}

حروفيّات أكسم طلاع.. قصائد بصريّة تحتفي بالحياة

عماد الدين موسى عماد الدين موسى 18 ديسمبر 2019
تشكيل حروفيّات أكسم طلاع.. قصائد بصريّة تحتفي بالحياة
"تتأسّس تجربة الفنان على شغف بالجوانب الجماليّة للخطّ العربي"
تحتفي أعمال الفنان التشكيلي السوري أكسم طلاع (مواليد الجولان 1963)، بالحياة في أول تجلّياتها واهتماماتها، سيما الاحتفاء بالمكان والكائنات والطبيعة وحتى التفاصيل الوجوديّة، الآنيّة والأزليّة، تلك المضيئة والمتناهية في الصغر، والتي تزخر بها الحياة، حياتنا. تجربته الفنّية الممتدة لأكثر من أربعة عقودٍ، تتأسّس بدايةً على الشغف بالجوانب الجماليّة للخطّ العربي، حيثُ الحروف تأخذ أشكالاً بصريّة وتشكيليّة عديدة؛ وثمّة لغة روحانيّة تسيطر على أجواء معظم أعماله، لغةٌ خافتة أحياناً، كما لو أنّها تذهبُ لتُفسّر الغموض المحُبّب لقارئ اللوحة.

لكأنّ ألوانه، بحميميّتها ودفئها، قادمةٌ من عوالم صوفيّة وعرفانيّة صرفة، تضيفُ أثراً جماليّاً، جديداً ومُغايراً إلى اللوحة، أثرٌ له لمسة حسّية جليّة وجديرة بالمتابعة، تنهل من التراث وروحانيته، مما يجعل الناظر إلى لوحته يُحلّق في فضاء تخيّلي حُر. وانطلاقا من هذا التصور علينا أن نشير الى جوانب وإضاءات ما تتركه تلك اللمسات من صدى لدى المتلقي على نحو يذكرنا بقيمة البعد الفني والتعبيري للعمل، سواء تمثل في الإجراء البنائي أو ما تتركه اللوحة من معنى يوسع من تأويل المتلقي لها، معتمدا على تعدد قراءة العمل وشروطه ووحدته الموضوعية.

 

أسس العمل الفنّي
على الرغم من أنّ هذا النوع من الفنّ التشكيليّ، المتعلّق برسم الخطّ وتجسيده، وإخراج جماليّات فنيّة منه أقرب للزخرفة منها للطباعة، وعلى الرغم من مضي عقود على اهتمام فنانين تشكيليّين من مناطق مختلفة، سواء في سوريّة والعراق ومصر والمغرب العربيّ، في تكوين مدرسة تُعنى بطريقتين لإخراج الخط العربيّ من خانة الزخرفة وإدخاله في خانة الفن التشكيليّ التعبيريّ اللونيّ إذا جاز التعبير، والثانية تذهب إلى طريقة الكولاج، التي يبدو فيها الخط مُدخلاً إلى اللوحة، أو أنّ فوران الخط تمّ إنعاشه بعمليّة لونيّة تُحيط بذلك الفوران، فإنّ طلاع يبدو مخلصاً للطريقة الثانيّة، التي يبدو فيها الخط، في بعض اللوحات، وكأنّه يسيل من الألوان المحيطة به وليس العكس؛ حتى أن بعض الكتابات تبدو وكأنها مُحيت بالتدريج، وهي رؤية جماليّة مُلفتة للنظر.

 تتجلّى أهميّة أعمال طلاع في كونها أولاً توظّف الحرف في خدمة لوحته 


















تقنيات عديدة نجدها لدى الفنان طلاع، تخصّ تكوين فكرته ومن ثم بلورتها في صيغة عمل فنّي؛ بدءاً من مزجه الهادئ والمرن للألوانِ، وصولاً إلى تداخل الحروف مع الألوان تداخلاً سلساً وشديد الخصوصيّة، حيثُ تغدو الحروف عناصر رئيسة في اللوحة، لا تكتمل دونها. والفنان هنا يعي ممارسته حينما يجعل من النظام التركيبي للحروف ذات مساحة مختلفة، تساير رغبته في تحطيم الشكل لصالح المغزى التعبيري، إنه التعامل بدقة مع الشكل وجدل ثابت يسعى خلف الإمساك بمعنى يثير المتلقي.
استخدام الألوان في اللوحات يأخذ حرارته من المقولات ذاتها، فالأصفر، وتدرّجاته، يُحيل الحكمة إلى لون التراب والأصالة، بينما يبدو اندفاع الأحمر شاقاً على المفردات التي تلمعُ أكثر من اللون، وهكذا تتغيّر ضربات الألوان بحسب اندفاع المقولات وانحسارها.

