}

مسلسل "عروس بيروت".. تلميع سمعة طبقة آخذة بالأفول

أنور محمد 6 أكتوبر 2019
سينما مسلسل "عروس بيروت".. تلميع سمعة طبقة آخذة بالأفول
مشهد من مسلسل "عروس بيروت"

ليست حياةً اجتماعية وادعة تلك التي ستعيشها (عائلة الضاهر) بعد أن دخلت عليها "ثريا"، الممثِّلة كارمن بصيبص، البنتُ الموسيقيةُ والمغنيةُ من منبتِ عائلةٍ فقيرة زوجةً لـ"فارس الضاهر"، الممثِّل ظافر عابدين؛ وهو زواجٌ قدَّم فيه فارس تنازلاً طبقياً كون الحب هو من أشعل نيران قلبه عندما كان يسهر في نادٍ ليلي تُغني فيه وَعَشِقَها لتصير "عروس بيروت" المسلسل الذي أخرجه التركي إيمرة كاباكوساك.
"ليلى"، الممثِّلة تقلا شمعون أمُّ فارس التي تضرب جداراً فولاذياً حول عائلة الضاهر بمحافظتها على سلوك بروتوكولات (الأغنياء) في حياتها الاجتماعية، وفي تحقيرها لمن هم دونها من خدم وخادمات وغيرهم من بياض وسواد الناس، تقفُ ضدَّ هذا الزواج غير المتكافئ طبقياً، للمحافظة على لمعان وبريق العائلة الذهبي، وهي العائلةُ التي تتحكَّمُ في الاقتصاد بما تملك من (رساميل) عينية ونقدية، وفي السياسة، بتوثيق علاقاتها بالمسؤولين من مستوى محافظ ومدير أمن.
المسلسلُ يعرضُ ويدعمُ هذه العائلة، وهو يسردُ سيرتها، والمُخرج التركي إيمرة كاباكوساك كنَّا نتوقّعَ أن يفاجئنا فيقدِّم تأمُّلات نقدية لهذا الصراع الذي يظهر ويتنامى بين ربَّة العائلة ليلى وكنَّتها ثريا حتى بعد أن دخلتْ الكنَّة الثانية "نايا"، الممثِّلة مرام علي، زوجةً لـ"خليل الضاهر"، الممثِّل جو طراد، قصرَ آل الضاهر، وهي التي تُحبُّ فارس واختارتها ليلى بنفسها كنَّةً لبيت الضاهر. القراءة الإخراجية جاءت نمطية تقليدية، لذا سينعدمُ التأمُّل، وربَّما يعود بعض هذا السبب أيضاً إلى السيناريو والحوار الذي كتبه كلٌ من بلال شحادات ونادين جابر إذ لا لحظات واثبة، ولا تعارضات وتناقضات، ولا قفزات مُشجية. لأنَّه كُتبَ كما يبدو بميكانيكية مدرسية، خصوصاً وأنَّه صورة مُنتحلة عن مسلسل "عروس إستانبول".
وهذا لم يمنع المُخرج من توجيه ضربةٌ ليست مفاجئة في تطوِّر الأحداث كانَ يُعدُّ لها، وذلك حين دخلَ/ تسلَّلَ عاشقُ ثريا حفلَ عروس بيروت التي هي هنا "نايا" زوجةُ خليل، وليست "ثريا" زوجة فارس التي لم يُقَمْ لها عرس، وبيده مسدسٌ فوهته باتجاه العرسان الأربعة يريد تصويب طلقاته نحو ثريا بدفعٍ من غريم العائلة الممثِّل محمد الأحمد، والذي يصوِّر لقطات من هذا المشهد لينشره في الصحف بقصد تشويه سمعة آل الضاهر الأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية وينجح بذلك، إذ تنزل قيمة أسهم آل الضاهر في الأسواق، يُتبعها بنشر صورٍ لثريا مع صديقة لها التقطها في مطعم فيما كان هو معهما على نفس الطاولة ما يزلزل سمعة العائلة- أيُّ عائلة هذه تصوِّر نفسها ملائكةً في المجتمع فيما الشياطين ترتع في عقل ربَّتها.
