}

فلسطين تكرم الراحل جان شمعون:مناضل في جبهة السينما

يوسف الشايب 5 سبتمبر 2018
سينما فلسطين تكرم الراحل جان شمعون:مناضل في جبهة السينما
مي المصري خلال إحدى فقرات التكريم

على مدار ثلاثة أيام، استضاف المسرح البلدي في مدينة رام الله، فعاليات تكريم المخرج اللبناني الراحل جان شمعون، بمناسبة مرور عام على رحيله، وذلك بتنظيم من بلدية رام الله و"فيلم لاب"، وبحضور لافت من رفيقة درب شمعون المخرجة الفلسطينية مي مصري.

وأشير على هامش التكريم إلى أن جان شمعون اختار الطريق الأصعب في السينما، وهي طريق الانتصار لقضية كان العالم بأسره يتكالب عليها، فحمل كاميراته على كتفه كما لو أنها "آر. بي. جي"، وأطلق صورًا أصابت الاحتلال وأنصاره في مقتل، مدركًا أنه ورفاقه الذين أتوا من كل أنحاء العالم إلى بيروت، لتأسيس حركة نضالية سينمائية تشكل رديفًا للمقاومة الفلسطينية بشتى أشكالها، يعرفون أهمية دور الصورة في حمل الرواية الفلسطينية إلى العالم. كما كان يصر على أن تكون رفيقة دربه الكاميرا، ورفيقة دربه مي، الأقرب إلى قلبه، بوابتي عبور له نحو التعبير عن هذا الشعور الإنساني أولًا بشعب فقد أرضه، وعن الشعور الوطني القومي العروبي بمن كانوا جزءًا من بلاد الشام، يعيشون هم واللبنانيون والسوريون والأردنيون تحت حكم واحد، فاستعمارات متعددة، لينتهي المطاف بفلسطين، التي شكلت حاضرة ثقافية ما قبل النكبة، "وطنًا قوميًا لليهود!".

وجاء في بيان صادر عن المنظمين أن فعاليات تكريم جان شمعون في فلسطين تأتي إيمانًا منهم بأهمية تكريم قامة سينمائية عربية كبيرة كشمعون، عمل الكثير من أجل فلسطين ثقافيًا وفنيًا وسينمائيًا، عبر مواقفه السياسية التي لا مواربة أو لبس فيها، وهو الذي قال ذات يوم "سأظل أتكلم باسم فلسطين ما دامت محتلة".

حكايات كثيرة حول سينما جان شمعون ومي مصري وعلاقتهما المهنية والشخصية تضمنها فيلم تسجيلي في قرابة نصف ساعة، عرض خصيصًا في حفل إطلاق فعاليات التكريم التي تخللتها عروض أفلام لجان ومي، ونقاشات حولها مع مي، من طرف مختصين في الشأن الثقافي عامة، والسينمائي على وجه الخصوص.

تحت القصف، ولتصوير مشاهد من أفلام حول الحرب الأهلية اللبنانية، كان كل من المخرج اللبناني الراحل جان شمعون، ورفيقة دربه المخرجة الفلسطينية مي مصري، يحملان روحيهما كما كاميرتيهما على كتفيهما، لالتقاط مشهد مثير هنا أو هناك.. أحيانًا كانا يضطران للصعود على الأقدام طوابق يصل عدد بعضها إلى أربعة عشر طابقًا لضمان صورة نقية، برغم ما يشكله ذلك من خطر حقيقي على حياتهما.

وذات مرة، وبينما كان شمعون يقوم بتوثيق الحرب كعادته، تشظت بناية سكنية على مقربة منه، فكان أول الواصلين، ومن هول ما رآه أصيب بشلل كامل لفترة زمنية، لكن دماغه أعطى الأوامر لأطرافه بالتحرك مجددًا، بعد إدراكه لأهمية التقاط الكاميرا وتوثيق الحدث.

عن جان

بدأت مصري حديثها بالقول: هذا التكريم يعني لي الكثير لكونه في فلسطين.. التحم جان بسينما الثورة الفلسطينية مبكرًا، فقد أحب فلسطين قبل أن نتعارف، ففلسطين كما السينما هي من جمعتنا سويًا.. في وقت التحامه بالثورة الفلسطينية كان هناك سينمائيون ومثقفون عرب وأجانب ملتحمين بهذه الثورة، فكانت مؤسسة السينما الفلسطينية الحاضنة لكل هؤلاء المتضامنين بالسينما مع فلسطين وقضيتها، وكان جان ابن بيئة عائلية وجغرافية وجاء في حقبة زمنية شهدت صعود حضور القضية الفلسطينية ومؤيديها على الساحة اللبنانية، حيث كانت هي دون غيرها القضية الأولى للعرب، والكثير من أحرار العالم وثوارها كانوا ضد الظلم والاضطهاد، والاحتلال بطبيعة الحال.

