}

الحياة الثانية لـ"مسرح ثيربانتس" الكبير في طنجة

نجيب مبارك 15 فبراير 2019
مسرح الحياة الثانية لـ"مسرح ثيربانتس" الكبير في طنجة
حياة ثانية لـ"مسرح "ثيربانتس" الكبير في طنجة
بعد سنوات من الانتظار، وافقت الحكومة الإسبانية مؤخّرًا على أن تتبرّع للمغرب ببناية المسرح الكبير "ثيربانتس" بمدينة طنجة، أحد أشهر المعالم التاريخية والثقافية للمدينة خلال فترتها الذهبية في القرن الماضي. 
وقد تمّ نقل ملكية هذا المسرح إلى المغرب من خلال توقيع بروتوكول سيخضع لمصادقة البرلمان الإسباني لاحقًا. وجاء هذا القرار بعد عرض قدمته الحكومة المغربية قبل سنوات، من أجل ترميم هذا الصرح الفني وصيانته والإشراف على إدارته مقابل تملّكه بشكل دائم، مع الالتزام بالمحافظة على الطابع الإسباني في البرنامج الثقافي لهذه المؤسسة. وبموجب هذه الهدية الثمينة، أصبح "مسرح ثيربانتس" الكبير مسرحًا مغربيًا لأوّل مرة في تاريخه، في انتظار بعث الحياة فيه من جديد.

حفة معمارية بامتياز
يحمل "مسرح ثيربانتس" الكبير ملامح العصر الذهبي لمدينة طنجة، حين كانت المدينة منطقة دولية، حيث كان يعدّ من أكبر المسارح في المغرب وشمال أفريقيا، لأنه كان يتوفّر على أزيد مــن 1400 مقعد. أما تاريخ إنشائه فيعود إلى أكثر من قرن، بمبادرة من مانويل بينا، وهو مهاجر اسباني استقرّ في طنجة، وكان من أكبر ملاك الأراضي فيها، ليكون هدية إلى زوجته اسبيرانزا أوريلانا. وقد افتتح رسميًا في 12 دجنبر 1913، بعد سنتين من وضع حجره الأساس في 2 أبريل 1911، واختير له اسم عبقري الأدب الإسباني ثيربانتس، وحضر افتتاحه العديد من الشخصيات الأوربية والمغربية، لأنه اعتبر آنذاك من أعظم الأحداث

والإنجازات في المدينة.
أراد مانويل بينا لمسرحه أن يكون تحفة فنية معمارية بامتياز، فاستعان بمهندسين معماريين بارزين، على رأسهم المهندس المعماري الإسباني دييغو خيمينيث، الذي وضع التصاميم الهندسية للبناية على الطراز الإسباني، المستوحاة من أكبر مسارح أوروبا القرن التاسع عشر، على غرار "مسرح ثارثويلا" الموجود في العاصمة الإسبانية مدريد. واستعان أيضًا بالفنان الإسباني التشكيلي فيديريكو ريبيرا، أحد أكبر الفنانين الإسبان في مطلع القرن العشرين، وهو من قام بتزيين قبّة المسرح برسومات وزخارف فريدة ذات الطابع الكلاسيكي. أما أول عرض افتتح به "مسرح ثيربانتس" فكان عرضًا سينمائيًا صامتا بعنوان "Quo vadis"،  تلاه بعد ذلك بأربعة أيام وثائقي عن الاستعمار الفرنسي.

