع عن هذا الإطار، الذي يأخذ هذه الأساطير إلى تركيب جديد، من بينه إعادة رواية الأسطورة شعرياً عبر نصوص أكتبها خصيصاً لهذا الهدف.

"مسكونة"
ما بعد مشروع "لا أشعر بشيء"، عاودت عبّود البحث عن أساطير عيون الماء، منذ مطلع عام 2013، بمرافقة المصور عيسى فريج، وهي رحلة تتبّعت فيها توفيق كنعان الذي كتب حول الأمر في عام 1922، وهي رحلة بدأت بعد قرابة التسعين عاماً مما كتب.
وكان مما كتبه كنعان نص بعنوان "احترام الينابيع والمياه.. بين بركة الأولياء ولعنة العفاريت"، ومما جاء فيه: لعب الماء ولا يزال يلعب دورا هاما في حياة الفلسطينيين يفوق دوره في حياة الأوروبيين. يرجع ذلك إلى طبيعة البلاد وندرة المياه فيها. ونظرا لشدة الحاجة إليه يثمّن عالياً؛ وهكذا فإننا نواجه الحاجة إلى الماء في الشعائر الدينية وأعمال السحر والطب الشعبي (...) كانت الينابيع المنتشرة في الجبال، والتي تصب ماءها لفائدة الإنسان والزراعة، ولا تزال، لغزا بالنسبة للعقل الشرقي؛ وكان هذا هو السبب الأول لإضفاء القوة الخارقة عليها. وأضاف: من المعتقدات القديمة المنتشرة في فلسطين أن الينابيع والآبار وكل المياه مسكونة بالأرواح الخيرة، مثل أرواح الأتقياء الذين دفنوا قريبا من الينبوع أو الأولياء الآخرين، أو "مسكونة" بالأرواح الشريرة، "العفاريت". ولبعض الينابيع قدرة شفائية في حصر البول، مثلاً، دون أن تكون لها علاقة مع أي ولي، وفي المقابل، يظهر الماء المسكون بأرواح الأولياء قوة خارقة في الشفاء من الأمراض، تظهر في عيد ذلك الولي. ومن يلوث جدولاً من الماء يعاقب من قبل الروح التي تسكنه. وكذلك تجد من الينابيع "المحروسة بأرواح شريرة" ما هو شديد الضرر وما هو أقل ضرراً. تأخذ هذه الأرواح أشكالاً متعددة عندما تظهر كالحيوانات، وتظهر أيضا على شكل "عبد أو عبدة أو غول أو غولة أو مارد، والمارد هو أكثر الأرواح إيذاءً".
وأشارت عبّود إلى أن من بين صعوبات تتبع ينابيع الماء، هو تغيّر أسمائها مع تقادم الزمن، سواء تلك التي في القدس، أو نابلس وضواحيها، أو في ريف رام الله.. و"بعد رحلة بحث تواصلت ثلاثة أعوام، تمكنّا من العثور على عشرين نبع ماء من بين قرابة المئة كان كنعان قد ذكرها في كتبه ومقالاته، ومع كل زيارة كنت أعود بحكايات من الناس حول هذه العيون"،

لتربط ما بين الواقع المعاش تحت الاحتلال، وخاصة الحواجز العسكرية التي تقطع أوصال الضفة الغربية، والجدار الذي غيّر الجغرافيا، بل وأعاد تركيبها على عكس أي خريطة لفلسطين، بالتوازي مع رصد رحلة البحث على أكثر من طبقة، وفي أكثر من تعبير فنّي، لافتة إلى أن حكايات كثيرة لا تزال بحاجة إلى مزيد من البحث، وربما مزيد من المشاريع الفنية، وهو ما اكتشفته في علاقة "بدو بيت إكسا مع الماء"، على سبيل المثال.. "كنّا نبحث في المناطق المختلفة عن العيون، فنعثر على بعضها، ولا نعثر على الكثير منها، التي يتذكرها المسنّون فقط، وهنا تتحول عملية البحث من تاريخية وجغرافية إلى واقعها الحالي: أين هي؟ وتحت سيطرة من اليوم؟ بالإضافة إلى قصص وحكايات جديدة تولدت حولها عبر الزمن، وهي حكاية الذاكرة والهوية، وعلاقتنا بالأرض، وتكوين هذه العلاقة عبر حكايات جديدة، نرصدها، ونوثقها، عبر مشاريع فنية، وفي أكثر من آلية تعبير".
وختمت عبّود بالقول: كل أسطورة عبارة عن قصّة في نهاية المطاف، وكل قصّة اليوم قد تشكل أسطورة مستقبلية، بغض النظر عن منسوب الخيال الذي تحتويه، ومجموع هذه القصص هو ما يشكل الذاكرة الفلسطينية التي بتوارثها، وتواليها، وتسلسلها، يمكن أن تحفظ الأرض.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.