}

فيلم "الممر" أو معنى كلمة وطن ومفهومها

أريج جمال 13 نوفمبر 2019
سينما فيلم "الممر" أو معنى كلمة وطن ومفهومها
"يستعيد الفيلم حدثاً تاريخياً: الهزيمة ثم حرب الاستنزاف"
إذا قلنا كلمة "وطن" فما الذي يمكن أن تثيره في ذهن المُستمع أو القارئ أو المتفرج؟ بصياغة أخرى للسؤال: هل تثير كلمة "وطن" الأفكار نفسها والمشاعر لدى الكل بنفس القدر؟ من الصعب أن نجيب بنعم، اليوم أكثر من أي وقت مضى، فبعد كل هذه الأحداث السياسية والهزات التي جرت في المنطقة العربية، وأياً كان تقييمنا لها، سقطت الصورة القديمة للوطن، وانخرطنا اليوم بإرادتنا أو بغير إرادتنا في محاولة رسم صورة جديدة له.

صحيح أن كلمة وطن لا تُذكر صراحة في فيلم "الممر" من تأليف وإخراج شريف عرفة، بينما في المقابل يُذكر كثيراً اسم مصر بما له من حمولة شعورية أكبر، تجعل الفكر خائفاً من التمادي، سواء سلباً أو إيجاباً، إلا أن الخلاصة تبدو متشابهة، فصُناع "الممر" سواء قصدوا أم لا جعلونا نتأمل فكرة الوطن، على مدار ساعتين ونصف الساعة، هو زمن الفيلم، حتى ولو لم نصل إلى نتيجة واضحة.
في المشهد الأول من الفيلم يتحدث الضابط الإسرائيلي مخاطباً زملاءه قائلاً: "الحرب دي يتوقف عليها وجود إسرائيل"، ونحن نسمع هذه العبارة باللغة العبرية، اللغة التي قليلاً ما ظهرت في فيلم مصري، وبينما تصاحب هذا الصوت مشاهد من احتفالات عبرية لنساء يرقصن ويبتهجن، يكون من الطبيعي أن نعتدل في جلستنا وأن ننتظر الجديد الذي سيقدمه لنا الفيلم.


ما يجعل سقف توقعاتنا يرتفع أكثر دون وعي منا، هو أيضاً حالة الإلحاح التي أحاطت بنا ودفعتنا دفعاً للمشاهدة. فصُناع العمل يحشدون عدداً كبيراً من الوجوه ومن مختلف الأجيال، ولا يتوقفون حتى أمام هؤلاء الذين يثيرون بحضورهم جدلاً يمس حياتهم الشخصية (كأحمد عز، صاحب قضية نكران الاعتراف بولديه)، ومحمد الشرنوبي، المغني والممثل الذي فرض نفسه نجماً في وقت سريع، تدعمه قاعدة جماهيرية واسعة من الفتيات، وإضافة إلى هذين الاسمين هناك من الأبطال: إياد نصار، وأحمد رزق، ومحمد فراج، وأحمد صلاح حسني. كما نشاهد في الفيلم نجوماً آخرين قريبين من القلب كهند صبري وشريف منير، في أدوار قصيرة أو أقرب لضيوف الشرف.

فيلم يُراد له أن يكون حربياً
واضح جداً أن معظم الأبطال من الرجال، فالفيلم يُراد له أن يكون حربياً، والحرب للرجال وفقاً للمفهوم الشائع عنها على المستوى العربي، ولكن ذلك لا ينفي الحضور المميز والمؤثر لممثلة مثل أسماء أبو اليزيد. لا يفوتنا الانتباه إلى أن "الممر" وربما منذ إعلانه الدعائي يعترف بارتباطه بنموذج السينما الهوليوودي، ولا أعني بهذا ما وصلت إليه هوليوود حقيقةً، لكن ما يعرفه عنها المخرجون المصريون، وهي فكرة ترتبط بالخدع البصرية، وجودة مشاهد الحركة وصفاء الصورة، وربما بشكل ما سطحية الفكرة.
عموماً لا يتركنا "الممر" طويلاً قبل أن يهبنا نفسه، وبداية من المشهد الذي يصور لحظة الهجوم الإسرائيلي على الجيش المصري فيما يعرف بهزيمة 1967، عندما  يظهر أحمد عز- النجم الذي يتمتع بلياقة بدنية تكاد تكون سبب اختياره الأهم للعب دور البطل "نور"، وعلى وجهه طبقات كثيفة من المكياج تخفي شيئاً ما لا يُراد لنا أن نراه، ثم يكتشف خدعة الهجوم ويجري إلى حيث يمكنه التقاط السلاح الذي سيواجه به منفرداً الطيران الإسرائيلي ثم يصطاد أحد طياري العدو، من هذه المسافة، ويُرديه قتيلاً، تسقط بالمثل الكثير من توقعاتنا عن "الممر".

