}

عبدالكريم مجدل البيك: أثر الغائب

ريبر يوسف 1 أغسطس 2018
 

اعتمد المخرج الهنغاري (بيلا تار) خلال فيلمه "حصان تورينو" عام 2011 على ماهيّة جذر المكان في ذهن الكائن، من خلال مشاهد طويلة يمكن وصفها بالأطول في السينما، نسبة إلى تلك الأفلام التي اعتمدت خاصيّة القطع المتكرّر في بناء سياق الفيلم العام، كانت أغلب الصور البصريّة تلك مسلّطة على الجدران، فيما ظهرت العناصر الأخرى كما لو كانت هامشيّة مبنية على عمليّة بناء ذاكرة مستقبلية  للمكان.

على هذا النحو، بل يمكن القول، إنّ الفنان التشكيلي عبد الكريم مجدل البيك، سبق بسنوات عديدة تلك المعادلة التي أسّست لصناعة أزمنة متعدّدة لمفهوم الجدار، الأمر مماثل لقيمة اللاجدوى تمامًا، عمليّة رصد أناس غير موجودين في اللوحة، في اللحظة التي تتحوّل فيها اللوحة إلى مرآة لا تعكس وجوه المتمعّنين فيها، مرآة نفسيّة تعكس أزمنة وخواصّ ويوميات أناس يرون في الجدار دون ظهور لهم.

يمكن القول، بطريقة ما، إنّه يصنع من خلال رصد الجدُر تلك خليطاً سحرياً يسقط في قيمة تعبيرية محيرة، هو ذاك الخليط الذي يؤسّس في تجربته للتعبيرية من خلال التجريد، هنا، تأخذ ماهية التعبيرية شكلها النفسي تماماً، لا سيّما أنّ المتلقي يرى في أثر الكائن الغائب على اللوحة، تأخذ القيمة النفسية دور الصورة المفقودة والغائبة للكائن، كلّ هذا من خلال تحويل اللوحة إلى جدار متنقّل، ممهور بشكل الزمن وحيرته.

إذا ما أمعنّا النظر في معظم أعماله المتاحة، نلحظ تلك الخاصيّة التي جعلت من الجدار آخذاً سِمة تاريخية، الأمر مشابه لعمليّة بناء الصبر تماماً؛ أي تأسيس الذات عبر التمعّن في جدار طيني يقتعد فيئه في قرية بعيدة، مرتمية على دفتر التراب والغبار والريح، قرية يرى منها في العالم الخارجي البعيد من خلال صناعة أشكال متخيّلة، عبر عينيه المنصبّتين على فضاء مصنوع من لبنات وطين ممزوج بالتبن، ثمة هناك عمليّة واضحة لبناء الصبر، كما لو أنّك معزول في كهف تبني من خلال الصخور المترامية فيه لغة تخاطب من خلالها غياب الكائنات، أو كائنات غائبة أو شيء من هذا القبيل، إذا ما نظرنا في الأعمال تلك، نلحظ أنّ الذاكرة الطفولية الوحيدة للفنان هي فعل تمعّن الجدران، لا سيّما أنّ الجدران تلك أصبحت البنية والركيزة الرئيسة التي يعبّر من خلالها عن معظم الأحداث القريبة المعاصرة والبعيدة في الذاكرة، من خلال ذاك الأساس يصنع خطابه البصري المبطّن، أحياناً تكون اللوحة جزءاً من جدار عائليّ مكدّس بصور الموتى، الأمر الذي يأخذنا إلى حيث قيمة المكان أو الجدار النفسية لدى الأجداد الذين صنعوا منه ما يشبه السبورة المدرسية يدوّنون ويعلّقون عليه كلّ تفصيل ساعين من خلاله إلى تعميق الألم في الذاكرة، كنوع من أنواع الوفاء للغائبين، كما لو أنّ الألم يأخذ منحى المعرفة. بالوفاء ذاته، ينقل أحداث ويوميّات أناس غائبين من خلال رسم كلّ ما يمكن تخيّله – أناس تأملوا في عزلاتهم المريبة ومن ثم رحلوا - أو انتقلوا إلى أزمنة أخرى وأمكنة متعدّدة فيما بقي أثرهم محفورًا على الجدران هنا وهناك.

