}

معرض المصوّرة اللبنانيّة روان مازح: الحرب لا تنتهي بسهولة

مناهل السهوي 17 يناير 2019
فوتوغراف معرض المصوّرة اللبنانيّة روان مازح: الحرب لا تنتهي بسهولة
صورة من معرض "محلّن"

تقدّم الحرب اليوم نفسها من خلال المدن المُهدّمة والجثث المتروكة والقادة الذين يطلّون على الشاشات يعِدونَ شعوبهم بحياةٍ كريمة، لكن الحقيقةُ ناقصةٌ هنا، فالحروب لا تنتهي عندما يتوقف إطلاق النار وينسحب العدو، الحرب تبقى لسنواتٍ، تسكن في المنازل، تشاركُ أصحابها طعامهم وتضغط على ذاكرة أحدهم ليظهر الألم من أماكن منسيّة، إنّها لا تموت بانتهائها، وتنتقل من ساحاتِ المعارك إلى ذاكرة الشعوب وفرص نجاتهم التي ربما كانت كافية لإنقاذهم من الموت ولكن ليس لتخليصهم من ذاكرة الحرب القاسية.

الانتباه إلى خطواتنا

روان مازح مصورةٌ لبنانيّة درست فنَّ التصوير في جامعة سيدة اللويزة، تحمل في ذاكرتها الطفولية حربًا ربما تبدو بعيدة لكنها تعلم أن الحرب لا تنتهي بسهولة، فهي تترك خلفها الألغام والقنابل العنقودية مدفونة في الأرض تنتظر قدمًا ما تدوس عليها لتبدأ حربٌ جديدة، حربُ مصابٍ جديد.

العودة إلى منزلها في الجنوب وهي طفلة ومشاهدة آثار الحرب الإسرائيلية – اللبنانية والاحتفاظ بالأشياء التي تركها الغرباء في منزلها أيقظت فيها بعد اثني عشر عامًا رغبةً في الذهاب أبعد ممّا روي عن الحرب، رغبةً في ملاحقة الجروح التي لا تزال تنزّ والحديث عن الألغام التي تشكّل اليوم خطرًا حقيقيًا، متتبّعةً في سلسلةٍ وثائقية حيواتٍ مختلفة لأناس يعانون إلى اليوم من آثار تلك الحرب الجسدية والنفسية، بالإضافة لتقديمها الحرب الإسرائيلية من وجهة نظرٍ أخرى أقرب للزمن الحاليّ وتبعاته. وفي معرضها (محَلّن) أرادت وضع المتلقي في مكانِ من انفجرت بهم الألغام والقنابل العنقودية ولذلك تركت بقايا هذه القنابل على أرض المعرض حيث على المتفرج الانتباه جيدًا إلى خطواته في استرجاعٍ ذكيّ للحظات الموت السابقة.

الأشياء المتروكة

في منزلها الذي بقي صامدًا أمام القصف الإسرائيلي كانت هناك أشياء تعود لغرباء تُرِكَت في المنزل كحزام أو طلقات موضوعة في كيس هدايا، لتتابع مازح لاحقًا ذلك الخط الرفيع من الذكريات الشخصيّة والحميميّة في علاقةٍ مباشرة مع أصحابها أو أهل الفقيد، الأمر الذي لم ينته بسهولة، فالتورط في ذاكرة الراحلين يعني أن تبقى فرشاة أسنانٍ هي الشيء الوحيد الذي يحمل صوت وضحكة الفقيد وعلى المحتفظ بها أن يعايش كون هذا الشيء الصغير يحمل حبًّا حقيقيًا لشخص عزيزٍ لن يعود.

هويةُ صورِ روان هي تلك التي تتعلق بأشخاصها، الأشياء الوحيدة المتروكة والتي تحمل داخلها ذاكرة عائلاتٍ وأحباءٍ، تعكسُ أسى العلاقة فيما تبقّى من الراحلين، أو فيما امتلكوه من الحرب كقدمٍ اصطناعية، أو الذعر الذي يخلفه حزامٌ غريب استوطن منزلًا أثناء رحيل أصحابه، وما تحمله صور روان ليس حالة شعورية مركزّة وحسب، إنّها الذاكرة بطريقة أصحابها وليس على طريقة الحروب المعتادة ليذهب المتلقي نحو منطقة أبعد من التشكيلات المكانية أو المادية نحو فرصةِ التعرف على ألم الفقدان بكلّ هذا الذعر.

