}

منهل عيسى.. جنون النحت

أسعد عرابي 12 ديسمبر 2019
تشكيل منهل عيسى.. جنون النحت
"تحتدم أعمال الفنان منهل عيسى النحتية بتطور أصيل متسارع"
تحتدم أعمال الفنان منهل عيسى النحتية بتطور أصيل متسارع رائد في ما بعد حداثته، وفي إحكام تمفصل شظاياه المعدنية، حتى بات من أشهر نحاتي «مدينة آنجي» ومقاطعتها في السنتين الأخيرتين. ويتميّز نشاطه الإبداعي بالتعددية، فهو برزخ يسافر سنوياً من باريس إلى طرطوس الساحل السوري وبالعكس، ينشط في النحت والتصوير بموهبتين استثنائيتين، وتعرضنا سابقاً لعصفه اللوني وأشلاء أطفاله على تبصيمات جنازير العربات الحربية والدبابات المتضرجة بدماء من عبروا فوق جثثهم الغضة.  
قناع محارب  

















عندما نطلع على الفيديو التقني الذي يشرح فيه أدواته الطقوسية اللونية وسياقها الصباغي على القماش، يبدأ رأس الفنان بحمام بليغ من الأكريليك الأصفر المشبع باللون، ثم تتردد الكاميرا على ما تصنعه يداه من فرش للدهان، ثم حكه بالسكين العملاقة ثم تسميده وتباين أنسجته ثم شطب سيولته بأثلام مأزومة لا تستقر على حال إلا على صور التجريد الذي عرف به سالفاً في أعماله الدراسية متخرجاً عام 1995م من كلية فنون دمشق بدرجة أولى قبل أن يحتل مكان حقه في البعثة الدراسية من هو أقل موهبة فنية لكنه أعتى منزلة حزبية، ولكن هذا لم يمنعه من السفر إلى بوزار باريس، ثم الدراسة في جامعة فرساي واستقراره منذ العام 2000م في فرنسا والحصول بسهولة على الجنسية بسبب موهبته متنقلاً من جديد بين باريس ومدينة قريبة ستصبح عائلته الاجتماعية الجديدة لاهتمامها بفّنه، وهي آنجي المدينة القريبة من باريس، ثم ازداد ارتباطه بباريس بعد أن تهيأ له التدريس في أكاديمياتها بعقد نظامي، مما ساعده على الاستقرار الروحي والمعنوي والمادي وترسخت في نشاطاته صفة الحرفية المزدهرة العالية. وهو ما هيأ له استبدال محترفه القزم الذي كان يسمح له بالكاد بعمل لوحات متواضعة القياس، وهو ما منعه فعلاً من تحقيق صبوة النحت وهي الأساس.

قيامة جسد 

















يقول النقاد بأنه ينحت سطح اللوحة بغضب العجائن الصباغية وبحك إزميل الفرشاة والسكين، لعله الجنون الغاضب والعاثر الحظ في حينه الذي ورثه عن المعلم فان جوخ، وما أن تهيأت له النجاحات التي يستحقها حتى انفجر قبل كل شيء بتبديل مرسمه اللعنة الذي ينضب بالذكريات.
وفوجئنا قبل أيام بالخبر السعيد، خبر تقاسمه مرسماً رحباً يستوفي شروط العمل النحتي المضني والفضاء المشروط بإنجازه، وذلك بدعوته للفنانين من خلال بطاقة بالغة التمييز يشارك فيها مع زميله في افتتاح على مشارف أو مدخل غابات بولونيا الغنّاء ورئة باريس الأوكسجينية. والأنكى من ذلك الدهشة التي عقدت لسان الزوار بسبب تفوق ما يدعى مرسم «الباب المفتوح» منذ شهرين، رؤوس منقولة بأوزانها الهائلة من رؤوس وأجساد منخورة معلقة في الهواء، وبعض الحيوانات التي يلهثها الجري والهروب من عالم الآثام إلى غير رجعة: إحكام في السرد التشريحي الذي برع فيه ويعلمه، وإحكام في مسار تشريح الحركة الاندفاعية الانتحارية المتسارعة، هي التي امتحنها مختبر الفوتوغرافي إدوار مبريتيش والتي تُدعى بـ«الفوتوغرونولوجيك»، وهنا تبدو أوشام تأثيرات التعبيري اليوغسلافي (مدرس الفنون في البوزار) وهو فيليكوفتش يتمزّق بمرارة موازية لما جرى في بلده، بعد أن طالع غربانها لأول مرة، وما قرّح ضمير منهل في الزيارة الأولى لسورية بعد غياب، يجمعهما الانفلات التراجيدي من كل ما هو سكوني في الرسم، لكن منهل يذهب أبعد من لوحاته وتشظيها السيميولوجي التراجيدي، إلى لحم ولصق شظايا معدنية في رؤوس البورتريهات، تذكر بما أجراه النحات سيزار وقابلية أشكاله للقلع والتفتت والخلع والتلاعب في دلالات العناصر كما هو بدوره ما استقاه من «أسامبلاج» بيكاسو.

إنطلاقة 


















ميراث نحتي ضخم من التعبيرية المحدثة، التي أعقبت هيجانات جورج بازلتز ودعا ما تلاه من شباب هذه الصرخة بالتعبيرية المحدثة (ومنها تيار منهل)، وذلك نقيضاً منه على سذاجة تسمية الفرنسي كومباس بـ«التشخيصية الحرة». بقي أن يعترف منهل صراحة بالصدمة التي سببتها لتمثاله تشطيبات منحوتات بازلتز السادية، وكأنها دليل حر لنفي ما سبقها من تاريخ النحت بما فيه بيكاسو وسيزار، لعلها مفتاح انتسابه إلى ما بعد الحداثة.
هل يذكر المتفرج تبصيمات الجنازير الحربية المعدنية التي كانت توشم لوحاته بهمجية وعبثية الحرب؟ ها هي تنتفض معادنها اليوم، منبعثة من سطح اللوحة إلى تكتلات النحت الهمجية، يلملم شظاياها المعدنية باللحام واللصق والتمفصل، خاصة حول أقنعة سيزار التليدة بحيث يتجاوز غضب تجريد هذه العناصر هيئة الرأس المتفحم والمفعم بالأثلام السادية. معلّق في الفراغ وكأنه جيفة أو ذبيحة أو رأس لفارس الفتوة أو الساموراي الذي جارت عليه الأيام وهزمته بقطع الرأس. آثار صفعات الموت والعسس والتعذيب حتى الموت مئات المرات وحتى انقلبت كدمات وعذابات الرأس إلى كتلة سيزيفية تزداد محقاً وسحقاً متمسكة بسيميولوجية الجمجمة الأثرية المؤلفة في بواطن أثريات الزنزانات المحنطة.

جذع بشري 

















ما بين مختبر منهل الصباغي والرؤوس المعدنية العجفاء المجتثة من ضميرها، وحيواناته التي تهرب من اللاشيء عابرة اللامكان، مثلها مثل نازحي «القيامة الشامية»، لم تكن هذه البراكين في منأى عن رعشة المتفرجين. فبعد عام واحد على جائزته النحتية الأولى في صالون آنجي الرسمي، ونيله جائزته المالية ومكافآته بإقامة معرض «شرف فخري» مستقل في فناء الصالون، أصبح يلهث مثل حصانه ما بين محترفيه وساعات تعليمه الكثيفة للنحت والرسم وخروجه مع طلبته في أوقات فراغه إلى المتاحف والمعارض والطبيعة وتصوير تشريح النموذج الحي.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.