في مسرحية "فوضى"، كما في "عواء الديك"، كما في "هدنة"، كما في "العطسة"، حركاتُ المُمثلين والمُمثلات عنيفة، لا صراعَ بالمعنى الأرسطي والبريختي. الممثلون يسردون أخباراً عن دور الشخصيات التي يؤدُّون أدوارها، أحياناً نضحك، يضحك الجمهور على حركةٍ، أو لفظةٍ، تكون خارجةً عن سياقها الأدبي، لا صدمة عاطفية، أو فكرية، فننفعل، أو نتأمَّل. سيلٌ من السرد لا وجه مرئي له سوى أنَّنا نرى الممثل يحكي ويتلوى كما رسم له المُخرج.
عروضٌ مسرحية تريد أن تبتلعَ مُتفرجيها بالحكي، لا أن تتشارك معهم الفعل. رؤية تشاؤمية للحياة، كما في "هدنة"، و"عواء الديك"، لا كثافة درامية للوقائع: هل يجب أن نأخذ حذرنا من المسرح؟
في عرض "طميمة" لعروة العربي، على جمالياته، كانت هنالك جمل حوارية قبيحة في
في عرض "هدنة"، من تأليف علي عبدالنبي الزيدي، وإخراج هاشم غزال، تمثيل مصطفى جانودي، ووفاء غزال، ضَيَّعَ المُخرجُ جُهدَ ممثلين، بل نفَّذ فيهما عملية (القتل الرحيم)، سلسلة من الحركات العنيفة المكرَّرة لنص سردي ذي دلالات شبقية: عروسان ليلة عرسهما، ليلة فض البكارة، يختار لهما ساحة معركة، أو ورشة حرب، ففيما الممثل يصعِّد من غريزته الجنسية في ليلة العمر، نرى الممثلة تُهبِّط؛ تقتل جموحه ورغبته ولا تمنحه (شرف) تبليل المحرمة بدم العذرية، وهو يلوِّحُ بها حتى آخر مشهد في المسرحية - هي في حالة هدنة، أو دعنا في هدنة حتى تنتهي الحرب، وبعدها فُضَّ ما تفض. نص سردي إنشائي لا أفعال فيه، سردٌ ذهني يتقنَّع بمنطق السببية ليروي حكاية مبتورة، موسيقاها صوت طلقات القذائف والرصاص - كيف سيتزوَّج الرجل - يلجُ ما يلجُ، فيفضُّ ما يفضُّ، يُعرِّسُ والقذائف فوقه وحوله؛ رعبٌ وجنس، وجنسٌ بالحلال، أو حربٌ بالحلال؟ كيف يجتمع الحدَّان اللولب العضوي مع اللولب الروحي في مكان وزمان يلعبُ فيهما الموت؟ المُمثِّلة وفاء غزال، والمُمثِّل مصطفى جانودي، أظن أنَّهما فَهِمَا اللعبة، فحركاتهما التي كانت تذهبُ من العفوية، فالمهنية في الأداء، كانت في غاية الامتداد والتكثُّف، ما يكشفُ عن ثنائية للممثلين اشتغلا دوريهما بحسٍّ رياضي؛ نفسي؛ وشعري، وفي هذا قوَّتهما. وهذا الرأي ينسحب على الممثِّل فؤاد كعيد، في مسرحية "عواء الديك"، من تأليف طلال نصرالدين، وإخراج رائد الجندالي، فقد بذل جهداً تمثيلياً هائلاً فيه ملحمية، كان يتفانى في أداء دوره - لقد ذبح نفسه وهو يلوِّن في حركاته/ أفعاله، كأنَّه الزئبق الذي لا يقيس الحرارة فحسب، بل ويدخلُ حيث لا يدخل الضوء. حركة مكثَّفة، هبوط وصعود - هبوط، تضاد وامتزاج. فؤاد ممثِّل يعرف كيف يتنقَّل في بعض ثنايا دوره، حين كان يخلط الممثِّل، الذي هو، بالشخص الذي يمثِّل دوره فيتماهى به، ثمَّ يستيقظ، فيعود للصحو وفقاً لتبدلات الدور وأثلامه النفسية والروحية، كان حيوياً، وإن وقع في أسر دريد لحام، لامسَ أداءه في بعض مفاصل
في مسرحية "العطسة"، عن أنطون تشيخوف، وإعداد وإخراج زين العابدين طيار، تمثيل: أحمد درويش، وكرم الصيني، ويارا رضوان، وسليمان وقاف، وفاخر أبو زهير؛ أوقع المُخرج الممثلين في حكاية موظَّف لا يتماسك، تمسكه العطسة، فيعطسها ويجيء رذاذها على رقبة المفتِّش، فيُكابد الموظَّف طوال زمن العرض ليثبت له أنَّه لم يقصد به إهانته، كما فسَّرها مُفسِّر وشارح القوانين الموظَّف المتقاعد الذي يتمسَّك بدراجته وملابسه الرسمية وقبَّعته، مدافعاً، مُحرِّضاً المفتِّش ليقتصَّ من الموظَّف. مَنْ يقرأ أنطون تشيخوف سيجد أنَّه يفرجينا التناقضات فيجرِّدها، يسخر، ثمَّ يُعقلن الصدامات فيختفي التوتُّر. هذا لم يتعامل معه المُخرج. كان يُصعِّد الحدث، يُصعِّده، ولا ينفجر، ويدخل في التكرار، فتبرد الانفعالات. التوتُّر عند تشيخوف لحظة جدلية، وليس زعيقاً وحركاتٍ بهلوانية لانتزاع الضحك. المُخرج اتكَّأ على قوالب جاهزة، فلا تجديدات مشهدية، تكرارٌ مستمرٌ على طول زمن العرض لحركاتٍ الغايةُ منها إضحاكُ المتفرِّج، وليس إبراز الصراع الأخلاقي والنفسي.