هذه الهوية التي اكتسبتها أعمال روان تتعمق في وجدانية الشخص الراحل كما الشخص الذي يحتفظ بأشياء الأول، وهذه الوجدانية التي ترتكز على الفراغ الذي يتركه خلفه وعلى محاولة ملء هذا الفراغ بأشياء تثير الذعر والسكينة في آنٍ واحد مَنحَت أعمال مازح دفقًا شعوريًّا مختلفا عمّا يمكن أن تقدمه الأعمال الأخرى التي تتكلم عن الحرب.

كيف نتذكر الغائبين

إذًا تكمن خصوصية عمل روان في مواجهتها هي وعدستها هذه المساحة الخاصة بالغائبين وعائلاتهم وهي من المصورين الذين يعايشون الصورة بكل كيانهم قبل التقاطها وهذا ما يتطلبه في الواقع عملها حين تقف أمام أخٍ لا يزال يحتفظ بأشياء أخته وبأم لا تملك سوى صورة في جريدة لمجزرة قانا تظهر فيها جثة ابنتها، ألمْ نتساءل يومًا عن هؤلاء الذين يشاهدون أجساد أحبائهم معروضة في الصور والأخبار! روان ذهبت إلى هؤلاء، من يعيشون الموت وتبعاته بطرق مختلفة، ومن يستطيعون رواية ذاكرة أحبائهم الغائبين عن طريق أصغر الأدوات والأشياء، تلك التي نعتقد لوهلة أنّها لن تكون ذات أهمية على الإطلاق في حياتنا، تجربةٌ تجعلنا نفكر في ألم الآخرين أكثر وفي التفاصيل التي يتركونها، فتلك الصورة المأخوذة من جريدة غدت تذكارًا فقيرًا ومؤلمًا عن الأمومة، واللهاية لم تعد أداةً نُسْكِتُ بها بكاء طفل إنما أصبحت شيئًا يُلهي الألم والحنين بطريقة أخرى.

هذه المقاربات بين عمل الأدوات في الحياة الطبيعية وبين ما تتحول إليه حين تغدو إحدى ممتلكات عزيز غائب تخلق صدمة في المتلقي وهو ما يجعله يعود إلى داخله نحو منطقة عميقة، لتحرك الصورة خليطًا من الحنين والخوف والألم وهي ذات المشاعر التي يعاينها أهل الفقيد يوميًا.

تقول مازح: "في هذه السلسلة، أضع نفسي "محلّن"، أقف في مناطق الألغام الأرضية والبقايا، أتابع ذكريات تجلس في الأدراج، مغطاة بالأشياء والممتلكات اليومية الروتينية، وأواجه الرفات البشرية: الجرحى والمرضى العقليين والمصدومين".

الاختباء في ظلّ الموت

متابعة الأثر النفسيّ والجسديّ، الذي تتركه الحروب في الشعوب على المدى الطويل، كانت مهمة مازح، التي اشتغلت على إخراج الألم والخوف الاجتماعي والصدمات النفسية من قواقعها والحديث معها وتشكيلها لتغدو مادةً مقبولة لصاحبها أولًا، يتعرف فيها من جديد على الراحل وعلى نفسه ذاتها، وهذا الخلط بين ما نحن عليه وبين بقايا الراحلين شكل عجينة من الفقدان والحنين والانكسار كان على عدسة مصورتنا نبشها ليس بدافع إيلام الآخر مطلقًا بل لاستجرار الكلام والأشياء لتعود وتظهر في المقدمة مكتفية من الاختباء في ظل الموت وانكساراته.

في النهاية تبدو الأسئلة هنا بلا أهمية مقارنة بتأمّل آثار الحروب وأفعالها في البشر، لنتيقن ومن خلال أعمال روان مازح أن الحرب تتخطى كلّ يومٍ المفهوم الروتيني عنها إلى مناطق النفس البشرية العميقة حيث الحروب تحفر بعمق أكثر لتترك مكانًا لا تبارحه مطلقًا مع مرور الوقت.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.