ازدهار فنّي كبير
حرص الزوجان أسبرانزا أولينيا ومانويل بينيا، خلال فترة إدارتهما للمسرح، على دعوة أكبر عدد من أشهر الفرق المسرحية والموسيقية الإسبانية والفرنسية، الّتي حقّقت مجدها فـي تلـك الأيـام. وحتى بعد انتقال ملكيته إلى الدولة الإسبانية عام 1928، استمرّ المسرح في احتضان حفلات موسـيقية وأوبراليـة، من تلك التي تعرض في المسارح الكبرى، كمسرح الأولمبيا في باريس ومسارح لندن وموســـكو ورومــا،  على غرار أوبرا "دون جيوفاني" الإيطالية، كما تناوب على خشبته كبار المطربين والمطربات مثل أنطونيو كاروزو، باتي أدلين، وخوانيتا ريينا (1947)، إرستريل ليتا، ولولا فلورس (1949). أما بالنسبة للأعمال المسرحية، فقد عرض أعمالاً كثيرة من كلاسيكيات عظماء المسرح العالمي، من موليير حتى شكسبير مرورًا بلوركا وبيكيت وغيرهم. كما استضاف سهرات راقصة وعروضا لفنون البهلوان، ومباريات للملاكمة والجمباز والألعاب السحرية، إضافة إلى التجمعات الخطابية والمحاضرات والملتقيات الثقافية، بحيث كان مقصدًا لكبار الأدباء المغاربة والأجانب المقيمين في طنجة.
من جهة أخرى، استضاف هذا المسرح العديد من الفرق المسرحية العربية والمغربية، كفرقة يوسف وهبي وفرقة فاطمة رشدي، ومُثّلت على خشبته مسرحيات "صلاح الدين الأيوبي" و"مجنون ليلى" و"موسى بن نصير" و"الرشيد والبرامكة" و"كليلة ودمنة" وغيرها. كما شهد لقاء سياسيًا مع أمير البيان اللبناني شكيب أرسلان خلال زيارته لطنجة في بداية الثلاثينيات. ولا يجب أن نغفل أنه، بدءًا من عشرينيات القرن الماضي، ظهرت نخبة من المثقفين الطنجيين كانت تسعى وتُخَطِّط لوحدة وتحرير الوطن، فاتخذت من هذا المسرح منبرا للتعبير، وقد تستّرت تحت غطاء جمعيات رياضية وكشفية وثقافية، وكان من بينها "جمعية الهلال" التي تم توقيفها ومنع نشاطها سنة 1934م.

الاستقلال: بداية النهاية
مع بداية الخمسينيات، بدأ "مسرح ثيربانتس" الكبير يعرف بعض الصعوبات. في تلك الفترة، عرفت مدينة طنجة ازدهارا وتنوعا كبيرين في وسائل الترفيه المتاحة أمام الجمهور، لهذا فكر المسؤولون عن المسرح تغيير الديكور وتنويع الأنشطة الفنية المعروضة من خلال تقديم برامج جديدة، لعل أغربها احتضانه لمباريات في المصارعة الحرة!
ومع استقلال المغرب سنة 1956، وعودة طنجة إلى حضن الوطن وإلغاء نظام الإدارة الدولية، انتهى العصر الذهبي لهذا المسرح العتيد، وفقد بريقه السابق وحضوره الوازن على الساحة الثقافية للمدينة، بسبب تراجع أعداد المقيمين الأجانب، وإقدام السلطات على تحويله من مسرح إلى قاعة سينما، لم تعرف نجاحا يذكر لسوء التنظيم وتواضع الأفلام المعروضة.  وهكذا، سيتم إقفاله نهائياً عام 1962. وفي عام 1974، قامت السلطات الإسبانية بتسليمه

لبلدية طنجة بناء على عقد كراء بثمن رمزي جدًا، لكن المسرح لم يفتح أبوابه رغم ذلك، لأنه كان يحتاج لاستثمارات ضخمة من أجل ترميمه وتجديد مرافقه. وظل على هذه الوضعية إلى حين فسخ عقد الكراء سنة 1992، لتستعيده السلطات الإسبانية من جديد، من دون أن تقوم بأيّ مبادرة لإحياء مجده القديم.
إنّ "مسرح ثيربانتس" الكبير بناية ذات قيمة معمارية وثقافية كانت تتطلّب استثمارًا كبيرًا لإعادة تأهيلها. ولأنّ مختلف الحكومات الإسبانية المختلفة عجزت عن القيام بهذا الاستثمار، وبعد دراسة الخيارات الممكنة لتنفيذها، قرّرت خلال الأسبوع الماضي المضي قدمًا بوهب ملكيته إلى المغرب، استجابة لعرض سابق من الحكومة المغربية لاستعادة وإدارة المسرح في مقابل ترميمه مع الالتزام بالحفاظ على طابع الثقافة والهوية الإسبانية للبناية. وبعد أن تحقّق حلم انتقال الملكية رسميًا، يبقى الآن على المسؤولين المغاربة، سواء في وزارة الثقافة أو في مدينة طنجة، أن يدرسوا أفضل المشاريع والسيناريوهات من أجل ترميم هذا المعلم التاريخي، والحفاظ على إرثه الثقافي والفنّي الكبير، وبعث الحياة فيه من جديد.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.