إلى الخلف دُر
يستعيد الفيلم حدثاً تاريخياً مرّ عليه أكثر من أربعين عاماً، هو الهزيمة أولاً ثم حرب الاستنزاف ثانياً، ويحاول أن يضعنا في الأجواء التي تفرض علينا مفهوماً أوحد عن "الوطن" الذي يتعرض الآن للخطر وعلينا أن نُنحي أي خلاف معه ونتخذ صفه. نشاهد الضابط نور عندما يعود إلى بيته بعد الهزيمة، محطماً داخلياً، لا يريد أن يرى زوجته- وتلعبها هند صبري- أو ابنه الصغير، كي لا يظهر ضعفه أمامهم كعادة الرجل الشرقي، لكن زوجته تفهمه، وتقف بطريقة مسرحية متوقعة، لتلقي علينا خطبة حماسية عن "الرجال اللي بيعيشوا الكابوس وهما صاحيين"، فالهزيمة كابوس لا بد أن ينتهي يوماً ما.

لا صوت يعلو فوق صوت المعركة
تسيطر على فلسفة الفيلم رغبة في عزل الجنود بعيداً عن المواطنين العاديين، أو على نحو أدق عزل المُشاهد عن الحياة العادية واحتجازه على الجبهة، ربما بهذه الطريقة يتوقف صراعه مع فكرة الوطن/ مصر. في أحد مشاهد الفيلم، مشهد "السنترال"، يستفز الموظف الموكل بترتيب الاتصالات التلفونية الضابط نور، بكلمة تسخر من انسحاب القوات ساعة الهزيمة، وهكذا ينفعل نور ويتحول المشهد المؤسف (من المفترض أن الفيلم مأخوذ عن قصة حقيقية) في عُرف المخرج شريف عرفة إلى مشهد "أكشن" يعتدي فيه ضابط الجيش- بطريقة تثير الإعجاب!- على عدة مواطنين وعلى موظف السنترال نفسه ثأراً لما يعتقد أنها كرامته.


في "الممر" يرتبط ظهور الحياة المدنية - مع استثناءات بسيطة- بالرقص الذي هو مرادف موضوعي لفكرة الخلاعة، للتهريج وللغرق في الملذات مع عدم الانتباه لما يحدث في البلد. يأتي "إحسان" ويلعبه أحمد رزق من عالم "نعيمة الرّعاشة ورَوحية معدمكش"، تقول السيدتان إن اللجوء إلى الهلس يزيد في أيام المصائب، ويطلبان من الصحافي أن يروج لهما على صفحات جريدته.
لا يقبل إحسان هذه الدعوة إلا لفترة مؤقتة ثم سرعان ما يهجرهما ويتطوع في الجيش ليكون مراسلاً صحافياً، يقبله الضابط نور بين صفوف كتيبته لسبب وحيد هو أن إحسان اعترف أنه فاشل ولم ينجح في أي شيء طوال حياته وهو اليوم يريد أن يقلب ذلك الفشل إلى نجاح. وإذا كانت حجة قبوله غريبة في هذا السياق، فإن المبرر الدرامي لوجود شخصية مثل إحسان هنا، هو بالطبع إعطاء مساحة للكوميديا، تعتمد على مفارقة حضور شخص ممتلئ الجسد وجبان في مشهد حربي.

ضحك من نوع آخر  
يثير "الممر" ضحكاً من نوع آخر غير مقصود، وحيث لا ينبغي أن نضحك. ففي سعيها إلى التقليد الأعمى للسينما الأميركية غالباً ما تسقط السينما المصرية في فخ التحول إلى "السينما الهندية"، بمعنى المبالغة في المستوى الدرامي إلى درجة تؤدي به إلى نقيضه. إننا نشاهد مثلاً الضابط "محمود" يلعبه أحمد فلوكس واقفاً أمام الضابط الإسرائيلي "أليعازر" ويلعبه إياد نصّار ليتحداه، بعد أن تعرض للأسر، ويعطي نصار أوامره للكتيبة المصرية بأداء حركات معينة، لكن فلوكس المتحمس- بشكل زائد عن الحد أحياناً- يوقف انصياع  الكتيبة لأوامر عدوه ويتحدى الضابط أن الكتيبة لن ترضخ سوى لكلام ضابطها المصري، ثم يملي عليهم بعد ذلك نفس أوامر الضابط الإسرائيلي. ما يجعلنا نسأل لو أن المقصود هو الاعتراض الجهوري الأجوف الذي يتفوق فقط في الكلام، لكنه ينصاع على الأرض.
مشهد آخر غير موفق هو مشهد الحوار الذي يجري بين أليعازر وبين الضباط المصريين بعد أن نجحوا في أسره، ويتحول فيه موقفه أكثر من مرة بطريقة مثيرة للسخرية، من الدفاع عن إسرائيل إلى عرض مساعدة المصريين ثم إلى الغرور غير المفهوم، ذلك الحوار الذي ينتهي بعبارة "أنا مش هقتلك عشان مترتاحش أنا هآخدك معايا على مصر"، يصلح الحوار في هذا المشهد تحديداً لأن يكون مثالاً على ضعف المنطق في الفيلم، والاعتماد على التجييش العاطفي الوطني، الذي يختصم العقل، ويجعل الحرب بين فريقين نوعاً من الكيد أكثر منها قدرة على التخطيط الحكيم.


