}

الأسطورة في الفنون البصرية.. تاريخ عابر للزمن

سارة عابدين 5 ديسمبر 2019
تشكيل الأسطورة في الفنون البصرية.. تاريخ عابر للزمن
لوحة "مينوتور يهاجم فتاة" لبابلو بيكاسو
يقول برونيسلاف مالينوفسكي، مؤسس علم الأنثربولوجي، إن هناك ارتباطاً بين السحر والدين والفن، ويعتبر أن الأسطورة لها دور كبير على الصعيد الفني، حيث يرى أن نشأة الأسطورة ربما كانت بدافع حضاري، لكن لا يمكن التغاضي عن الجانب الفني فيها، لأنها تنطوي على بذور نشأة الفن. وكثيرا ما قيل إن الأسطورة والدين مهمتهما تهدئة مشاعر الخوف داخل الإنسان عن طريق تفسير العالم والظواهر الغيبية فيه، لأن الخوف غريزة بيولوجية لا يمكن قهرها أو قمعها ولكن يمكن تغيير صورتها، ومن هنا جاءت الأساطير المشبعة بالانفعالات والرؤى والأفكار، لكن الإنسان تعلم عن طريق الفن والأسطورة القدرة على التعبير عن أحلامه ومخاوفه، وبالرغم من أنها لم تعط إجابات عقلانية على تساؤلات الإنسان، فإنها سبقت الفلسفة بأمد كبير.

قد تبدو القصص الأسطورية غير منطقية ومحيرة بالنسبة لعقولنا في الوقت الحالي، إلا أنها كانت مناسبة لتفسير العالم، وأصبحت جزءاً لا يتجزأ من الحضارات والثقافات، ليس فقط لأنها مليئة بالدراما وتداخل حياة البشر والآلهة، والتحولات السحرية، لكن لأنها تستكشف النفوس البشرية وعلاقات البشر وصراعاتهم الخاصة.



الأسطورة في لوحات هيرونيموس بوش
اعتاد الفنان الهولندي هيرونيموس بوش (1450- 1516) تصوير الأساطير الدينية والأفكار الخيالية، ومن أشهر تلك اللوحات لوحة "حديقة المسرات الأرضية" وهي من أهم اللوحات في عصر النهضة الهولندية بالقرن السادس عشر. تتكون اللوحة من ثلاث لوحات مليئة بالشخصيات الغريبة والمخلوقات السريالية. اللوحات مستلهمة من الفكرة الدينية التي صورها الشاعر الإيطالي دانتي في كتابه "الكوميديا الإلهية - الجحيم، المطهر، الفردوس". يقع الفردوس على اليسار والجحيم على اليمين، وحديقة المتع الدنيوية بينهما.
تقدم اللوحات بشخوصها السريالية تصورا لشكل الحياة على الأرض، وماذا يمكن أن يحدث للإنسان في الجحيم، وتحذيرات أخلاقية ضد اتباع الشهوات والغرائز، التي تؤدي في النهاية إلى اللعنة الأبدية، وأخيرا جنة عدن التي تمتلئ بالمروج الخضراء والأشجار المثمرة، وهي تمثيل بصري لحكاية أسطورية وعقائدية في مختلف الديانات.

 لوحة "حديقة المسرات الأرضية" وهي من أهم اللوحات في عصر النهضة الهولندية بالقرن السادس عشر


















الأسطورة في أعمال ويليام بليك
مثل العديد من معاصريه كان بليك مهتما بثقافة العصور الوسطى التي ترتكز بشكل كبير على حكايات وأساطير المسيحية والكتاب المقدس. لكن بالنسبة له قدمت الهندسة المعمارية والنحت أكثر من مجرد أشكال فنية للإلهام، فقد مثلت القيم الروحية والجمالية التي تمثل النزاهة الروحية التي يطمح إليها الفن، واعتبر طرقه المختلفة للتعبير بصريا وأدبيا، مدخله إلى عالم الخيال الذي اعتبره أكثر شاعرية من الواقع المرئي، وعالم الحواس المادية، خاصة مع إيمانه الشديد بحقيقة رؤاه.
اتخذ وليام بليك عن طريق فنه البصري والشعري موقفا جماليا وسياسيا ونقديا، من خلال استعمال القصص الأسطورية والشخصيات الدينية والشيطانية. وادعى منذ صغره أن لديه رؤى تظهر فيها الأرواح والملائكة، وكان أثر تلك الرؤى الشخصية واضحا في موضوعاته المتكررة، خاصة في لوحات الحفر النحاسية الـ21 التي قام بتنفيذها لتوضيح آيات الكتاب المقدس. أدرج بليك في تلك اللوحات رموزاً وأساطير مضفرة مع تفسيراته ورؤيته الشخصية للآيات وللشيطان والإله، ليصبح مضمون تلك اللوحات شخصيا ومعقدا، ومتعدد الطبقات بشكل يثير الجدل حولها حتى الآن.