المواظبة على صناعة لوحات من المنظور ذاك، بطريقة ما، يحمل الطابع النفسيّ – خاص طفلٍ، يقبض على قفطان أمّه بقوة، فلا يرغمه أحد على مغادرة المكان الأمّ، (الغرفة الطينية، القرية، السهول المرتمية على آثار أقدام راحلين)، الأمر مشابهٌ لعمليّة وجوهر الوفاء تماماً الوفاء للفكرة الأم.

ثمة محاور عديدة لعمليّة رسم حيوات الغائبين على لوحات آخذةٍ هيئة الجدران. قيمة الحركة الساكنة المتمثلة بعمليّة رسم وصناعة الزمن وتصبيره من خلال الحركة، ففي فيلم حصان تورينو، كانت الكاميرا مسلّطة وثابتة على جدار الغرفة الداخليّ، فيما يُسمع صفير الريح في الخارج، إلى جانب ظهور القشّ المتطاير عبر زاوية النافذة، أخذ عمليّاً، المشهد الثابت ذاك قيمة حركيّة من خلال المداومة على التمعّن في ما هو غير مرئيّ؛ أي عمليّة صياغة أحداث وتخيّلها عبر عنصر الصوت وصور القشّ، هنا، لا ترى الفاعل ولا المفعول به تماماً، ترى غياب المرء إلى الحدّ الذي يتملكك فيه الألم على ما لا تراه ولا تعرفه أبداً.

على هذا النحو يشتغل التشكيليّ عبد الكريم مجدل البيك على بناء عملية تصبير الزمن عبر حركة لا مرئية، لا سيّما أنك ترى أثر المرء على اللوحة وحسب، ترى في غيابه، ترى في أثره النفسي المنتمي إلى سياق معرفي موثوق بالحدث المنتمي إلى مرحلة تاريخيّة معيّنة، هكذا ينتصر لفكرة الوفاء للجدار الذي كانت السبورة التي دوّن عليها عبر عينيه ذاته البعيدة القريبة.

تتجسّد عملية تلقين اللوحة حالة الألم وتحويرها إلى أداة ذي صلة بالمعرفة الفطرية لدى الأجداد، والتي يطرحها مجدل البيك في معظم أعماله، تتجسّد في القيمة الدلالية التي سعت إليها المخرجة سميرة مخملباف من خلال فيلمها اللوح الأسود، إذ قامت مجموعة من المعلّمين الكرد بالتجوال في القرى، وليهربوا من طائرات مراقبة الحدود، قاموا بدهن اللوحات المعلّقة على ظهورهم بالطين.

يأخذ البيك، بالدلالات النفسيّة تلك الحيرة، فيعزّز في المتلقي من خلال عناصر حيوية تبنى الجدران من خلالها مثل التبن والقشّ والطين والمواد الأخرى المختلفة، ليعزّز قيمة الشكل المنجَز عبر دلالاته، كما لو أنّه يكتب قصيدة هايكو، أو يمكن القول، بأنّه، ومن خلال المعادلة العلميّة والفنيّة داخل الهايكو يرسم دلالة الصورة وليس نتيجتها، بكلّ الأحوال، ثمة حالة ما، شبيهة بتفقّد تلك النقطة التي يتمعّن فيها المرء، وليس في مقدوره وصفها، كما لو أنّه يقول لك ما هو الزمن؟

 

اللقطة الثابتة

 قبل سنوات عديدة - ومن منظور قراءة المشهد السينمائي في هيئة ماهيّة المسرح الذي يكون المتلقي أمامه ثابتاً، بينما يتعدّد الزمن أمامه - صنع المخرج هنر سليم فيلمه كيلو متر زيرو، ذا المشاهد الثابتة. يمكن القول إنّ مجدل البيك أسّس تلك البنية السينمائية من خلال الرسم، إذ إنّ تسليط النظر طويلاً على جدار من خلال رسمه وصناعته عبر لوحة والذي يكون - ذاك الجدار - منتمياً عادة إلى أزمنة متعدّدة، تُقرأ على أنّه بصمة الزمن المتحوّل وليس الثابت، هذا من منظور القراءة الأولى للوحة، إلا أنّ ثمة زمنا آخر حيويّا يخصّ عملياً تحوّر اللوحة بعد إنجازها وتركها بين أيدي الزمن المضارع عينه، الجدار في عمله دائم التحول والتحور.