فيلم دعائي؟
يظهر في "الممر" التفريق بين نوعين من الفن، الهادف منه والرخيص/ الهلس، عندما ينضم إحسان إلى الجنود الذين يتفرجون عبر شاشة سينما ضخمة على فيلم بالأبيض والأسود، ويستمتعون بأغنية جميلة هي "من بحري وبنحبوه" تغنيها هدى سلطان، ويناقض التقديم السينمائي لكل من نعيمة الرعاشة وروحية معدمكش، حين تقفان على رأس الكاميرا كالشياطين، التقديم الأليف والناعم لمشهد فرجة الجنود الليلية على السينما زمن الحرب، والأخير يكاد أن يكون أحد أكثر مشاهد الفيلم إنسانية وتحرراً من الدعائية.


هذه السمة الأخيرة هي التي تسيطر على روح الفيلم. وذلك ليس عيباً فنحن نتذكر في تاريخ السينما فيلم "المدرعة بوتيومكين" للروسي سيرجي آيزنشتاين 1925 كنموذج لأفلام الدعاية، لكن "الممر" بضعف السيناريو والحوار والقشور الإنسانية التي يقدمها عن شخصياته، لا يتفوق كثيراً في حقل الأفلام الدعائية.
قد يكون "الممر" يروي قصة حقيقية وهامة بحق في تاريخ الحرب المصرية الإسرائيلية، لكنه يركز في هذه الرواية على الشعارات والغرور الذكوري بالذات، أكثر مما يركز على عمق هذه الحرب، وعلى موقعها في التاريخ السياسي وفي نفسية مجتمع بحاله، ويختار شريف عرفة في عمله الجانب الأكثر شعبوية من الحرب، الجانب الحماسي المتقلب والذي ربما يكون هو السبب الرئيسي أصلاً وراء هزيمة حزيران/يونيو 1967.
إن أكثر أجزاء الفيلم إثارة للأدرينالين، هو تتابع مشهد الحرب في الربع الأخير، أو تنفيذ المهمة المصرية الصعبة وهي "تحطيم أكبر معسكر احتياطي للعدو في سيناء"، وهنا يتحول التكنيك في الفيلم إلى ما يشبه لعبة الفيديو جيم أو "الأتاري" كما نقول عنه في مصر، بل إن حيلة أن تُلوِث دماء الضحايا الكاميرا لهي حيلة مأخوذة أصلاً من ألعاب الحرب والقتل في الـ PLAY STATION، وعموماً نتوقع أن نتفرج على مشهد قتال رجل لرجل، وبالتأكيد سيكون هذا بين أحمد عز وإياد نصار، بصفتيهما ممثلين لكل فريق.
يتفوق خيال المتفرج على خيال الصانع السينمائي في "الممر"، وهذه ليست شهادة لصالح صُناع الفيلم على أي حال. فعندما تقرر السينما اليوم أن تستعيد حدثاً تاريخياً قديماً من الأجدى أن تسأل نفسها عن الرواية الجديدة التي يمكن تقديمها عن هذه الحرب، وعن المعنى الذي تريد إيصاله عن هذه القصة القديمة اليوم؟ هذا على الأقل ما علمته لنا هوليوود في أكثر أفلامها الحربية دعائية (مثل "مولد أمة" 1915، و"إنقاذ الجندي رايان" 1998)، دون أن تكتفي أبداً بهموم التقنية كما في "الممر"، ناهيك عن تقديم سردية منتهية الصلاحية عن الوطن كفكرة مجردة رومانسية ومنفصلة عن الواقع تماماً، بينما قد يكون مفهوم الوطن الذي نحتاجه اليوم حقاً هو: "مجموعة من المواطنين يستحقون الحماية والاحترام بالقدر نفسه".
إذا ما انتهينا من مشاهدة "الممر" ما الذي سيبقى منه؟ ربما فقط بضع أسئلة حائرة عن المطلوب منّا بعد هذا الشحن العاطفي، والسؤال المُحرِج عن هوية العدو الذي ينبغي علينا الاستعداد للقائه اليوم في 2019، إذا كان ثمة عدو!

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.