أسطورة إيكاروس وتناولها في الفنون
تدور أسطورة إيكاروس وديدالوس اليونانية حول الأب ديدالوس المعماري الذي قام ببناء متاهة للملك لحبس المينوتور، لكن نتيجة لأخطاء الأب والابن، حبسهما الملك بداخل المتاهة التي بناها الأب. وقام ديدالوس بصنع أجنحة له ولابنه من الريش وثبتاها بالشمع، وحذر الأب ابنه من الطيران بالقرب من الشمس، حتى لا ينصهر الشمع وتسقط الأجنحة، وهو ما حدث بالفعل، حيث سقط إيكاروس في البحر ومات غريقا قرب جزيرة إيكاريا.
تعتبر تلك الأسطورة أفضل قصة رمزية للتعبير عن الفشل الإنساني، حيث كان يمكن لإيكاروس أن يكمل مسيرة هروبه في أمان لو كان استجاب لنصيحة والده بعدم الطيران قرب الشمس.
أشهر من تناول إيكاروس في الفن الحديث هو الفنان الفرنسي هنري ماتيس. تظهر لوحة ماتيس بشكل تجريدي وبسيط ومختزل للأسطورة وتفاصيلها، بصورة ظلية سوداء تمثل إيكاروس هائما في فراغ أزرق، تحيطه شموس صغيرة، مع نقطة حمراء صغيرة تمثل قلبه.
العمل نفسه يمثل محاولة جديدة لماتيس عام 1943 في ذروة الحرب العالمية الثانية، عندما كان ماتيس طريح الفراش ولم يعد قادرا على استخدام الألوان، لذلك قام باستخدام تقنية أكثر بساطة، أطلق عليها الرسم بالمقص، وهي عبارة عن استخدام الورق الملون بصورة تشبه الكولاج لكن أكثر تجريدا وبساطة. اللوحة تمثل أبسط تمثيلات الأساطير في الفنون البصرية وأكثرها اختزالا وتكثيفا.
ربما كانت لوحة ماتيس هي الأكثر تجريدية في تقديم الأسطورة، لكن هناك عرض الفنان المفاهيمي الأميركي كوريس بوردين، الذي يعتبر الأكثر صدمة وغرابة في تقديم الأسطورة، إذ يفكر المتفرج كيف يمكن الربط بين أسطورة كلاسيكية قديمة جدا، وبين نوع فني شديد الحداثة يحاول دفع الحدود الفنية إلى أقصاها. ظهر بوردين عاريا طوال العرض، راقدا بين جناحين من النار، بعد أن صب البنزين على الأجنحة أمام الجماهير المصدومة، وربما كان العري الذي يبدو صادما هو التماس الأقرب في العرض مع الأسطورة القديمة والشخوص الأسطورية بأجسادها العارية.

أسطورة المينوتور بين أكثر من تناول فني
تدور أسطورة المينوتور حول الفتاة باسيفاي التي أحبت الثور الأبيض ومارست معه الحب، وأنجبت المينوتور، وهو عبارة عن مخلوق نصفه رجل ونصفه الآخر ثور. والقصة بالرغم من مرور آلاف السنين عليها ما زالت صالحة لعدة تناولات مختلفة، بين التفسير الحرفي للأسطورة، وبين من اعتبر الثور إشارة إلى رجل شرس أو عنيف للغاية، بشكل يجسد مفاهيم الذكورة قديما وحديثا.

من الفنانين الذين تناولوا أسطورة المينوتور الأميركي جاكسون بولوك في لوحته "Pasiphae"   


















أعاد بيكاسو سرد أسطورة المينوتور في لوحة "مينوتور يهاجم فتاة" 1933 خلال فترة مضطربة من حياته العاطفية وعلاقاته النسائية، بالإضافة إلى أن التعبير الرمزي للوحة يشير إلى القوة والوحشية التي تكمن تحت سطح الحياة المتحضرة، لكنه لم يصوره لمرة واحدة فقط. صوره بيكاسو في أكثر من لوحة مثل لوحة "فتاة تجلس مع المينوتور النائم"، وفي هذه اللوحة يظهر تحول كبير في تناول بيكاسو للمينوتور، ليبدو أكثر وداعة بشكل يدعو للتعاطف معه، عكس المينوتور في اللوحة الأولى، وربما يعيدنا هذا التضاد إلى فكرة بيكاسو الشخصية عن نفسه، والصفات المتباينة التي كان يحملها كفنان وعاشق وإنسان.
ومن الفنانين الذين تناولوا أسطورة المينوتور الأميركي جاكسون بولوك في لوحته التي رسمها عام 1943 "Pasiphae" خاصة بعدما جلب الفنانون السرياليون أفكارهم إلى أميركا، خلال سنوات الحرب، ولا سيما الاهتمام بالأفكار البدائية الأصلية، والتقنيات الفنية التي تشجع الفنان على التخلي عن السيطرة الواعية على القلم والفرشاة، لخلق لوحات تؤدي إلى ارتباطات فنية مفاهيمية.
كعادة لوحات بولوك لم تكن اللوحة مخططة مسبقا، لكن الخطوط المتداخلة والديناميكية فيها بمثابة استعارة للتوتر الجنسي والعنف بين الشخصيات المتعارضة، التي يشير وضعها إلى طقوس الماضي الأسطوري، في إشارة إلى أن الأساطير تجسّد الحقائق الإنسانية العالمية بشكل رمزي.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.