في اللقطات الثابتة داخل السينما، يأخذ الصوت وصور الشخصيات عادة شكل الحركة وماهيتها داخل الفيلم السينمائي؛ أي ثمة كاميرا مسلّطة على فضاء شاسع ثابت وطبيعي، بينما الأحداث البشرية تأخذ سمة الحركة وتغذية الشساعة تلك، أحداث مرئية، من قبيل: (الكاميرا ثابتة على سرير، ومن ثم تدخل امرأة تقتعده، بينما يلحق بها رجل)، إذاً، ثمّة حركة تعبيرية تساهِم في بناء الحدث، الأمر تماماً على نحوٍ مغاير عند مجدل البيك؛ أي أنّه لافيغور واضح وصارم ومعلوم، خلال مشاهده الثابتة أو لوحته المفتوحة في هيئة جدار على فضاء شاسع، الكائنات غائبة؛ أي لا يمكن إدراج العمل في هيئة التعبير المحض، هو يغذّي المشهد من خلال غياب الكائن وحسب، ذاك الغياب الذي يكون في هيئة رموز وإشارات صنعها أناس ومضوا، ولم يأخذ الفنان سوى أثرهم، الأمر الذي يجعله على مرمى صناعة خليط بين التجريد والتعبير، من خلال رسم ذوات البشر وليس أشكالهم.

يقول الشاعر الأميركي (مارك ستراند) ت: جولان حاجي: "في الحقل، أنا غياب الحقل".

 

طيف الفاعل

صنع المخرج ألفريد هيتشكوك تقنيّة القراءات النفسيّة المتعدّدة للصورة البصرية الواحدة داخل السينما؛ أي إعادة صياغة وقراءة الدالات المتعدّدة، ثمة رابطة توثق بطريقة ما أعمال مجدل البيك مع معادلة هيتشكوك تلك، لا سيّما أنّ البيك أوجد صياغة متحرّكة للزمن داخل اللوحة، من خلال عملية تحوير الحدث واستخدامه له بطريقة ما داخل هيئة اللوحة، فإلى جانب أن الجدران لديه منقسمة إلى محاور عديدة ذات صلة بأزمنة مختلفة وأحداث قد تكون سياسيّة أو نفسية أو اجتماعية، نلاحظ أنه وكما كائن يقتات من طحين العزلة، استدرج عناصر أخرى صوب بعض أعماله التي أنجزت في زمن الحروب التي لم تزل تطحن المنطقة بالعموم، كانت هذه العناصر في مثابة البصمة السرّية لكلّ من شارك في الحرب وعلى عدّة أصعدة، عناصر مثل الأسلحة النارية والبيضاء منها وآثار العنف، كلّها - تلك العناصر، أخذت دور المفردات الدخيلة بفعل طاقة كبيرة ليس في مقدور المرء إنهاؤها على الإطلاق، إلا أنّ مجدل البيك أسّس لحالة الانكسار عبر اللوحة، فهو لم يكرّس شكل الفاعل العلني، إنما رسم وأدخل العناصر تلك بطريقة كما لو كانت كسولة مكسورة غير واضحة، وكأنّه يرسم ندم الفاعل والماهيات التي دفعته ليكون ما هو عليه الآن، رسم ما يشبه بالعنف الجبان أو العنف النادم والمقهور، جسّدت هذه الصياغات داخل لوحاته فكرة اللاانتماء إلى الزمن الحاضر، بطريقة ما، كما تحدّث عنها (كولن ولسن) في كتابه "اللامنتمي" والذي كان فارقاً لقراءة الوجوديين.

 

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.