}

فرانسِيس فورد كُوبولا: دروس في السينما المباشرة

نجيب مبارك 15 يونيو 2018
سينما فرانسِيس فورد كُوبولا: دروس في السينما المباشرة
كوبولا في وثائقي فرنسي /فيسبوك

في سن الثامنة والسبعين، ما يزال فرانسيس فورد كوبولا يكتشف وسائل جديدة لتثوير السينما. مخرج الروائع الخالدة في تاريخ السينما، مثل فيلم "القيامة الآن" وثلاثية "العرّاب"، يراهن حاليًا على "السينما المباشرة"، باعتبارها وسيطًا جديدًا يسمح بتجريب بدائل مبتكرة من أجل سينما المستقبل، حسب ما جاء في كتابه الأخير "السينما المباشرة وتقنياتها" (ريزرفوار بوكس، 2017)، الذي نشر في سبتمبر/ أيلول الماضي في الولايات المتحدة الأميركية، وصدرت ترجمته إلى اللغة الإسبانية قبل أسابيع قليلة.

كتاب تعليمي
عن وسيط جديد

يقول فرانسيس فورد كوبولا (ديترويت، 1939) في مقدمة الكتاب: "وجهة نظري هي وجهة نظر مخرج نشأ وكبُر مع التلفزيون المباشر، ولديه تكوين في المسرح، واشتغل طيلة حياته في كتابة السيناريو، والإنتاج والإخراج". وهذا صحيح، فبعد مسيرة طويلة وغنيّة في الإخراج، يقدّم كوبولا في هذا الكتاب دروسًا عن شغفه الختامي، أو حبّه الأخير لأفلام "السينما المباشرة". ويتعلّق الأمر بأفلام يمكنها أن تُعرض في صالات العالم أجمع، كما هو الحال بالنّسبة للنّقل المباشر لمباريات الألعاب الرياضية عبر التلفزيون. لقد سبق لكوبولا، على سبيل المثال، أن أنجز فيلمين، هما في الواقع فيلم واحد بعنوان "Distant Vision" وعُرض مرّتين خلال ورشتين للسينما، الأولى في جمعية كلية مدينة أوكلاهوما يوم 5 يونيو/ حزيران 1915، والثانية في مدينة لوس أنجليس في 22 يوليو/ تموز 2016.

وحسب كوبولا، فإن الهدف من هذا الكتاب "ليس الغرق في الحنين، ولكن اكتشاف وسيط جديد، وكيف يختلف عن باقي الأشكال الإبداعية، وما هي ميزاته ومتطلّباته، وخصوصا كيفية استعماله". إذًا، فهو كتاب تعليمي كان ثمرة ورشتين تجريبيتين أنجزهما كوبولا في جامعة أوكلاهوما، حيث قدّم فقرات من عمله الّذي يشتغل عليه حاليًا، ويحمل عنوان "الرؤيا الكهربائية المظلمة". والغاية، في الأخير، أن يتمّ في يوم من الأيام إخراج فيلم من هذا السيناريو بطريقة العرض المباشر. وهو سيناريو يتألّف من 500 صفحة، ويرصد تاريخ ثلاثة أجيال لعائلة أميركية من أصول إيطالية، من خلال مفهوم نشأة التلفزيون وتطوّره.

إنّ هذا النوع من التجريب ليس غريبًا عن مخرج "العرّاب" الذي أنجر بعضًا من أهمّ الأفلام في تاريخ السينما، والذي كان يختار التجريب أحيانًا حتى في العناوين، مثل فيلم "شباب بدون شباب" (2007)، "تيترو" (2009) و"تويكست" (2011)، لكن مشروعه الحالي يبدو أكثر طموحًا من تجاربه السابقة. ومن جهة أخرى، يصف كوبولا في هذا الكتاب العصرَ الذهبي الذي عاشه التلفزيون مع مخرجين مثل آرثر بين، سيدني لاميت أو جون فرانكنهايمر. فهم كانوا قادرين على تقديم أفضل تسجيلات الأعمال أو الأفلام التي تمّ إخراجها بلا توقف. وآنذاك، كان هؤلاء المخرجون في "سي بي إس" يقودهم "عراب" سينمائي واحد اسمه يال براينر، وقد كان هو المخرج الأوّل والمذهل بالنسبة للجميع خلال تلك الفترة.