ولفتت مصري إلى أن انتماء جان للقضية الفلسطينية مسألة مبدأ، كما أنه كان منتميًا لكافة حركات التحرر ضد الاضطهاد والاستعمار والدكتاتورية، حيث توجه إلى كوبا، وصنع فيلمًا هناك عن حركة التحرر الكوبية، وكذلك الأمر في أيار/ مايو من العام 1968 في فرنسا، التي درس فيها السينما في سبعينيات القرن الماضي، كما أكدت أنه كان مستقلًا سياسيًا وفكريًا فلم يلتحق بأي حزب أو تنظيم سياسي.. وشددت: "جان كان مناضلًا قبل أن يكون سينمائيًا".

ولم تنف مصري شعورها بحنين إلى تلك الحقبة رغم مآسيها، حيث الأحلام والمقاومة، مشيرة في حديثها عن علاقتها بجان داخل المنزل وخارجه إلى أن حالة التكامل فيما بينهما جاءت لكون كل منهما يتمتع بتركيبة شخصية مختلفة عن الآخر، لكن الرؤى والمبادئ كانت مشتركة ومتطابقة، كما أن السينما كانت تشكل حياة كل منا، بل حياتنا المشتركة، حيث يتحول البيت إلى ستوديو، فنصور ونقوم بالمونتاج داخله أحيانًا.. و"كنا نختلف أحيانًا، لكن ظروف عملنا تحت القصف وفي ظل الحرب، كانت تدفعنا سريعًا لطي صفحة أية خلافات عابرة.. فريقنا كان يتشكل من اثنين، والآراء المختلفة حتى في الإبداع لم تكن لتحول دون الخروج باستمرار بأعمال مشتركة بالاتكاء على نظرية التجريب والنقاش".

عروض أفلام

وعرضت في فعاليات التكريم أربعة أفلام، أولها "طيف المدينة" الذي يتمحور حول شخصية رامي الذي يهاجر من قريته الجنوبية إلى بيروت، هربًا من القصف الإسرائيلي، فيغدو تائهًا في فوضى مدينة تسودها الغوغاء، وعند اندلاع الحرب اللبنانية يضطر رامي إلى حمل السلاح بعدما خطف مقاتلون والده، وفي مشواره هذا يلتقي كثيرين ممن يعيشون الحرب ويعايشونها كل بطريقته، ومن بينهم سهام زوجة مخطوف آخر كوالده.

وكان ثاني الأفلام في اليوم التالي هو "بيروت جيل الحرب" وهو وثائقي أخرجه بشكل مشترك كل من جان شمعون ومي مصري، حيث يخترقان بكاميرتيهما أحياء بيروت وضواحيها، لينقلا تجربة ثلاثة أجيال عاشت الحرب وأصبحت وقودًا لها، وهو الفيلم الحائز على الجائزة البرونزية في مهرجان نيويورك السينمائي عام 1990.

وفي اليوم الثالث والختامي، عرض فيلمان: الأول استضافه متحف محمود درويش، وهو "أحلام معلقة"، ويروي قصة أربع شخصيات في مجتمع مزقه الحرب: وداد حلواني التي خطف زوجها، ونبيل ورامبو اللذان حاربا في صفوف الميليشيات المتناحرة، والفنان المسرحي رفيق علي أحمد، بحيث ألقى الفيلم الضوء على تصميم هذه الشخصيات في إعادة بناء مستقبلها، وهو أول فيلم يعالج قضية المخطوفين في لبنان.

"3000 ليلة"

أما الختام فكان مع فيلم مي مصري الروائي الأول "3000 ليلة"، وأطلق الأسطوانة المدمجة (دي. في. دي) الخاصة فيه لأول مرة للجمهور من رام الله، وهي التي أشارت في حديث خاص معها إلى أن تجربة "الروائي" لم تكن سهلة، خاصة ما يتعلق بإدارة الممثلين، لكونها تقدم فيلمها الأول، مشيدة بدور الممثلين الذين شاركوا في الفيلم ومنهم محترفون كميساء عبد الهادي ونادرة عمران وجورج خليفي وغيرهم، ومنهم من قدموا أدوارًا كانوا يخافون تقديمها وأبدعوا فيها، خاصة ما يتعلق بالممثلات اللاتي قدمن أدوار السجينات الإسرائيليات.

وشددت مصري على أهمية موقع التصوير، حيث كان لاختيار سجن أردني مهجور ليكون المكان الذي يتم التصوير فيه، الأثر المهم على صعيد صدقية الحيز المكاني، وتأثير ذلك على أداء الممثلين، وهو ما أكده عدد من الفنانين الذي قدموا مداخلات لهم في حفل الختام حول الفيلم.

وقالت مصري: كنت أشعر برغبة شديد في صنع فيلم روائي، خاصة وأن موضوع "3000 ليلة" يعالج قضية الأسيرات الفلسطينيات ومعاناتهن عبر حكاية طفل لإحداهن يولد داخل السجن، وهو مستوحى من قصص حقيقية بنسبة كبيرة، وكانت مهمتي ليست فقط الإخراج وكتابة السيناريو بل البحث أيضًا.. والنقلة الكبيرة كانت في التعاطي مع الممثلين في فيلم بموضوع حساس كقضية الأسرى التي هي قضية كل الشعب الفلسطيني، وأردته أن يكون بمستوى يليق بما قدموه ويقدمونه من تضحيات، لكني محظوظة بفريق العمل الذي عملت معه، فمنهم من سبق أن عاش تجربة الأسر.

