}

معرض "عربيّ المستقبل" بباريس: رياض سطوف وريشة الواقع

بوعلام رمضاني 17 يناير 2019
تشكيل معرض "عربيّ المستقبل" بباريس: رياض سطوف وريشة الواقع
رياض سطوف

لم يحدث أن اقترن اسم مبدع فرنسي عربي وسوري الأصل تحديدا بمفهوم الظاهرة التي تتجاوز حدود بلد فولتير كما يحدث هذه الأيام على هامش معرض رياض سطوف المنظم في مركز جورج بومبيدو الثقافي الشهير بباريس منذ الرابع عشر من نوفمبر 2018، والذي من المنتظر أن يبقى الحدث الثقافي الأبرز لغاية الحادي عشر من مارس 2019.

وبرغم استمرار الحديث عن انتفاضة السترات الصفراء في وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي، فضلا عن تداول مخلفات مقتل الصحافي السعودي بشكل بشع لم يعرفه تاريخ اغتيالات الإعلاميين بحكم وطأة قوة الإعلام الأميركي عالميا، وحدث ستراسبورغ الإرهابي الذي فسره البعض بالمؤامرة المنسوجة بحسب أكثر من قناة فرنسية، لم تتقلص رقعة توسع وانتشار اسم "عربي المستقبل" الذي يحمل عنوان كتابه الفريد من نوعه والمرادف لتجربة أدبية وفنية وسينمائية وسيكولوجية وسوسيولوجية أعطت لمجال الأشرطة المرسومة زخما غير مسبوق من شأنه أن يغطي على أسماء فرنسية وأوروبية وعربية اشتهرت بمضمون رسوماتها السياسية المحضة المتوجهة للكبار الناضجين وليس للأطفال الصغار والشباب والكبار المتداخلي والمتنوعي الأعمار والانتماء الاجتماعي.

"عربي المستقبل" متعلم ولا يقتل

اسم رياض سطوف، الذي أصبح حديث كل الفئات الاجتماعية وفرض نفسه على المتعاطفين مع العرق الذي يعكسه اسمه وعلى العنصريين الذين ينفرون منه، لم يعد اسما عاديا في نهاية السنة الماضية، والإقبال المنقطع النظير الذي يشهده معرضه الذي زارته "ضفة ثالثة" يؤكد صحة شق رجل لمستقبل لم يكن يحلم به في ظل تزايد الترجمات الأجنبية لكتابه (22 ترجمة حتى الآن) والذي اختار له عنوانا كرم من خلاله والده الذي سهر على تعليمه بصرامة في سورية البطش الأسدي، وهو العنوان الذي شرح معناه وبُعده للصحافيين الفرنسيين الكثر الذين حاوروه عشرات المرات بقوله: "عربي المستقبل يعني عربي العلم الذي يصنع المستقبل الزاهر وليس عربي الأفكار المسبقة والمغرضة التي راجت وما زالت تُروّج عن العربي، وبفضل إصرار أبي على نجاحي التعليمي كنت التلميذ الأول في القسم ولو أن معاقبة التلاميذ المشاغبين وغير الجادين بطريقة تقليدية قاسية لعبت دورها في حرصي على التفوق".

رياض، الذي لم يتجاوز سن الأربعين، كرّر هذا الكلام في اللقاءات التلفزيونية، التي بثت على شاشة كبيرة قبالة كتابه "عرب المستقبل"، الذي ما زال يحتل كل واجهات المكتبة الإعلامية العمومية لمركز جورج بومبيدو انطلاقا من المدخل العام الذي تصدر رسوماته وصورته مرورا بقاعة المطالعة التي لفتت أنظار الزوار بشاشات الحواسيب التي تحمل صورة إشهار المعرض ووصولا إلى المعرض نفسه والذي انقسم إلى ثلاثة فضاءات صممت بشكل سينوغرافي مدروس وهادف وعملي. إنه الشكل الذي يسمح للجمهور الغفير بالوقوف عند كافة مظاهر إبداع وشخصية الرسام الأديب والمؤرخ والمحلل الاجتماعي والنفساني، الذي استولى على قلوب وعقول الفرنسيين والأجانب الكبار والصغار في سياق غيّر من انعكاسات وأصداء النطق باسم عربي يسعد ويحيي في البشر روح التشويق المتجدد وحب وفهم الحياة والسعادة ومتعة الفرجة ولا يقتلهم، كما يفعل فرنسيون شبان يحملون هويات تعيدهم إلى أسماء وإلى جلدة عربية الأصل فقط حينما يتعلق الأمر بتحليل فعلهم على أيدي صناع وقادة الرأي المسيطرين على مشهد الشاشات الفرنسية.