طموح السينما المباشرة

تطمح "السينما المباشرة" إلى إعادة تعريف اللّغة والحكاية السينمائيتين من خلال العروض المباشرة. إنّ رؤية كوبولا لهذا الوسيط تنبني على العديد من الملاحظات الشخصية والمراجعات الصارمة لكلّ أعماله، سواء منها الناجحة أو الفاشلة، بحيث يبدو الكتاب في جانب منه كما لو أنه "سيرة ذاتية". لكن، لماذا الانحياز لـ"السينما المباشرة" والتخلّي عن التحكّم المعتاد للمخرج؟ يتساءل المؤلّف، الفائز بالعديد من جوائز الأوسكار، ليجيب بأنّه يعتقد أن الإثارة تزداد لدى الجمهور كلّما اكتشف أن ما يشاهده واقعٌ حيّ: "إنّ السينما، كما المسرح في السابق، لا تكون مُؤثِّرة إلّا من خلال تلك التجربة المعروضة على الجمهور". ثمّ، لاحقًا، يصل إلى استنتاج مفاده أنّ لا خلاص للفنّ السابع إلّا في الطريقة الّتي تعيد الجمهور إلى صالات السينما، بعد أن صاروا يرفضون ذلك: "ربما حين نشاهد الجميع يستعدّون لتصوير برنامج على المباشر، لا ندري كيف ستجري أطواره، نقتنع بأنّنا في بثّ مباشر ونتساءل، بشيء من القلق، إذا كان كلّ شيء سوف يجري على ما يرام". 

لقد أشار الممثّل جورج كلوني يومًا إلى أنّ أكبر تحدٍّ واجهه في مسيرته كان حين طُلب منه تصوير حلقة من مسلسل "مستعجلات" على المباشر، وذلك بسبب الحركات المعقّدة للكاميرات وأداء ممثليّ هذه السلسلة الطبّية. وقد تمّ تصوير الحلقة مرّتين: الأولى من الجانب الشرقي للبلاد، ثمّ توقّف المصوّرون قبل أن يستأنفوا التّصوير للمرة الثانية من الجانب الغربي، وذلك بسبب فارق التوقيت في الساعات بين المناطق. وقبل أسابيع قليلة فقط، قدّمت قناة "إن بي سي" عرضًا مباشرًا للنسخة الكاملة من المسرحية الموسيقية "المسيح سوبرستار" مع جون ليجاند. وفي 19 فبراير/ شباط 2017، قام وودي هاريلسن بإخراج وتمثيل مسرحية "تائه في لندن"، وهي تجري في أحد أحياء العاصمة البريطانية، وعُرضت بشكل مباشر عبر 500 صالة مسرح. لكن كوبولا يطمح إلى أبعد من ذلك، لأنه يلتزم بتغيير السيناريو ويخطّط للمَشاهد كما لو أنّها خاصة بشريط سينمائي طويل، على الرغم من أنّه لا ينكر أنه مرّ شخصيًّا ببعض لحظات الفشل في التلفزيون. وهو يتذكّر جيّدًا تلك الكارثة العظمى سنة 1980، حين أعلن مباشرة على الهواء قرار حاكم كاليفورنيا، جيري براون، الدخول في حملة الترشح للرئاسيات: "ذهبتُ أبعد من إمكانياتي". لقد فشل تمامًا نظام الاتصال بين كوبولا، الجالس في مقطورة مركز التحكّم، وبين الكاميرات الّتي لم تنقل سوى "ساقيّ وقدميّ رجلٍ تمّ تصويره من فوق".

مشروع "الرؤيا الكهربائية المظلمة"

كان فرانسيس فورد كوبولا دائمًا شغوفًا بالتكنولوجيات الحديثة، وهو في بداية الكتاب يقوم بالثناء على العصر الرقمي. لقد جاء من عائلة تحب الفن والتلفزيون، حيث كان أبوه عازفًا للناي في أوركسترا شبكة تلفزيون "إن بي سي"، التي كان يديرها توسكانيني، وعاش حياته منفتحًا على كل الابتكارات الجديدة. وعندما بلغ سبع سنوات، دخل جهاز التلفزيون إلى بيت العائلة لأوّل مرّة. "في سنة 1946، لم تكن هناك برامج تلفزيونية في الواقع، لهذا كنت أقضي ساعات طويلة متأمّلًا في الخطوط الهندسية لتوضيب الشّاشة، في انتظار أن يبدأ شيء ما".

