}

هنري تولوز لوتريك والحلول الحداثية

أسعد عرابي 28 ديسمبر 2019
تشكيل هنري تولوز لوتريك والحلول الحداثية
لوحة المغنية لهنري تولوز لوتريك
تحتفل جدران «القصر الكبير» في الحي المركزي «الشانزليزيه» في عاصمة النور التشكيلي، باعتلاء ميراث هنري تولوز لوتريك الفني «سيميز» قاعاته الرحبة، وتعانق بانوراما العرض من لوحات ورسوم ومحفورات ليتوغراف وإعلانات وفوتو مئتين وخمسة وعشرين عملاً فنياً.

يجري هذا الحدث الانعطافي الاستعادي ما بين الحادي عشر من تشرين الأول/أكتوبر من العام الراهن 2019م مستمراً حتى أواخر كانون الثاني/يناير من العام المقبل 2020م. هو المعرض الثاني الاستعادي في نفس الموقع بعد معرض عام 1992م والمعرض الثالث بعد الثاني المعنون: «لوتريك والثقافة المونمارتية»، نسبة إلى حي الفنانين الشهير الذي عبر من محترفاته كل من بيكاسو وموديلياني مروراً بسوتين ونولد وسواهم. يستحوذ أسلوب هذا الفنان إذاً على حساسية مجموعتهم في النصف الأول من القرن التاسع عشر ولذا اعتبر رمزاً لخصائصهم الأسلوبية التجديدية، لكن شموليته تعبق أكثر بمجمل عصره التجريبي المخبري والارتيادي. لذلك سمي معرضه الراهن نخبوياً: «هنري تولوز لوتريك والحلول الحداثية».

الانتظار


















إذا اعتمدت سينوغرافية العرض على التسلسل التاريخي فإن اختيارات تجمع اللوحات وتصانيفها النقدية تعتمد على تأكيد موضوع المعرض وهو استشراف الصيغ المستقبلية في الأداء الفني. ويؤكد منظمو المعرض على أن فضل رؤيويته الحداثية يقع خلف العديد من التيارات التالية على ما بعد الانطباعية مثل الوحشية والتعبيرية وحتى المستقبلية (أنا لم أعثر على بصماته في الأخيرة) رغم أن قناعتي بتأثيره أشد انحيازاً لأنها تذهب أبعد من ذلك ورغم تفرد شخصيته القزمة والمثيرة للسخرية ما بين قبعته الكروية وعكازه ونظاراته ولحيته الكثة. كلها ملفحة بذكاء اللون الأسود، تشي بعبثيته النقدية التي تنال سخرية تضميناتها ومبالغات أشكالها المشخصة كل ما تحيكه المشاهد الباريسية اليومية عن كثب، من الطاحونة الحمراء وملاهي رقص الكونكان وخلاعة ومجون بنات الهوى ودور الدعارة في الحي، وتجنح فرشاته إلى التدمير النقدي السيزيفي لأشكال هذه اليوميات المخمورة، دون أن يتعثر في استهلاكية الكاريكاتور (كما حصل مع دومييه وسواه). ولم يعد استخدام كاميرا الفوتوغراف محرماً على الفنان، مثله مثل ديغا يستخدم الكاميرا بدلاً عن الموديل.