إن عربي المستقبل والماضي غير المتناقضين بحكم تكاملهما وكشفهما عن هوية إبداعية عربية وفرنسية الروح والشخصية (خلافا للتوجيه الذي يراد له أن يخدم فرنسا في غياب الحد الأدنى من الاهتمام العربي بالنوع الفني الذي برز فيه سطوف)، هو أيضا العربي الذي نشر على حسابه في إنستغرام صورة تظهره يحمل كوبا مصنوعا من فخار شمال فرنسا الشهير ومشيرا إلى اسمه المنقوش عليه، وكان وراء ولادة دار النشر التي تحمل اسم مؤسسها غيوم ألاري، الذي لم يحلم هو الآخر بمصير إعلامي صنعه سطوف الطفل السوري الذي تربى في شمال فرنسا وأضحى عنوان قصة إنسانية وعاطفية جمعت أبا سوريا من حمص وأما فرنسية من منطقة بريطانيا الشمالية. وكما تؤكد مشاريع سطوف مع ألاري ـ الناشر النكرة قبل سنوات قليلة ـ والمحظوظ الذي أصبح يزعج دور النشر الفرنسية الكبيرة، فإن مغامرته الفنية والأدبية غير المسبوقة والتي ستتحول إلى سينمائية قريبا، سوف لن تتوقف وستعمق رقعة انتشار اسم المبدع العربي الذي يسعد ويجذب الفرنسيين والأجانب ولا يرعب في زمن أصبح فيه اسم العربي غير مرغوب فيه في فرنسا الكاتب إريك زمور، الذي لم يعد كتابه "مصير فرنسي" المعادي للمهاجرين العرب والمسلمين الأكثر مبيعا بسبب ظفر كتاب "عربي المستقبل" بالمرتبة الأولى في المكتبات والأكشاك العمومية.

رياض المؤرخ والمحلل الاجتماعي والروائي بالرسم البديع المجمع عليه فنيا ونقديا والذي أنزله من برجه العاجي وغيّر من مفهومه التقليدي الخارج من رحم الخيال، لم يبرز إعلاميا وفنيا إلا بعد أن قرر التأريخ لولادته وهويته وطفولته ولمأساة وطنه. إنها المأساة التي ما زالت أسدية برغم ما عاشه الشعب الأعزل من تنكيل وترهيب، ولولا رياض لما نجت عائلته من بئس المصير في عز الربيع العربي الذي أجهض دوليا باسم محاربة الإرهاب الإسلامي فقط وحماية الأسد الأقل همجية وخطورة من داعش، بحسب أدبيات الكثير من المثقفين الغربيين والعرب، وبالتالي الأقل تهديدا للغرب والشرق وللقوى الكبرى التي تشكلهما، والأكثر خدمة لأجنداتها ومصالحها المتبادلة تحت وفوق الطاولة بحسب درجة ووعي العارفين ببواطن الأمور السياسية.

ريشة الواقع وليس الخيال

يجد الزائر لمعرض رياض نفسه في مرحلة أولى قبالة الرسام والمحلل السوسيولوجي، الذي وظف ريشته لاستنطاق الواقع تحت وطأة فضوله وحسه الاجتماعي ومساءلته سلوكات الكبار والصغار وتفكيكه لإشارات ومشاهد يومية، وهذا ما جسده في كتاب "دفاتر الطفلة إستير" التي تتخيل نفسها رئيسة جمهورية شعبية وعمرها لا يتجاوز الثانية عشرة بعد معايشتها مجتمع الأصقاع السفلى كمراهقة تتردد على المقاهي والميترو والساحات العمومية والأماكن الاجتماعية الناطقة بنبض الحياة في مجتمع متحرر كفرنسا. لم يقتصر سطوف في المرحلة الأولى من المعرض على القيام بدور المراقب الاجتماعي للظواهر وتجاوز ذلك مفككا ومحللا اللغة باعتبارها مرآة صادقة اجتماعيا والوجوه والعلامات التعبيرية المختلفة والحركات الجسدية والإيمائية مستهدفا الإحاطة بعالم وماهية المراهقة بكافة تجلياتها الممكنة.