ما يؤلم أنَّ الكاتبين بلال شحادات ونادين جابر كما المُخرج إيمرة كاباكوساك في "عروس بيروت" ومع العولمة وما بعد العولمة يحافظون على سمعة وكرامة طبقة دقَّت ساعة زوالها التاريخية من زمان، رغم أنَّ العولمة استعاضت عن هذه الطبقة بـ(مافيات) من حيتان وديناصورات وأسماك قرش شممنا بعض روائحها في بعض مفاصل المسلسل. لكن هذا لم يمنع الست ليلى، وهي الروح الحارسة لعائلة الضاهر، من أن تمارس عجرفتها إن على مجتمعها، أو على الخدم الذين تترأسهم الممثِّلة لينا حوارنة التي تبدي طاعة وتبعية عمياء، فهي غير الخدم الذين يخفون حسَّاً ماكراً وساخراً كما نلحظه عند بعض مرؤوسيها من الخدم الذين لم يتروضوا ولم يتسيَّسوا ويرفضون التكلُّس. وهنا نرى صورة في أغلبِ مَشاهدِ الخَدَمْ تكشفُ عن انفعالات عاطفية مُستنكِرة. فالمُخرجُ يركِّز على الوجوه؛ الوجهُ في الصورة الدرامية التلفزيونية والسينمائية يُفترض أن يُفكِّرْ، يركِّز على موضوعٍ ما؛ ذاك غير وجه فارس الذي لا
يَنْشَدِهُ ولا يندهشُ ولا يعكسُ مشاعره الداخلية إلاَّ قليلاً؛ فهو في حالة سلام وإن أبدى امتعاضاً أو استياءً أو رفضاً، وهذه المشاعر تدوم لثوانٍ، ثمَّ ينقلب ويعودُ إلى سلامه. بماذا يُفكِّر؟ فارس في معظم مَشَاهِده يعكس لحظةً ساكنة، فوجههُ غير وجه ثريا الذي ترى فيه حركةً مكثَّفة، حركة تعبيرية كأنَّها تتفرَّس في المُشَاهِد. يشتركُ معها في هذه المشاعر التي تنعكس على وجهه كما على يديه الممثِّل فايق عرقسوسي وهو يؤدِّي دور الأب، والذي يترك بينه وبين عائلة الضاهر مسافة أمان. فوجهه نرى فيه خطوطاً مقطَّعة وأخرى مُنكسرة تبيّن عن وجهٍ روحاني؛ وأنَّ الروح هي مَنْ يقيِّد الجسد ويفكَّ أسراره العاطفية والغرائزية. الروح هي ما يُفترَض أن يفرجينا المُخرجُ نزقها وتبرمها ورضاها، فأعضاء الجسد وأجزاؤه خاصَّةً في الدراما الصورة، هي ما يظهر عليها نزوعات الروح حتى عندما تسْكُن حركة الممثِّل، فأغلب صور المَشَاهِد عادةً في الدراما التلفزيونية هي صورة مُقرَّبة، ومسافتها قريبة من المُشاهِد- ليس كالمشهد المسرحي، فتجتاز مع الممثِّل فرحاً أو حزناً. فللفم كما للأنف والعينين والوجنتين دورٌ في عكس مشاعر الروح كانت متوحشة أو مستأنسة وهي تبرز الفعل أو ردَّ الفعل. وهذه أفلتت من المُخرج في الكثير من المشاهِد- ربَّما في مشهد الحوار الغاضب بين ليلى أمُّ فارس وفارس، حين جاء لينتزع منها وصايتها على زوجته ثريا، فلا تتدخَّل في حياتهما الزوجية بعد أن أجبرتها على توقيع تنازل عن حقوقها الزوجية في المُعجَّل والمؤجَّل لتطليقها دون علم فارس، فشفنا حركة تصعيدية للصراع والذي ظهر لأوَّل مرَّة كما لو أنَّه عقوق. بعدها يهبط؛ مع أنَّ صراع المشاعر- وهو صراعٌ يذهب نحو أخذ موقفٍ- فعلٍ إرادي، يُخلُّ بشرط الطاعة الأبوية لأم فارس ويخلخل قوَّتها ونفوذها، وينزع جزءاً من القشرة السميكة لإرهابها الذي تمارسه على عائلة الضاهر، كان يُفترض أن يُصعِّد المُخرج الفعل في الصورة لنرى أيضاً جانباً من خواء الأم يوقف أو يتوقَّف الجدل- جدل الصوت والضوء، جدل الأفكار حتى يتحقَّق ذاك التوهج الذي نرى فيه حركة امتدادية وتكثيفية لتصل إلى الذروة. المُخرج يقطعها فيهبط هبوطاً عادياً. كُنَّا نريد أن نرى الانفجارات الروحية للأم وابنها فارس يشلِّحها بعض امتيازاتها وليس حقوقها؛ نرى نار خوائها كامرأة تحيط نفسها بجدار من فولاذ أمام تسامي كنَّتها ثريا المنفتحة على الطبيعة، والتي تعيش عالماً روحياً يقوم على العفوية والارتجال، وهي تنشد الأغاني وتعزف الموسيقى.

