}

بيير سولاج في اللوفر.. احتفاء بما وراء السَّواد

نجيب مبارك 30 ديسمبر 2019
تشكيل بيير سولاج في اللوفر.. احتفاء بما وراء السَّواد
بيير سولاج أحد عظماء الفنّ التجريدي المعاصر
يحتفي متحف اللّوفر بباريس هذه الأيام بالفنّان الفرنسي بيير سولاج، أحد عظماء الفنّ التجريدي المعاصر، والذي اشتهر بابتكاره لمفهوم "ما وراء السّواد"، من خلال تنظيم معرض استعادي ضخم يستمرّ إلى غاية 9 مارس/ آذار 2020، والمناسبة هي بلوغ هذا الفنان مئة عام بالتمام والكمال يوم الثلاثاء 24 ديسمبر/ كانون الأول. وهذه ليست المرّة الأولى التي ينظّم فيها متحف اللوفر معرضاً لفنّان ما يزال على قيد الحياة، بل سبق أن حظيّ بهذا الشرف فنّانان آخران، هما مارك شاغال وبيكاسو، بمناسبة بلوغهما سنّ التسعين.

مئة عام من الفنّ
وُلد بيير سولاج في مدينة روديز الفرنسية عام 1919، حيث قضى طفولته ومراهقته، قبل أن يشدّ الرحال إلى باريس في سنّ الثامنة عشرة لاجتياز مباراة مدرسة الفنون الجميلة، التي سيلتحق للدراسة بها عام 1938. لكنه لم يستقرّ هناك طويلاً، إذ سرعان ما عاد إلى مدينته روديز ليكرّس جلّ أوقاته للرّسم. وفي عام 1942 انتقل للعيش في مونبلييه، هروباً من الخدمة الإجبارية الّتي فرضها المحتلّ النازي. وفي هذه المدينة ربطته علاقة صداقة مع جوزيف ديلتي الّذي قال عنه: "أنت ترسم بالأسود والأبيض، كأنّك تمسك الرّسم من قرنيه، أي من جهة السّحر". بعد مونبلييه، عاد إلى باريس حيث استقرّ مع زوجته كوليت، وبدأ في رسم لوحات يطغى عليها اللّون الأسود. وهي نفسها الّتي سيرفضها فيما بعد معرض خريف 1946. ورغم ذلك لم ييأس، واستمرّ في المحاولة إلى أن قبل أعماله المعرض الجماعي للفنّانين الفرنسيين في شتوتغارت، وكان هو أصغرهم سنّاً.  ثمّ تتالت المعارض الكبرى، من باريس إلى هانوفر، ومن زيوريخ إلى لاهاي. وفي عام 1953، عُرضت بعض أعماله في متحف الفنون الجميلة "كونستهاوس" في زيوريخ ومتحف الفنّ الحديث في نيويورك، حيث اشترى ألفرد هيتشكوك واحدة من لوحاته عام 1962.
وإذا كان اللّون الأسود هو اللّون المفضّل لدى سولاج منذ بداياته، إلّا أن النقلة النوعية في مساره الفنّي هي تدشينه لمرحلة جديدة في عام 1976 أطلق عليها مرحلة "ما وراء السواد". وفي هذه المرحلة استعان سولاج بقطع قماش مغطّاة بالكامل باللّون الأسود الكثيف، ومنها سيبتكر أسلوبه الخاصّ الذي ظلّ وفيّاً له إلى اليوم. يقول: "كنتُ قد وصلتُ إلى ما وراء السّواد، إلى مجالٍ عقليّ آخر". وبين عامي 1987 و1994، سينجز بتعاون مع ورشة جان دومينيك فلوري في تولوز، 104 نوافذ زجاجية لفائدة كنيسة "سانت فو يدي كونكيس"، هذه الكنيسة الّتي سبق أن أدهشته وهو طفل، حين زارها ووقف أمام معمارها الروماني الجميل، وهي كانت من الدوافع التي جعلت منه رسّاماً فيما بعد، ليكون هذا العمل قد حقّق الهدف الأسمى لصاحبه، فيما يشبه إقفال الدائرة تماماً. ثم ازدادت شهرة سولاج في مونبلييه، التي كرست له جناحاً في متحف فابري المعاد ترميمه، ما أتاح للجمهور فرصة الاستمتاع باللوحات التي تبرع بها الفنان للمدينة، وهي عبارة عن 20 لوحة أنجزها في الفترة بين 1951 و2006، بما في ذلك الأعمال الرئيسية في الستينيات، واثنتان من لوحات مرحلة "ما وراء السواد" بدءاً من نهاية السبعينيات. وفي فبراير/شباط 2010، سيقدّم هذا المتحف معرضاً للكرتونات وقطع من الزجاج الملوّن في بلدة كونكيس (وهي الأعمال التحضيرية الّتي أنجزها سولاج لفائدة كاتدرائية هذه البلدة).
في عام 2009، بمناسبة الاحتفال بعيد ميلاده التسعين، كرَّس له مركز بومبيدو معرضاً استعادياً ضخماً، وهو أكبر معرض ينظمه المركز لفنان على قيد الحياة. وقد استقبل 502000 زائر، ليحتلّ بذلك المرتبة الرابعة بين المعارض الأكثر زيارة في تاريخ مركز بومبيدو. بينما في عام 2014، سيُفتتح رسمياً "متحف سولاج" في مسقط رأسه روديز، والذي يضمّ أكبر مجموعة من أعمال الفنان على الصعيد العالمي. وقد كان الفنان قد تبرّع في عام 2005 لبلدية روديز ​بحوالي​ 500 من الأعمال الفنية تمثّل جميع التقنيات التي استخدمها طوال حياته المهنية: اللّوحات، النقش، الرسومات الحجرية، الطباعة الحّجرية وحتّى بعض الرسومات على النوافذ الزجاجية الملوّنة الخاصة بكنيسة كونكيس.