في عرض "طميمة"، من تأليف شادي كيوان، وإخراج عروة العربي، كان الممثلون: كفاح الخوص، وكرم الشعراني، ويزن خليل، ومرح حجاز، ومرح حسن، يتنقَّلون من حالةٍ إلى حالةٍ تُناقضها، من الصداقة إلى خيانة الصداقة، من الحرب إلى خيانة الحرب، وبسبرٍ عميق لمستويات الشخصية، وتقلبات أمزجتها، وفي درجاتٍ تصلُ إلى الانتقام، حين يضرب كِفاحُ كَرمَ لمَّا اكتشف خيانته مع خطيبته ليلى، وهو الذي تحلَّل منها بالزواج عليها من ألمانية في مغتربه الاختياري بسبب الحرب السورية. الممثِّل الخوص الذي ذهب إلى الانتقام يبرِّر زواجه وخيانته لليلى التي أمست متردِّدة بين حبِّه الذي صار جافاً بسبب غيابه في اللجوء سنتين إلى ألمانيا، وبين حاجتها العاطفية والغريزية لرجلٍ تحتمي إليه ويحميها، بل التهبت بحبه.
عروة العربي في هذا العرض يشقُّ طريقاً خاصاً به، فهو لم يقع في الوصف، أو التشخيص، كان يلعب، كان يقوِّي الصراع، فيومضُ الفعل ومضاتٍ لاذعة من جسد الممثلين، وليس من أفواههم - كُنَّا مع (فعل) بدون غلالة بلاغية خطابية. وهذه تعني فيما تعنيه أنَّ عروة لا يمسرحُ لغواً واستيهامات من مفرزات الصراعات السياسية والاجتماعية والعسكرية والثقافية التي تدور على أرض سورية منذ 2011، وهذه جديدة وتُحسب له. فالسوريون لجأ مَنْ لجأَ منهم إلى دول أوروبية وعربية، ومنهم من (اختبأ) في خندق، أو وراء جريدة، أو في سيارة مفيَّمة، أو في برواظ، أو أصيب بعاهة نفسية، أو علَّةٍ مرضية. إنَّها الحرب، في المؤثِّرات الصوتية والبصرية: صوت أمطار، وكف الماء من السقف، إضاءة متناغمة مع المكان والأثاث الافتراضي مع حركة الممثلين المحسوبة بدقَّة، فلا خطوة مجانية، إغلاق التلفزيون لحظة دخول الممثل في المشهد الافتتاحي ليُنهي حكيه الذي لا ينتهي، لنرى، نشوف المسرح الواقع، الواقع المسرح في طميمة. عروة العربي في هذا العرض يجرِّب، فيفرجينا شجاعته كمخبري وطبيب مسرحي كيف يفتِّت؛ يُفكِّك جمال السوريين المنكوبين بالحرب، ثمَّ يجمعه، يفرجينا بشاعة وقذارة وبهيمية تجَّار الحرب وسدنتهم، وهو يتحكَّم بمشاعر وانفعالات ممثليه، بما يتناسب ويناسب قصيدة بصرية.
في عرض "إجا"، للمخرج دانيال الخطيب، عن مسرحية "هيا اقتلني يا روحي" لعزيز نيسين، امرأتان: سيان عمرها 68 سنة أدَّت دورها حلا ونوس 29 عاماً، وديها عمرها 72 أدَّت دورها يارا العلي 25 عاماً، امرأتان عجوزان، "سيان" الأرملة منذ 23 سنة، و"ديها" الأرملة منذ 27 سنة. ثمَّة مأساة تعيشها المرأتان اللتان فقدتا زوجيهما موتاً في أوَّل حياتهما، فهما ما زالتا في حاجة إلى الوليف، لكنَّه الوليفُ الذي لم تقدرا على قبره طيلة هذا الزمن من ترملهما؛ الوليفُ الذي يأخذهما نحو النشوة، وحسناً لو ذهب إلى النوبة التشنجية.
البنتان حلا ونوس، ويارا العلي، بَدتا متفهمتين لدوريهما، فتفوران، تتبادلان الفوران، ثمَّ تنطفئان. وبصمتٍ ودهشة تمثلان، فتشعر أنَّهما تتعاملان مع بعضيهما بحسِّ المداعبة. هو كذلك - هادئتان، منضبطتان، تتحركان عبر مخطَّط دوريهما بذكاءٍ، كما رسمه المخرج دانيال الخطيب. ممثلتان تلعبان وتداعبان جمهورهما وبرشاقة.
لمَّا كتب عزيز نيسين مسرحيته كان يركِّز على إبراز المشاعر الإنسانية لامرأتين فقدتا
*ناقد سوري.