}

توابيت "عمران يونس" المحمولة من دمشق

أسعد عرابي 21 يوليه 2018
تشكيل توابيت "عمران يونس" المحمولة من دمشق
لوحة للفنان عمران يونس
 

يقتصر معرض عمران يونس (في غاليري أوربيا) على ست لوحات تربيعية المساحة بقياس رحب 150x150 سم. شُحنت مباشرة من محترفه الدمشقي ملتهبة العاطفة تحل محل مائة لوحة، طازجة الزعيق، ولهذا وضع للمعرض عنواناً هو "صرخة". صرخة خرجت لتوّها من أتون جحيم القيامة الشامية، فتحوّلت إلى براكين هائجة من الخطوط والألوان ذات العويل الحدادي المستديم.

أما "طبوغرافية" أو نسق التكوينات الفراغية داخل المربّع فهي أشدّ عملقة انفجارية من هذا القياس، لأنها تتطابق "ديناميكياً" مع المحور الذي يصل بين أقصى الزوايا المتباعدة بحيث تبدو أشباحه المائلة متحررة من الجاذبية الأرضية، لكنّها محنطة في اتصالها المشيمي بتابوت رمزي يرفل في أردية الجلادين، هي التي تحاصر ما بقي من بقعة ضوء برتقالية. نتف من أجساد مثخنة بالجراح والتشظّي العضوي، مدفونة ضمن قبور من معاطف ملتبسة تذكر بأسماء تعبيرية ألمانية، على غرار قهر محفورات كاتي كولفيتز وحشرجة لوحات بازلتز المقلوبة، وعزلوية تضاريس الأنا في مرآة مروان قصاب باشي ثم رفع "الحواجز" بين عالم القبور والمدينة الحية لدى القاصّ السوري زكريا تامر وهكذا، تمثّل إذن تراكماً من ذاكرة الزمن النسبي لا ينضب معينه.

تتفوّق لوحاته الأخيرة "من التجريد العضوي أو الحويصلاتي" على التشخيصات النكباتية "المتصلة مع تراث التعبيرية المحدثة". تمثّل شريحة مجهرية لنفس الدلالة الجسدية. لا تتوقف "صرخة" عن الاستغاثة في الحالتين، فالثانية تمثّل نتفاً مسلوخة من نفس أجساد الأولى، متآكلة متفسّخة ولكنها متجددة بطزاجة الجرح والدم وسادية نزيف أشواك الصبّار. تستحضر رمزية هذا النبات المعنّد على الاندثار إكليل أشواك المسيح، جعل منه الفنان الفلسطيني المرحوم عاصم أبو شقرا رمزاً لعذابات فلسطينيي الاحتلال الصهيوني أربعينات مذابح الهاجانا، في كل مرة يشقّ الصبار جسده النضر من تحت الأرض والأنقاض ليرسم من جديد خارطة جرائم الاغتيال الجماعي.



تعانق حرقة عمران يونس هذه الرمزية الخنسائية ليخصب منها، ومن نتف أجساد القيامة الشامية شطحات شبه تجريدية، وشبه متناظرة بما يستجيب من جديد لعنوان المعرض "صرخة" أو العويل المستديم (الذي يذكر بمهنة نواحات العصر العباسي التي صورها محمد بن سعيد الواسطي). تتجاوز اللوحات الراهنة المأساة العبثية لتنقلب إلى زعيق لوني وخطيّ يتقرّح بالأسى. يشير فناننا نفسه إلى لون الصوت في وادٍ أصم كما هي شهقات الحلاج إبان "أشواق" صلبه. يعتصر الألم في الحالتين (التعبيرية والتجريدية العضوية) جنبات مختبره التقني معتمداً على "جيولوجية" التراكم اللوني (بالأكرليك)، والتخطيط الهمجي بأقلام الفحم (الفوزان) بعد جفاف الطبقات الأولى، ثم تثبيت تهشيرات الثانية، بمعنى أن الخطوط النهائية لا تقبل التعديل لأنها تعيد اللوحة إلى صبواتها البحثية الأولى، ثم محاولة إنجاز اللوحة عارية من الإطار الداخلي (الشاسي) منبسطة على الأرض حتى يتمكن من السيطرة على فراغها وتكوينها من شتى الأطراف والجهات، وذلك قبل تثبيت قماشتها على الشاسي (الإطار الخشبي الداخلي). يتوقف في لحظة مباغتة دون أدنى سابق قرار ودون اكتمال المحسنات البديعية التي لا طائل تحتها، وعند ذروة لهاثه المرير بالبحث عن الشكل المستحيل لترجمة "صرخته" الوجودية، وعند محطة تخلّق جنيني خلوي يحمل حدث الولادة الصاعقة المبكرة.

يستجيب منهج هذا الأداء التلقائي إلى بكارة وحيوية وحدة تعبير ما يعتلج في حريقه الداخلي. لو كتب عن لوحاته الشاعر الأكبر المتنبي لاقتصر على استرجاع بيته الشائع: "… فؤادي في غشاء من نبال، فصرت إذا أصابتني سهام تكسرت النصال على النصال".

يقع زمان العرض ما بين السادس والعشرين من حزيران/ يونيو، والثالث من آب/ أغسطس 2018. فاتني ذكر موقع ولادته في الحسكة شمال سورية عام 1971. يقيم محترفه في دمشق منذ تخرجه من كلية فنون جامعة دمشق عام 1988، هو المعرض الثاني في نفس الصالة، الأول كان عام 2014، بدأ عروضه في الدوحة إلى جانب فنانين معروفين من أمثال ضياء العزاوي ومنى حاطوم ويوسف نبيل. من الجدير بالذكر أن بيروقراطية وزارة الداخلية الفرنسية (برفض منحه الفيزا) حرمته من فرصة مرافقة معرضه، ولقاء من كانوا متلهفين للقائه واستقباله.

معرض كابوسي محتدم الأداء، ليس كبقية المعارض، فليس من السهل نسيان صوت صرخته المدوية وبلغة تشكيلية مزلزلة تحمل معها هدير القصف المستديم وقرع طبول همجية الحرب الانتحارية من دون أدنى أمل بإيقاف نزيفها، وأكفان أطفالها ومستضعفيها.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.