}

كارافاجيو في روما: أصدقاء وأعداء

أسعد عرابي 18 يناير 2019
تشكيل كارافاجيو في روما: أصدقاء وأعداء
لوحة عازف العود (كارافاجيو)
يقام تحت هذا العنوان مهرجان بالغ العناية النقدية والمنهجية الجمالية المقارنة، بما يتفوق على آخر معرض لهذا العبقري منذ ١٩٦٥م. اختزل المعرض بعشر لوحات كبيرة، سبع منها تعرض لأول مرّة، اختيرت من قبل ثلاث أكبر نقاد ومؤرخي الفن في فرنسا، بمن فيهم الكوميسير (المفوض) فرانشيسكو كاميليني، من أصل أكثر من ثمانين لوحة، تمثل المجموعة النادرة التي أعارها معهد «ثقافة - فضاء» لمتحف جاكومار أندريه المعروف في قلب العاصمة باريس. رافق العرض عشرات اللوحات من معاصريه الذين تأثروا بأسلوبه أو زوروه. أما اللوحات العشرة فقد اختيرت بحيث تمثل رموزاً لخصائص ريادته الفنية العبقرية التي سبقت عصره (القرن السابع عشر) بما يقارب من ثلاثة قرون. يقع زمان المعرض والتّظاهرة (التي تشمل عدة مواقع بحثية بما فيها المعلوماتية) ابتداءً من ٢١ سبتمبر من العام الماضي، ٢٠١٨م، وحتى أواخر شهر كانون الثاني من العام الجاري ٢٠١٩م. أثارت الأصداء الواسعة لهذه التظاهرة العديد من التساؤلات المشروعة على ألسنة نخبة الذواقة والجمهور العريض، تخيلتها وتخيلت الإجابة عليها كما يلي:

سؤال (١): لماذا اعتبرته المنابر الإعلامية النقدية والبحثية الجامعية والدوريات المختصة والبرامج الفنية (مثل آرتي)، وسواها حدثاً تشكيلياً مركزياً في الموسم الراهن؟ وذلك رغم إهماله المديد مقارنة بنجوم عصر النهضة الإيطالي: ميكيل آنج، وليوناردو دافنشي، ورفائيل، وغيرهم؟ لدرجة أننا لم نكن نعرف تاريخ ميلاده في ميلانو عام ١٥٧١م، أو وفاته في المنفى عام ١٦١٠م، إلا منذ عهد قريب؟ أضف إلى أن المعرض لا يتجاوز العشر لوحات؟

 ج (١): بقدر صحّة السؤال، بقدر استبطانه للإجابة. فالمعرض يعتبر جزءاً من التظاهرة هي التي تحمل الزائر إلى عدة مواقع للسفر في ظواهر عبقريته المكتشفة مؤخراً، باعتباره الفنان الأوربي الأشد اجتياحاً وتأثيراً خلال ثلاثة قرون، وخاصة بقية معرض العشر لوحات الذي

تحتشد فيه أعمال عشرات من معاصريه الذين تأثروا بأسلوبه وحساسيته الشمولية التي بلغت محترف أكبر معلم فرنسي، وهو «جورج دولاتور»، وزميله «أنطوان بوسان»، الذي تأثرت به «التكعيبية» بوساطة سيزان. وحتى شاردان المختص بالطبيعة الصامتة التي بادر باختراعها كارافاجيو.

اعتمد مفوض المعرض إذن وهو مؤرخ فن عالمي على منهج «علم الجمال المقارن» (الذي أسسه الفرنسي إتين سوريو في نهاية القرن التاسع عشر ومن خلال كتابه الأوسع انتشاراً: «التواصل بين الفنون»). هو ما سمح للجمهور بمتابعة مقارنة تأثيراته البصرية المباشرة على لوحات الآخرين.

سؤال (٢): إذا كانت أهمية المعرض تتمركز على عمق تحليله الفني من قبل كبار النقاد، مثل المقارنة المعلوماتية الخصبة التي أجراها هكتور أوبالك المختص بفنه، وحضرها عشرات من المتابعين، ونقلت عبر التلفزيون والإنترنت، محللاً شخوص وأيادي ومشاهد أعماله الإنجيلية، ألا يقتصر بالتالي «العنوان» على سيرته الحياتية أكثر منها الفنية؟

جواب (٢): يشير العنوان إلى زمان مادة المعرض، أي الفترة التي دعاها «بالرومانية»، التي ابتدأت من انتقاله إليها من مدينته نابولي بدعوة من اثنين من رجالات الإكليروس (رأس المسؤولية الكنسية في روما)، والمشجعين للمواهب الفنية. استقدموه إذن منذ أن كان شاباً عام ١٥٩٢م، ولم يغادر رعايتهم حتى عام بداية نفيه عن بلده (عام ١٦٠٦م) هرباً من حكم الإعدام الذي صدر بحقه بسبب قتله لأحد زملائه الفنانين الذي كان يزور أعماله. إذاً، العنوان المرتبط بإقامته الفنية وكراهيته واحتقاره العميق لكثرة ناقليه بسبب نجاحه، ناهيك عن توثيق صداقته الحميمة بتلاميذه ومريديه ومعاونيه، وبعض الشعراء والمثقفين المعروفين، فسيرته المتضمنة في العنوان ما هي إلا ذريعة وخطوة أولى للعبور إلى خصائصه الأسلوبية الاستثنائية.

