}

فوتوغرافيا ريتشارد ليرويد بلاهاي.. تماثيل من لحم ودم

عماد فؤاد 4 ديسمبر 2019
فوتوغراف فوتوغرافيا ريتشارد ليرويد بلاهاي.. تماثيل من لحم ودم
"صور ريتشارد ليرويد تجعلنا نستعيد لوحات عصر النّهضة"
يحدث أن تقودك قدماك إلى عمل فنّي ما، فتخرج منه غير ما دخلت، كأنّ ما رأيته بين جدرانه ترك في نفسك ما لن يُمحى بسهولة. هكذا شعرت وأنا أخرج من متحف الصورة في مدينة لاهاي الهولندية، بعد جولة طويلة بين صور الفوتوغرافي البريطاني ريتشارد ليرويد (1966)، والذي يعتبر اليوم واحداً من أشهر الفوتوغرافيّين الجدد في أوروبا، بفضل الطّريقة المبتكرة التي سنّها لنفسه في أعماله، حيث تخلّى بشكل نهائي عن جميع التّقنيّات الحديثة في التّصوير الدّيجيتال، وعاد إلى الطّرق البدائيّة التي عرفها التّصوير في بداية القرن التّاسع عشر.

يكفي أن نقول إنّ ليرويد، بهذا المعنى، يلتقط صوره باستخدام كاميرا غير مسبوقة تعمل بالطّريقة القديمة للتّصوير الفوتوغرافي إبان اكتشافه الأوّل، حيث بنى مصوّرنا كاميرته بنفسه والمكونة من غرفتين معتمتين متجاورتين، والصّور الناتجة عن هذه الطّريقة ليس لها نيجاتيف أو أصول يمكن الرّجوع إليها، لذلك تمثّل كلّ صورة قطعة فنّية لا يمكن لها أن تتكرّر. بهذا المعنى تتجذّر صور ليرويد في الماضي، متضمّنة كذلك العديد من العلائق مع فنّ اللوحة التّشكيلية، والرّسامين الكبار الذين اشتهروا باللعب مع الضّوء على ملامح الوجوه التي يرسمونها.
ولأنّه المعرض الأوّل لليرويد في هولندا، بعد جولة لأعماله في عدد من العواصم والمدن الأميركيّة والأوروبيّة: نيويورك، لوس أنجلوس، سان فرانسيسكو، أوتاوا، لندن، برشلونة وباريس، فقد حظي المعرض، الذي افتتح تحت عنوان "أكبر من الحياة"، في 5 أكتوبر/تشرين الأول ويستمر حتى 5 يناير/كانون الثاني المقبل، باهتمام واسع في الإعلام الهولندي والبلجيكي، وضم 50 صورة فوتوغرافية استثنائية بكلّ ما في الكلمة من معنى، بين أعمال ملوّنة وأخرى بالأبيض والأسود، ليسجّل المتحف حتى اليوم ما يقرب من 10 آلاف زيارة للمعرض.

 

 تتجذّر صور ليرويد في الماضي، متضمّنة كذلك العديد من العلائق مع فنّ اللوحة التّشكيلية 


















اصطياد الزمن
الملاحظة الأولى التي تلفت الانتباه في أعمال ليرويد الأخيرة بمتحف الصّورة في لاهاي، هي غلبة البورتريهات التي يقدّمها؛ وجوه حادّة الملامح تنظر في الفراغ ونادراً ما تملك الجرأة للنّظر إلى الكاميرا مباشرة، وجوه ذات ملامح خاصّة ونافرة لن تُنسى بسهولة، بل تظلّ محفورة في ذهنك بقوّة، وكأنّ خلف اختيارها تكمن مواصفات خاصّة يريد المصوّر أن يؤرّخ لها، أغلب الصّور لفتيات شابّات، يجلسن في شرود وينظرن في الفراغ، الأذرع منسدلة في عجز والأكفّ معروقة والأصابع مضمومة أو متلامسة، ثمّة ما يجذب عين المشاهد مباشرة إلى العينين، حيث علامات استفهام أو غياب عن الواقع أو غضب مكتوم، نزولاً إلى الكفّين والأصابع التي لا أعرف لماذا وجدتها تذكّرني بأسلوب إيجون شيلي (1890 – 1918) الشّهير وولعه برسم الأصابع وإخفاء المشوّه منها في بورتريهاته التي رسمها لنفسه.