وأضافت: التصوير في سجن حقيقي كان مهمًا للغاية، ولربما تجربتي في الفيلم الوثائقي ساعدتني في أقلمة السيناريو للواقع، فاستخدمت تقنيات في الإضاءة وغيرها من الجماليات التي كان من المهم العمل عليها، وهو من تحديات الانتقال من الوثائقي إلى الروائي في السينما.

وكانت مصري تحدثت عن أفلامها حول الأطفال، وخاصة "أطفال شاتيلا"، و"أطفال جبل النار"، و"بيروت جيل الحرب"، والحكايات والتجارب وراء هذه الأفلام، وكشفت في حديث خاص معها أنها بالفعل كانت تخطط لتعقب هؤلاء الأطفال وأين هم الآن وما هو مصيرهم، وأن اتفاقًا مبدئيًا مع فضائية عربية شهيرة كان يدور لتنفيذ ذلك المشروع، لكنها تراجعت عنه لأسباب فنية تتعلق بأن هؤلاء الأطفال كبروا، ولربما لم يعد لديهم ما يشكل عامل جذب للجمهور، لافتة إلى أنها تعد فيلمًا جديدًا الآن، لكنها لم تقدم مزيدًا من التفاصيل حوله.

غياب جسدي

غياب شمعون العام الماضي ليس مسألة فردية بل هو غياب لمن أرخ ذاكرة جيل بأكمله بالصورة والصوت في أفلام وثائقية وروائية، هذه السينما التي تميزت بالإضاءة على التجربة الإنسانية، ووثقت لمراحل مهمة من التاريخ اللبناني والفلسطيني.. وقتها نعاه كبار الروائيين والسينمائيين والموسيقيين والإعلاميين في فلسطين ولبنان والعالم، ونعته جهات رسمية خاصة في فلسطين ولبنان، لكن يبقى ما كتبته مي مصري هو الأبرز حين نطق قلبها قبل لسانها وأصابعها على الكيبورد: "حبيب العمر ورفيق الدرب.. كم كنت شامخًا بصوتك، بكاميرتك، بصدقك، بحبك للناس... برحيلك عدت جان شمعون الذي أفتقده حبيبًا وأبًا وسينمائيًا مفعمًا بالحيوية والعطاء.. ستبقى روحك خالدة في قلوبنا كما كنت في نفوسنا، دائمًا وإلى الأبد".

وجان شمعون من مواليد بلدة سرعين البقاعية عام 1941، ودرس المسرح في معهد الفنون بالجامعة اللبنانية، كما شارك في العديد من الأعمال المسرحية وفي بطولة فيلم سينمائي لجورج شمشوم قبل أن يسافر إلى باريس ويحصل على درجة الماجستير في السينما، ودبلوم في الإخراج والتصوير، ليعود بعد أربع سنوات (1974) إلى بيروت حيث عمل في تلفزيون لبنان، وبعدها بعام قدم برنامج "بعدنا طيبين .. قول الله" في الإذاعة اللبنانية مع زياد الرحباني، ثم درس مادة السينما في معهد الفنون الجميلة بالجامعة اللبنانية.

وانضم جان شمعون إلى مؤسسة السينما الفلسطينية في بيروت، وأخرج فيلم "تل الزعتر" مع المخرج مصطفى أبو علي (1976)، وبعدها بعامين أخرج فيلم "أنشودة الأحرار" حول حركات التحرر في أميركا اللاتينية وآسيا وأفريقيا وفلسطين، ثم "تحت الأنقاض" بمشاركة مي المصري (1983)، و"زهرة القندول" (1986)، و"بيروت – جيل الحرب" (1989)، و"أحلام معلقة" بمشاركة مي المصري (1992)، و"رهينة الانتظار" (1994)، وما بين 1998 – 2000 شارك في إنتاج أفلام مي المصري: "أطفال جبل النار"، و"أطفال شاتيلا"، و"أحلام المنفى"، فيما كان فيلمه الروائي الأول والوحيد "طيف المدينة" (2001) حول مصائر من شاركوا في الحرب، تلاه فيلم "أرض النساء" (2004)، و"حنين الغوردل" (2008)، وآخر أفلامه "مصابيح الذاكرة" (2009). ونالت أفلامه أكثر من ستين جائزة دولية في العديد من المهرجانات السينمائية العالمية والعربية.

ظل جان شمعون يهجس باسم فلسطين حتى آخر نفس، وفلسطين اليوم، وهي تحتفي به، ترد جزءًا يسيرًا مما قدمه لها كمناضل ومقاوم وفنان، وكأنها تهجس بشكر من القلب لمن كان قلبه عامرًا بها.. فلسطين اليوم، وهي تحيي الذكرى السنوية الأولى لرحيل شمعون، أو كما أسماها منظموها "فعاليات تكريم جان شمعون"، كأنها تبقى على قيد المقاومة، ولو بالجزء اليسير، وعلى قيد العرفان، وعلى قيد الحياة أيضًا، كما هو جان، فالمبدعون لا يموتون.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.