يمكن اعتبار فيلم كوبولا "Distant Vision" بأنّه فيلم صافٍ، من نوع الأفلام المتوسّطة، تجري أحداثه في عشرينيات القرن الماضي، ويصف حياة ثلاثة أجيال من عائلة "كورّادو"، وهو استعارة "ذاتية" عن عائلة كوبولا نفسه. "السيناريو الذي كتبتُ طويل ولم أنتهِ منه بعد، وأطلقتُ عليه عنوان "الرؤيا الكهربائية المظلمة"، ويضمّ حاليًا عملين هما "الرؤيا المظلمة" "و"قرابات اختيارية"، وحلمي أن أقوم بإنتاجهما في استوديو مثل ذاك التابع لتلفزيون المدينة "سي بي إس"، وسأقوم باختيار ستة أجزاء تمثيلية - حسب الاختلاف في التوقيت بين المناطق - وهذا سيظهر بداخل المحلات التجارية وداخل المنازل".

استنتج كوبولا، بعد إيجاد حلول لمشاكل تقنية لا حصر لها، تجاوزها بفضل ثقافته السينمائية الشاسعة، أنّ البحث عن الكمال من الناحية التقنية ليس جيّدًا في ذاته، لهذا تعمّد أن يقاطع مسار إبداعه الخاص بإضافة مفاجآت غير متوقّعة بالنسبة للممثّلين. وهذا من شأنه أن يزيد من جرعة الإثارة والأصالة. إنّ الأخطاء في السينما المباشرة، حسب كوبولا، هي فشل متعمّد كما يحصل في السجاد الفارسي، باعتباره من الإبداعات المثالية.

لا فرق بين السينما والتلفزيون

من الصعب التمييز حاليًا بين السينما والتلفزيون، باستثناء أن العرض قد يدوم دقيقتين، ساعتين أو 90 ساعة، كما يمكن مشاهدته في البيت أو في قاعة سينما، ولا فرق بين كلمة "تلفزيون" وكلمة "فيلم" لأنّهما تعنيان الشيء نفسه هو "السينما"، الّتي صارت متاحة للجميع في كلّ مكان عندما يريد الجمهور ذلك. وهذا ما تشهد به مسلسلات ناجحة مثل "سوبرانو" و"بريكن باد"، خلال العصر الذّهبي الثاني للتلفزيون، ومسلسلات أخرى كثيرة. والفكرة هي مزج الجودة التقنية للسينما مع مؤثّرات المباشر على التلفزيون. ومن أجل ذلك، بطبيعة الحال، من الضروري أن يكون المُشاهد على علم بأنّ العرض مباشر، أو على الأقلّ كان على المباشر أثناء تسجيله، كما يحدث عادة بالنسبة لعرض مسرحي أو حفل فنّي.

يرى كوبولا أنّ مستقبل السينما يرتكز على ثلاثة أشياء: أوّلًا الكتابة، وهي وحدها قادرة على تثوير السينما بشكل عميق، ثمّ ثانيًا إمكانية مزاوجة الوثائقي مع التّخييلي في الفيلم نفسه، وأخيرًا إمكانية صناعة فيلم بالطريقة الّتي يشتغل بها التلفزيون على المباشر. وإذا كانت اليوم كلّ صالات السينما في العالم تتوفّر على أجهزة عرض رقمية، تمنح جودة رائعة في الصوت والصورة، وأنّه يمكن ربط هذه الأجهزة بشبكة اتّصال عن طريق الأقمار الصناعية، فهذا يعني أنّ لدينا وسيطًا إعلاميًا جديدًا لم يسبق أن وُجد على الإطلاق، هو "السينما المباشرة"، التي يمكن أن تعيد للفنّ السابع معنى "الأداء المباشر" الّذي يوجد في الفنون الحيّة، مثل الموسيقى، الرقص والمسرح.

وفي الأخير، يكتب كوبولا: "إنّ السؤال الأساس هو معرفة هل هناك شخص آخر غيري يرغب في إنجاز أفلام على المباشر"، قبل أن يضيف: "أعتقد أنّ الجواب هو نعم". فخلال 200 سنة، ظلّ الفنّ البشري بالإساس فنًّا تسجيليًّا بشكل مسبق، بحيث أنّ كل ما نشاهده هو مسجّل من قبل، باستثناء الرياضة الّتي تُنقل على المباشر. لهذا، فإنّ استغلال مثل هذه الإمكانيات الجديدة يشبه اختراع أداة موسيقية رائعة، سيأتي أحدٌ ما ليعزف عليها عاجلًا أم آجلًا.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.