في الصّور التي يلتقطها ريتشارد ليرويد هناك حدّة في كلّ شيء، حدّة في التقاط أدقّ تفاصيل الوجه من ندوب أو نمش أو شامات أو خدوش، ولأنّ المصوّر يطبع صوره بأحجام كبيرة تفوق أحياناً الحجم الطّبيعي للأشخاص الموجودين بالصّورة، فإن شعوراً ما بعدم الارتياح يسيطر على المشاهد وهو ينتقل من صورة إلى أخرى، كأنّ ليرويد يُدخل المشاهد تحت جلد من يصوِّرهم، في كلّ مرّة ينظر المشاهد فيها إلى الصّور لا يجد إلا معنى واحداً هو الزّمن، الزّمن الذي نلحظه في ملامح الوجوه سواء كانت لذكور أو إناث، شابّة أم كهلة، كرمشات الجبهات والخطوط الغائرة في البشرة هي فريسة ريتشارد ليرويد في معرضه الجديد هذا، ولن يختلف الأمر بين صورة لباقة من الورد أو تجاعيد يد عجوز تضع كفّيها على عيني شابة، بين رأس مقطوع لحصان ميّت أو حتى لسيارة ثمينة وهي متفحّمة، وليرويد لا يبحث عن الزّمن والتّجاعيد والأخاديد الغائرة فقط في أوجه البشر، بل في جسد أرنب ميّت معلّق على حبل فيما ينقسم جسمه إلى ثقلين مشدودين بفعل الموت إلى أسفل، أو قلب ملفوف في خيوط ملوّنة ومعلّق كراية مهزوم في الفراغ، أو طائر بجع ميّت فيما جناحاه ينسدلان في استسلام من على طاولة.

 يخلق ليرويد صوراً ساحرة تحوم بين أناقة بورتريهات رينوار والواقع الرّاهن

















العدسة الاستثنائية
يخلق ريتشارد ليرويد صوراً ساحرة تحوم بين أناقة بورتريهات أوغست رينوار (1841 – 1919) والواقع الرّاهن. لكنّها تشتبك أولاً وأخيراً مع تقاليد فنّ التّصوير الفرنسي في القرن التّاسع عشر. بدأ مصوّرنا تجاربه أثناء دراسته بمدرسة غلاسكو للفنون باسكتلندا نهاية ثمانينّيات القرن الماضي. حينما أهداه توماس جوشوا كوبر (1946)، الرئيس المؤسّس لقسم التّصوير الفوتوغرافي بالمدرسة، عدسة كاميرا فوتوغرافيّة تعود إلى القرن التّاسع عشر كانت محفوظة في مكتبه، وهي العدسة التي بنى ليرويد على أساسها كاميرته الخاصة بعد 15 عاماً، وتحديداً عام 2004، حين بدأ تصميم كاميرته الغامضة عبر غرفتين متّصلتين في الاستوديو الخاص به. وتقوم عملية التّصوير بعدّة مراحل بدائيّة، يتمّ خلالها استخدام ورق طباعة خاص توقفت الشركة المصنّعة له عن إنتاجه منذ سنوات، لكن ليرويد استطاع أن يمتلك مخزوناً منه يكفيه كما يقول لـ 20 عاماً. ويتمّ وضع العدسة الخاصّة بين الغرفتين، وبما أنّه لا يوجد نيجاتيف لهذه العملية البدائيّة في التّصوير، فكلّ صورة تصبح فريدة من نوعها.
كلّ صورة يلتقطها ليرويد بتقنيته الغريبة هذه تأخذ الكثير من الوقت والعمل المضني، فبعد محاولاته العديدة لضبط الموديل والإضاءة والعدسة، يستمر في التقاط عدّة صور مع تبديل أوراق الطّباعة مع كلّ صورة، إلى أن يحصل على الصّورة التي يريدها، وبين الصّور جميعاً رابط شفّاف، خالجني للحظة أن ما يسعى إليه ليرويد في صوره ليس فقط رصده الحاد للقوّة الغامضة في أعين وملامح شخوصه الأحياء، بل نجد بحثه عن هذه القوّة غير المفهومة تتجلّى بوضوح في صوره الطّبيعية الصّامتة، في زهوره الملوّنة وهي تذبل ببطء في ركن معتم، أو في مشهد يصور جبلاً أو واد سحيق بين جبلين، أثر الزمن يتّضح في الحالات كلّها، وفي صور أخرى نلمح وجوداً لفكرة الموت وما بعده، من خلال رؤيتنا لكائناته الميّتة، هذا الموت أيضاً ليس موتاً سلبيّاً هنا، لكنّه موت يطرح أسئلة نراها تتوالد بداخلنا ونحن عاجزون عن فعل شيء تجاه هذه الأجساد الميّتة وهي معلّقة في الهواء هكذا أمامنا: أرنب، سمكة، رأس حصان مقطوع، الموت ذاته هو ما نجده في الوجوه والأعين المتسائلة، تلك النّاظرة في البعيد أو الغائبة عمّا يحدث حولها.
يبدو الأشخاص في صور ريتشارد ليرويد كأنّهم في لحظة تأمّل أو يأس أو تساؤل عميقة، كأنّهم وجدوا أنفسهم فجأة في تلك المسافة بين الحلم واليقظة، ساكنين ومتجمّدين في جلساتهم التي توحي للمشاهد كأنّه أمام تماثيل حيّة من لحم ودم، محفورة بحدّة الكاميرا الحسّاسة التي ترصد كلّ نأمة في الوجوه والنّظرات وتحديق الأعين، تستطيع عدسة ليرويد القويّة أن ترينا بقايا مساحيق التّجميل على الوجوه التي تزيّنت بها في الليلة السّابقة على التّصوير، ترينا حتى أثر خطوط الملابس على الجلد الذي تملأه الشّامات أو التّجاعيد، هنا يلعب الضّوء الرّمادي الهادئ الدور الأكبر في فوتوغرافيا ليرويد، حيث ينصبّ على الوجه بلا تركيز لكنّه يترك جنبات الصّورة معْتمة قليلاً، ما يجعل العين تستعيد لوحات رينوار وبورتريهاته الشّهيرة التي ساهمت في ترسيخ المدرسة الانطباعيّة.