سؤال (٣): هل استطاع المعرض أو التظاهرة من تثبيت هذه الخصائص الاستثنائية عن طريق القياس المعلوماتية المخبري «البارامتر» الذي ذكرته كمنهج متقدم في علم الجمال المقارن؟

جواب (٣): من المؤكد أن البحوث الميدانية التي بثتها بعض المحطات وخاصة «الإنترنت» أثبت بصيغة محسوسة بصرياً، وحتى رياضياً بحساب علاقة الفراغ بالامتلاء بأطراف وقياس اللوحة، وهو ما ندعوه بالاختزال «تكوين» طوبوغرافي للعناصر الحية، وما يلحق بها من إكسسوارات، هي بداية مبادرته لتأسيس في «الطبيعية الصامتة» من زهور أو ثمار أو آلات موسيقية وغيرها. كما ثبتت الصفة المعروفة «بالكارافاجية»، أي الوصف التشريحي للأجساد العارية عن طريق تعارض سطوحها المضاءة عن المظللة هي التي تنتمي إليها برهافة لونية بشّرت بالإنطباعية بدرجة ما، وتخالف ما سبقها من مدرسة هولندية برائدها رامبرنت الذي يعتمد على الظلمة ومساحة الإنارة بالشمعة. أو عكسه فيرمير الذي يعتمد على تسرب الإنارة الطبيعية عبر نوافذ رحبة بحيث تصوّر العناصر «بعكس الضوء».
انبثقت عن طريقة كارافاجيو في التعارض الوصفي للمساحات المضاءة مع المظللة، وبسبب حدة تراجيدية موضوعاته الإنجيلية إلى «الرومانسية»، وعلى رأسها أوجين دولاكروا بعد قرنين، وذلك باعتبار الوجود الإنساني المركزي (كما هو موروث عصر النهضة)، مع إضافة أنه وجود ملحمي بطولي يواجه قدر الموت بعزلته الموحشة. أحد كبار النقاد يؤكد في

محاضرته الجماهيرية بأن كل من سبق كارافاجيو كان مثالياً في تشريح الجسد، كما هو آدم في فريسك سقف كنيسة السكستين في روما التي صورها ميكيل آنج وفق قواعد تشريحية ومناظير شائعة في تصاوير هذه المرحلة (عصر النهضة الإيطالي). نصل هنا إلى التجديد الانعطافي في شخوص كارافاجيو وهو اعتماده على «النموذج الحي»، ووضعيته وتشريحه، وبالتالي وصفه مظللاً - منوراً بطريقة «طبيعية» (وليس ضمن مفهومه المثالي الإغريقي المسبق التعرّف). ناهيك عن عبقريته وموهبته الاستثنائية في الرسم وترويض الألوان الواقعية.
أما صفة «الاستفزاز» البصري والتخيلي فتبتدئ من هذه الصدمة الواقعية. بحيث يبدو ذبح دليلة لشمشون أشد فظاعةً ودموية من نظائرها في اللوحات الكنسية، وكذلك تعري القديسين أشد فضائحية، خاصة عندما يختار النموذج الحي (الموديل) من المراهقين، ينحى بذلك تطرف التأثير باتجاه الفحش و«الهرمافروديتية» (التخنث) الذي يخلط في إثارته الجنسية حدود الذكر بالأنثى، وصولاً حتى حدود التطرف والغلمنة. لكن هذه الصفة ليست عامة كما يدعي كوميسر المعرض والذين اختاروا اللوحات العشرة. فبين هذه المختارات ما يتجاوز الإستفزاز العنفي والإثارة الحسية إلى وضعيات «التأمل» في ذروتها الفكرية. تبدو مثلا لوحة القديسة «مادلين بحالة وجد» من أبرز المعروضات. تكشف استشرافه الرؤيوي لتيار «الرومانسية»، ينطبق هذا أيضاً على لوحة يعقوب يكتب وبجانبه جمجمة بيضاء. تتجاوز هاتين اللوحتين حدود الرؤيوية إلى جوهر صوفية أسلويه وحالات غبطته الروحية والجسدية. ناهيك عن صدمة اقتناص «لحظية» الموديل (مثل الفوتو اليوم) والقدرة الإعجازية على تثبيت خلجات الموقف كما هي حال جان باتيست في لوحة الإعلان «الولد الذي يعانق الكبش» أو لوحة سيزيف الذي يتأمل جماله في الماء، أو الولد الذي قرصه الضب (الحردون) أو الذي يعزف الموسيقى وغيرهم. بما في مثل هذه الأمثلة من استشراف للحداثة.
لم يعكر صفو الإقبال المنقطع النظير على العرض سوى هرج ومرج تظاهرات باريس، وإقفال المتحف مثل غيره خلال عطلة نهاية الأسبوع. لكن قوة النبض الفني في عاصمة التشكيل تظل أشد مناعة من أعتى الهزات، بما فيها الشعبية العارمة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.