رقصة الكونان 


















مواطن الحداثة المبكرة
تقنّع سيماؤه الهزلية تربيته الأرستقراطية المثقفة من الناحيتين: التقنية (منذ مكتسباته الفنية الدراسية في المعهد العالي للفنون الجميلة البوزار) والنظرية الفلسفية التي تقع خلف ريادة تجاربه الحداثية وعمودية شهادته العصرية، واحتكاكه بمعاصريه كما سنرى. علينا قبل ذلك أن نستدرك حقيقة مرضه العضال (سبب تشويهه العظمي) ووفاته باكراً عن عمر لا يتجاوز السادسة والثلاثين عاماً، فهو من مواليد عام 1864م ومتوفى عام 1901م. تؤكد خصوبة وتنوع إنتاجه الإبداعي جذوة حيويته رغم وطأة المرض، فالمعرض مثال حي على كثافة مختبره الاستشرافي الذي لم يتجاوز العقدين، بل إن البورتريهات المنجزة قبل العشرين من عمره تكشف عبقرية استثنائية في أوركسترا اللون ونحته وتنوع أنسجته ووحدته الضوئية. يكشف توأميته الأسلوبية لمعاصره الانطباعي إدغار ديغا خروج الاثنين عن الدعوة للعمل في الهواء الطلق. لوتريك كان أسير لياليه والأضواء الكهربائية الساطعة اللون في الملاهي والمقاهي الساهرة حتى الصباح وإدغار ديغا كان يقتنص كواليس دار الأوبرا في أشد تدريبات رقص الباليه حميميةً، وبما أن الاثنين مهووسان بحركة الأشكال من راقصات وأحصنة، يترجمها عصف الفرشاة النزقة المأزومة، فإن المادة التي كانت تسعفهما هي أقلام الباستيل على الورق، بسبب سيولة طزاجة لمستها ورهافة تبايناتها اللونية. يحفل المعرض بتهشيرات رسوم الباستيل ورفيفها الخشن الضوئي، وصدفوية اللمسات البكر، هو ما أوصل لوتريك إلى ما هو لب اللباب في ملخص الشكل وتقشف أرضياته اللونية الهادئة وترصيع الألوان البركانية في حياده. لعلّه الأول الذي تجرأ بالتوقف عن العمل قبل انتهاء اللوحة، وتبعه بيكاسو فهذه العملية تعتبر رمزاً لحداثة التيارات الأميركية (مدرسة نيويورك): التوقف عند ذروة الانفعال وليس عند ذروة الاكتمال التقني. لذلك كان يتجنب تبذير الوقت في المحسنات البديعية. الواقع أنه لولا جرأة لوتريك لما سطع نجم بيكاسو ابتداء من تأثير الأول على المرحلة الزرقاء البيكاسية المبكرة.

المسرح اليوناني  

















بابلو بيكاسو يرث نفس الموضوعات النقدية الساخرة: السيرك الرقص المسرح ويرفع الحدود بينها وبين ترميز الحياة اليومية فالمهرج العبثي بأنفه الأحمر المتورم هو نفسه العابر الشعبي الوجودي وكذلك المرأة البوهيمية المعزولة تنتبذ زاوية قصية في مقهى معدم تعاقر أسوأ أنواع الخمر، ويزداد التشابه في الطريقة المبالغة في رسوخ راقصات الباليه وامتداد أقدامهن يعاقرن الجاذبية الأرضية في سيرك الحياة على مكعب راسخ والمرأة تتراقص مع الكرة.

السيرك 

















لكن الأعمق تأثيراً سواء على بيكاسو وقبله ديغا هو منهج لوتريك في عدم اكتمال اللوحة والاختزال الأقصى وعدم التصحيح بما يشبه نزق الرسوم السريعة (السكتش)، يكشف القليل من تشريح المغنية برأسها المزدان بأبيض الماكياج وذراعيها المتلفحتين بالأكمام الكحلية المستقلة، صور إديت بياف المغنية الشعبية المعروفة في حي المونمارتر والمولان روج عشرات المرات حتى أصبحت رمزاً لمنهجه في انتزاع ما قل ودل من البورتريه ضمن أرضية رحبة من مقام لون الأهرة.
لعلّ أبرز لوحاته العملاقة التي تختم العرض تمثل انتظار بنات الهوى في الصالون، تبدو وكأنها مشعثة لا تغتسل ولكنها تتلون مثل عرائس الظل والمانيكان أو مثل الحرباء. كل ما في ملحمة لوتريك جذاب ومثير ومحب للحياة اليومية يظهر في رسومه وإعلاناته أتراحها من الحزن الباريسي.

 

 لوحات لهنري تولوز لوتريك 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.