حركة ميكانيكية
لا شكَّ أنَّنا مع مُخرج يعرف كيف يبني مشهده؛ صورته. ولكن لماذا هذا اللمعان والإشعاع المبهر المستمر على طول الزمان والمكان للعروس البيروتية، ثمَّة روح في الطبيعة: غامق

أسرة مسلسل "عروس بيروت" 

وفاتح، أسود وأبيض، شر وخير، مجرم وضحية. فالمخلوقات التي في "عروس بيروت" هي كائنات حية تنام وتستيقظ، تغضب وترضى، تحب، تقاوم، تتآمر- متآمرٌ شريرٌ يكيد للعائلة لتشويه سمعتها- تنتقم، لكن واستكمالاً لبنية الصورة الإخراجية كان الممثلون في الحلقات الأولى يتحركون كما البشر الآليون، أو الدمى. بعضهم استمرَّ في تقليد هذه الحركة بخطٍ منكسر، وآخر بخطٍ مُتعرِّج كما لينا حوارنة في دور رئيس الخدم وظافر عابدين في دور فارس وبقية أفراد عائلة الضاهر.

لا أفقي ولا شاقولي، ولا اختلاجات. حركة ميكانيكية. لا اندفاعات حيوية ولا تمثلات عضوية، وفوقها أضواء وظلال سواءً كشفت عن صورة قصر الضاهر من الخارج أو محتوياته من الداخل، وهي تركِّز على الأدوات المنزلية في المطبخ أو الجدران والأسقف والفرش، فإنَّها أشياء لا حياة تدبُ فيها رغم أنَّها مسكونة بأفراد العائلة وحاشيتها من الخدم. ربَّما كانت هذه الأشياء في النادي الذي تعرَّف فيه فارس على ثريا تتحرَّك وليست جامدة. إنَّ احتجاز الحركة في الجامد يوقف نمو وتصاعد الفعل/الصراع مهما كان الممثلون بارعين. حركة ولا تضاد، ولا شكَّ هناك مساقط وإسقاطات وإحداثيات في حركة الكاميرا ولكنَّها كاميرا تصوِّر المكان في حين كان عليها أن تبنيه. الكاميرا مع الحيوي وليس مع الميكانيكي، لأنَّها ستكون مع المُخرج الدرامي عيننا وروحنا كمشاهدين أو متفرجين نتطلع لرؤية أذرع وأياد تتصافح، وأعين وآذان وأنوف تترقَّب، تتخطَّف، تتعقَّب، تلامس روح الحياة. وهذا بالأساس ما تفتقده قنوات mbc في بعض مسلسلاتها، خاصةً التي تمولها وتبثها مثل (باب الحارة) بأجزائه، فتشعر أنَّ هذه المحطة ثُكنة عسكرية تعمل على تجميل اغتيالك كمُشاهدٍ في تعصبها لتمجيد النزعات العدوانية في الذات الإنسانية.

*ناقد سوري

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.