 

التشكيل الهندسي للحرف
تتجلّى أهميّة أعمال أكسم طلاع في كونها أولاً توظّف الحرف في خدمة لوحته وليس العكس، إذْ ما من جُمل أو عبارات يمكن للمشاهد/ القارئ أن يتتبعها، وإنما مجرّد أشكال ومجسّمات حروفيّة فقط، تفيد اللوحة بإعطائها بُعداً بصريّاً، دون أن تكون ذات معنى عابرٍ ومحدّد، وثانياً هي تلك الحالة الغرافيكية التي يظهر بها الحرف، سواء من جهة توظيفه كعنصر لوني من عناصر اللوحة لا أكثر، أو من حيثُ الإبقاء على التشكيل الهندسي للحروف وإضفاء شيء من لغة التجريد عليها، عبر المحاكاة الشفيفة ما بين عالمين متشابهين ومختلفين في آنٍ معاً. وعليه يمكن القول إن ما يود بيانه بصرياً، يتجلى في أهداف صريحة، غالباً ما تحافظ على سياقها المعرفي والجمالي، وكأن الإشارات داخل اللوحة تعد مدونة بصرية، لا بد أن نعي أهميتها، وهذه الحسابات في الفعل الإبداعي قامت على أسس تعطي اللوحة بعدا لا يختزل الحرف ولا يبعده عن مساره الداخلي، إنما هناك بساطة في اللعب من حقها أن تعيد لنا قيمة الفن.

 

يتابع طلاع مغامرته اللونيّة في تناول عوالم طبيعيّة، حيثُ ضربات الفرشاة تبدو غايةً في المرونة والسلاسة
















لكل لوحة حكاية
لنتساءل مع الفنان ما غاية العمل الفني؟ ما الوجهة التي يذهب نحوها الفن رغم كل هذه الانكسارات اليومية التي نعيشها؟ هل يمكن للحروفيات أن تمدنا بتصور حياتي يثير التساؤل الوجودي فينا؟ أسئلة مثل هذه تعيرنا قيمة الوقت لنتأمل الفن ونكتشف مساحته ومدى حاجتنا اليه ففي طرحِ كلّ ما هو جديد ومُغاير، يتابع أكسم طلاع مغامرته اللونيّة في تناول عوالم طبيعيّة، حيثُ ضربات الفرشاة تبدو غايةً في المرونة والسلاسة، ألوانٌ فيها من الحيرة والتشتت بقدر ما فيها من الرصانة والمتانة، ثمّة لعبة يُتقنها الفنان في التمهيد المباشر للفتِ نظر المشاهد من أوّل وهلةٍ، ومن ثم البدء برحلة التأمّل والنظر بعمقٍ لاكتشاف ماهيّة اللوحةِ، إذْ ثمّة حكاية كامنة داخل إطار كل لوحة من لوحاته؛ ثمّة الحنان والحبّ والدفء والشوق بين جنباتِ ألوانه، وما على العين، عين المشاهد/ المتابع، سوى أن تقفز إلى داخل اللوحة، والتمتّع بالإقامة بين ألوانها.

لا يعير الفنان أهمية لمنهج فني قدر إعارته لجماليات الشكل والتلاعب مع الأشكال والخطوط والأنساق 

النَفَس التجريدي
تنطلق أعمال أكسم طلاع من الحرف بوصفه العنصر الرئيس والركيزة الأساسيّة لبناء لوحته، ليحتل المشهد بالكامل، وعلى الرغم من النَفَس التجريدي في أعماله، تبقى التعبيريّة أكثر وضوحاً وسيطرةً على أجواء وخطوط ألوانه. وهو ما يفسره لنا أنه لا يعير أهمية لمنهج فني قدر إعارته لجماليات الشكل والتلاعب مع الأشكال والخطوط والأنساق التي تتجاوز معنى معيناً، لتقف عند خط التوصيف الجمالي في آلية ثابتة وصريحة أن الفن يستثمر ما هو سائر ليمضي بنا صوب معرفته.. وهذا ما سعى إليه الخطاب التعبيري لهذا الفنان.

تقنيات عديدة نجدها لدى الفنان طلاع، تخصّ تكوين فكرته ومن ثم بلورتها في صيغة عمل فنّي؛ بدءاً من مزجه الهادئ والمرن للألوانِ

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.