 يبدو الأشخاص في صور ليرويد كأنّهم في لحظة تأمّل أو يأس أو تساؤل عميقة

















العودة إلى القرن الـ 19
على الرّغم من أنّ الأشخاص الذين نراهم في صور ليرويد معاصرون لنا، إلا أن ملامحهم الخاصّة تجعلنا نستعيد لوحات عصر النّهضة وكيف سعت إلى تصوير الأشخاص ولو بالريشة واللون، فمنذ العصور القديمة كان الرّسامون هم المسيطرون على التّعبير البصري، وكان المشاهير من ملوك وأباطرة وأثرياء يتسابقون لاستدعاء كبار الفنانين لعمل بورتريهات لهم، يمكننا الإشارة هنا أيضاً إلى أن ليرويد درس رسامي القرن التّاسع عشر، وعلى رأسهم أعمال جان أوغست دومينيك آنغر (1780 – 1867)، رسام البورتريه الشّهير والمعروف بلوحاته العارية، نرى أثر بعض هذه اللوحات يتردّد صداها في فوتوغرافيا ليرويد. في الوقت ذاته نجد علائق أخرى تربط فوتوغرافيا ليرويد بأعمال الرّسامين الإنكليز في عصر النّهضة، وأيضاً تستفيد وتتأثّر بقوّة من منجز الفوتوغرافيّة الإنكليزيّة الطّليعيّة الشّهيرة جوليا مارغريت كاميرون (1815 – 1879).

في صور ليرويد حرص دائم على تركيز أجزاء معيّنة من الصّورة تحت الضّوء بشكل حاد بينما تكون الأجزاء الأخرى غير واضحة، فيما خلفيّات الصّور في أكثرها رمادية أو زرقاء، ما أضفى تأثير لون الشّفق أو الليالي القمرية على الصّور، باستثناء صور السّيارات المحترقة التي التقطت في الهواء الطّلق، والتي استدعت من المصوّر أن يقوم ببناء كاميرته بكاملها في الخارج، ليحوّلها إلى كاميرا بدائيّة محمولة وقابلة لتصوير المشاهد الطبيعيّة والمباني القديمة الموجودة في مدن صغيرة في أوروبا الشرقية.
على أكثر من مستوى تشتبك فوتوغرافيا ريتشارد ليرويد بالفن التّشكيلي من نواح كثيرة. ليس فقط بسبب تفرّد الصّور التي ينتجها عبر كاميرته الخاصّة، ولكن أيضاً بسبب اختيار الموضوع في صوره، فليس من المصادفة ألا يركز ليرويد في أعماله كلّها إلّا على الأنواع التقليديّة للرّسم: المناظر الطّبيعية والبورتريه والطّبيعة الثابتة. كان ليرويد مهتماً في أعماله الأولى بتصوير الطبيعة الحيّة؛ باقة ورد أو طبق فاكهة أو غصن تفاح مقطوع وعامر بالثّمار النّاضجة، على الرّغم من اختلافه الكبير عن التّعبيرات الكلاسيكيّة لهذا النوع في تاريخ الفن، ففي هولندا مثلاً غالباً ما كانت لوحات القرن السّابع عشر مشغولة بعرض الأشياء كما هي في الوقع، بكل ما فيها من زخارف على الأقمشة والثياب والأثاث. لكن ليرويد يشتبك في أعماله الجديدة مع أعمال فنان فرنسي آخر من القرن الثّامن عشر هو جان سيمون شاردين (1699 – 1779)، والذي اشتهر برسمه الملذّات البسيطة لحياة المتواضعين: الكرز الطّازج على طبق، أو الخبز الشّهي ساكناً على طاولة. ثمّ قام الرّسامون الأوروبيّون لاحقاً، بدءاً من الانطباعية فصاعداً، بترتيب الأشياء في استوديوهاتهم لتحليلها، إلا أن ليرويد في صوره الفوتوغرافية هذه لا يريد أن يحلّل شيئاً لجمهوره، هو يقدّم الشّيء كما هو ولكن بطريقة تشتبك مع ما سبق وقدّمه آخرون، كأن يوقفنا أمام مسمّى "المنظر الطّبيعي" أو "الطّبيعة السّاكنة" مثلاً، لنشعر أنّنا أمام صور لحياة تم إيقافها فجأة، فغصن التّفاح المنزوع من شجرته يبدو أمامنا ساكناً رمادياً، لكنّه يكاد يصرخ فينا بأنّه حياة تم بترها.. وعن عمد.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.