في المرحلة الثانية من المعرض، التي حملت عنوان "فن الرسم البياني أو الكتابة التصويرية عند رياض سطوف"، نكتشف تاريخ تأثره مبكرا بالأشرطة المرسومة كطفل غير طبيعي بحكم تبنيه منحى وتخصص كبار رموزها تحت وطأة موهبة لم تلبث أن حولت صاحبها إلى رمز لاحق دخل تاريخ الأدب المرسوم من بابه الواسع. لم يكن قارئا شرها لكل ما يقع تحت عينيه وبين يديه كالأطفال الصغار والكبار العاديين والشغوفين بكتب الأشرطة المرسومة فحسب، وانفرد رياض منذ نعومة أظفاره بقراءة تتجاوز مستواها التقليدي الأول الذي يفسر حبا للمطالعة ولعالم الأطفال أو التسلية والترويح على النفس أو الهروب من ضيق نفسي ما، وراح يدقق النظر ويمحص ويستنطق رسومات بدت أنها أعمق مما يتصوره ويتحسسه العاديون من القراء، وأنها يمكن أن تكون حاملة "رسالة" تضرب بجذورها في رؤية ما للحياة والالتزام الثقافي وللإنسان بوجه عام، وربما كان غرامشيا ومثقفا عضويا قبل أن ينضج ويصبح كهلا يرسم ويجسد رؤاه الشخصية كما تبين لاحقا بموهبة فنية وبأصابع من ذهب وماس. وإذا كانت الموهبة لا تفسر بسهولة وبعامل واحد عند رياض وعند المبدعين العالميين الآخرين في شتى المجالات، فإن الالتزام المبكر والتغذية الفنية والشغف المتزايد كانت كلها عناصر نتجت عن قراءاته الجادة والكثيرة لأعمال أسياد وجهابذة الأشرطة المرسومة بوجه عام والذين اشتهروا برسومات سيرهم الذاتية مثل روبير كرومب وآر سبيقلمان وجان كريستوف مونو. ورسومات رياض في المرحلة الثانية من المعرض تعكس هذه الحقيقة قبل أن يصنع لنفسه هوية فنية اعترف بها النقاد لاحقا بعد أن عاش طفولة ومراهقة متأثرا بالأسلاف الكبار، وتنوعت لاحقا مناحي توجهاته الفنية من خلال مبدعين آخرين تميزوا بخصوصيات زادت من صقله موهبته غير القابلة للنقاش. تأثره المتعدد الأوجه منذ البداية والذي يصنع شهرته اليوم من خلال كتاب "عربي المستقبل" برز أكثر حينما قرر معانقة الواقع ومزجه بحميمية شخصية وتاريخية، وبدأت رحلته مع الواقعية من خلال ظلال فرانك فرازيتا وريشارد كوربن بعد أن أمضى فترة متأثرا بسلطة الرسم التصويري الذي جسده معبود الأطفال "تا نتا" وزرع فيه صدمته الأولى كما حدث مع أطفال آخرين كانوا عاديين خلافا لابن حمص الشهيدة بحكم سقوطها ضحية مرتين في مخالب وجهنم نظام أسدي قاتل مكن الأب من توريث الابن فنون إبادة البشر على مرأى ومسمع قوى عالمية ما زالت تتنافس على التواطؤ رغم ادعائها تجسيد توجهات وشعارات متضاربة. بعد أن عمق ثقافته الفنية في التسعينيات ومسار استلهاماته بواسطة الرسامين الأوروبيين واليابانيين الجدد ختم رياض رحلته مع مصادر ورموز ومثله العليا بصنعه خصوصية جمعت كافة البصمات الفنية التي خرج من رحمها إبداعيا، وصهر كل منابع تأثراته في حلة صممها لنفسه على مقاس دقيق أدخلته باليه كبار الرسامين الساخرين وهم كلير بريتشيه، التي اشتهرت في مجلة "نوفال أوبسرفاتور" اليسارية التي أسسها جان دنيال آخر كبار الصحافيين الفرنسيين المولودين في الجزائر الفرنسية، وجان مارك ريزر ودنيال غوزنس.

كما كان متوقعا، سُعد زوار معرض رياض سطوف بوقوفهم في آخر مرحلة عند "ابن فرنسا التي ورثها من بومبيدو أولا وليس من الرؤساء السابقين الذين حكموا فرنسا قبل ولادة رياض ومن شرق الدكتاتوريين الأوسط" (حسب محرر المطوية الإشهارية للمعرض)، وراحوا يتمتعون بقراءة ما تيسر وما تسمح به ظروفهم من صفحات كتاب "عربي المستقبل"، الذي عرض بعدة لغات أجنبية تعبيرا عن اعتزاز صاحبه بطفولته السعيدة قبل أن تتحول طفولات أبناء مدينته الشهيدة حمص إلى جهنم قبل الآخرة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.