ما وراء السواد
استوحى سولاج مفهوم "ما وراء السواد" من التباين الناتج عن تموضع اللّون الأسود بجوار الأبيض، بحيث يظهر الضّوء من خلال السّطح الشفّاف لكل لّوحة، ثمّ عن طريق تجريف اللّون الأسود فوق ألوان أخرى. وقد طرأت هذه الفكرة على سولاج في إحدى ليالي عام 1979، عندما فشل في إتمام إحدى اللوحات فقرّر أن يأوي إلى الفراش، لكن بعد مرور ساعة تقريباً عاد إلى قماشه الأسود، فاكتشف أنّه رسم شيئاً جديداً "بالضّوء فقط". لقد أدّى انعكاس الضوء على زوايا القماش المختلفة (الناعمة، المحبّبة أو المخطّطة) إلى ظهور درجات رمادية أكثر عمقاً من السّابق. يقول الناقد الفني بيير إنكريف: "لقد انتظر سولاج دائماً أن يأتي الضّوء من الظلام. ومنذ ذلك الاكتشاف، كرّس نفسه لهذه "اللّوحة الأخرى" التي سمّاها "ما وراء السواد"".
لقد اجتذب اللّون الأسود بيير سولاج منذ طفولته (كانت والدته توبّخه لكونه يلبس "لون الحِداد" قبل الأوان)، وهو اللّون المحبّب إليه، والذي لبسه في ليلة زفافه وما زال يرتديه حتّى اليوم. وعند سؤاله عن ذلك في بداية هذا العام، أجاب بأنّ "الأبيض هو لون الحِداد" وليس العكس. وقد سبق لسولاج، قبل تجربة "ما وراء السواد" في نهاية السبعينيات، أن سمح بتصفية آثار اللّون الأبيض في أعماله (أي لون القماش) وأحياناً كان يخلط اللّون الأسود بألوان أخرى مثل اللّون الأزرق، لكن في أعمال قليلة جداً من مجموع أعماله التي تناهز 1600 لوحة. وبحسب رأي ألفريد باككمينت، مندوب المعرض الجديد في اللوفر: "عادة ما يستخدم الفنان الصباغة السوداء المتاحة تجارياً، إلّا أنّه يستخرج منها روح سولاج"، وهي صباغة لا علاقة لها باللّون الأسود العميق، أو ما يسمّى الفانتابلاك  Vantablack (صفوف الأنابيب الكربونية السوداء المرتّبة عمودياً)، وهي مادة مصنوعة من أنابيب نانوية كربونية، مخصّصة للاستخدام العسكري، وهي أشدّ المواد المعروفة سواداً إذ تمتصّ حوالي 99.965% من طيف الضوء المرئي، وقد حصل النحّات البريطاني أنيش كابور في عام 2016 على حقوق اكتشافها الحصرية، ما خلق سابقة فريدة وجدلاً واسعاً في عالم الفن.

لقد اجتذب اللّون الأسود بيير سولاج منذ طفولته (كانت والدته توبّخه لكونه يلبس "لون الحِداد" قبل الأوان)


















على نقيض أحادية اللون

لقد تساءل البعض ما إذا كان سولاج يشتغل على "لوحة أحادية اللون"، أي اللّون الأسود فقط، لكن العكس هو الصحيح بحسب كثير من الخبراء. إذ "بدلاً من النظر إلى اللّون الأسود، يجد المشاهد للوحات سولاج نفسه أمام تنويعات كثيرة على الرمادي الّذي يسطع أقلّ أو أكثر ويتبدّل بحسب مكان العرض أو تغيُّر درجات الإنارة"، بحسب المؤرخ الفنّي دنيس ريو في كتابه عن الرسم أحادي اللّون (غاليمار). ولهذا، تعتبر أعمال سولاج على نقيض الرّسم أحادي اللّون، المعروف مثلاً لدى الفنّان إيف كلاين الّذي اشتغل حصرياً على اللون الأزرق (من خلال أسلوبه المعروف اختصاراً ب I.K.B). ومن المصادفات العجيبة أنّ سولاج سبق له أن تعرّف على كلاين وعائلته عندما كان طفلاً، وقد خصّص متحف سولاج في روديز معرضاً لأعماله خلال هذا العام.
يتحدّث بيير سولاج عن المجال الّذي اكتشفه قبل أربعين عاماً (ما وراء السّواد) ويقارنه بسهولة بـ"ما وراء نهر الرّاين أو ما وراء بحر المانش، أي باعتباره بلداً جديداً". وبالنسبة للناقد ألفرد باكمون، يمكن اعتبار هذا الأسلوب بمثابة "بروتوكول متشدّد جداً" أو طريقة في العمل متمركزة على مادّة لونية واحدة. وقد وصفه سولاج نفسه ذات مرّة: "إنّ مجموع هذه المادّة اللونية هو ما يغطّي اللوحة، لكنّي لا أشتغل فقط بهذه المادّة، وقد يبدو هذا غريباً بعض الشيء. إنّ ما يهمّني هو انعكاس الضّوء فوق وضعيات السّطح النابعة من اللّون الأسود، وهي حالاتٌ متغيِّرة على الدّوام"، وهو في كلّ ذلك يستند فقط على الشرائط التي يستخدمها، أو ضربات الفرشاة المختلفة، وكلّ ما يتوفر لديه من وسائل.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.