}

جوائز منهل عيسى الموشومة بالمحنة السورية

أسعد عرابي 4 يونيو 2018
أليس مبهجاً للقلب تقليد الفنان السوري منهل عيسى منذ أيام جائزة النحت الأولى في صالون الربيع (ليون سكلوب) في مدينة آنجي؟ هو الصالون السنوي المعروف على مستوى فناني فرنسا المحترفين في التصوير والنحت منذ خمسة وثلاثين عاماً.

من الجدير بالذكر أنه حصد السنة الفائتة أيضاً في نفس الصالون الجائزة الأولى في التصوير، سبقها الجائزة الأولى للفيديو في صالون إزمير- تركيا، وسواها.

لا شك بأن تشييد محترف النحت الخاص به في هذه المدينة، واعتباره أحد فنانيها، مقابل تخصيص محترف باريس بالتصوير. وتوّزع إقامته (منذ وصوله عام 2000 ثم نيله الجنسية الفرنسية) بين باريس وآنجي هيأ مناخاً أليفا في نجاحاته الموهوبة هذه.

أمّا تعددية اختصاصاته الفنيّة فترجع إلى تعدديته الدراسية، ابتدأ بالتصوير واللوحة بعد تخرجه من كلية فنون جامعة دمشق عام 1996 (هو من مواليد طرطوس عام 1969)، ثم عرّج على النحت مع دراسته لهذا الميدان في جامعة فرساي، وجامعات فرنسية أخرى. ثم كرس جهده للفيديو منجزاً ستة أفلام، ناهيك عن ممارسته الدؤوبة للفوتو، وخاصة السيراميك في محترف إيفري سور سين. تستحق إذن كثافة نشاط معارضه وموهبته التعددية، وأصالة أعماله النحتية الأخيرة هذا التكريم بما فيه دعوته لإقامة معرض شخصي في قاعات نفس الصالون النخبوية.

لا شك أيضاً بأن توّزع نشاطه بين الفن وتدريسه في المعاهد الرسمية في باريس، ساعد على استقراره المادي والثقافي بعد سنوات من النضال المرير لتأمين عيشه اليومي في غلاء باريس.

يمثل موضوع الجائزة النحتية هيكلاً بشرياً أنثوياً مقلوباً بالقياس الطبيعي تقع مادته التحفيزية - الاستفزازية بين تشخيصية التعبيرية المحدثة وما سبقها من تعبيرية تجريدية، يذكر بلقاء الستينات ما بعد الحرب العالمية الثانية والتبادل الذي تم بين أبرز تيار فرنسي يجمع أعرق فناني هذه المرحلة بقيادة الكوميسير الناقد ريستاني وهو "الواقعية الجديدة" مع جماعة البوب آرت في نيويورك، انتقل في حينها تبادل المعارض إلى تبادل الأساليب. اجتمع الطرفان من النحاتين حول استهلاكية ملصقات المعادن عن الطبيعة وصبّها بمعدن البرونز. قد يكون لتخصص تدريس منهل الجذع العاري رسماً وتصويراً أفضلية في تحريف التشريح الإنساني الذي يعرفه عن ظهر قلب ويعلّمه. ولكنه هنا منحوتاً بالمقلوب إمعاناً في التجريد والاستفزاز. تتشكل هيئته من تمفصلات شظايا أو أشفار معدنية ملحومة بجهاز الأوكسجين الكهربائي، يعتمد تشكيلها على الحضور والغياب في دلالة الهيكل الأنثوي، أي على البناء والتدمير. وذلك باللحم والقص وإعادة التركيب بطريقة انبثاقية قنفذية سادية، تمنح التكوين العام تمزقاً بركانياً متشظيا بحدة التعبير، والمفردات الملحومة، لو تعقبنا أعماله التصويرية الأخيرة لوجدنا أصول هذا التعبير الجامح وعودة الدلالة التعبيرية من أشباح كائنات معذبة إنسانية وحيوانية، تتقارب مع تدميرات التعبيرية المحدثة (عقد فناني ألمانيا وعلى رأسهم جورج بازلتز).

لعله من الجدير بالذكر أن أغلب النحاتين المحترفين على مثال منهل عيسى ومحمد عمران تتمركز محترفاتهم وعروضهم ونشاطاتهم في فرنسا (ما عدا المعلم عاصم باشا في إسبانيا، منهم ماهر البارودي مدرس النحت في بوزار مدينة ليون، ثم لطفي الرمحين وأخوه في الجنوب الفرنسي بعد أن عملا مع محترف مصطفى علي القائم في حي الأمين ( دمشق القديمة)، هو المحترف الأول تاريخياً يملك عدة معاونين لصب البرونز وإنتاج القطع الصغيرة بالجملة، لكن أعماله الموهوبة العملاقة تكشف قدرته النحتية والثقافية خاصة الميثولوجية. أما جاره الموهوب في حي القشلة القصاع فادي يازجي فهو متعدد المواد والحساسية ما بين النحت الغائر والسيراميك والرسم واللوحة. يتحرك نشاطه بين دمشق وباريس، حيث نال بدوره جائزة النحت الأولى في صالون آرت باريس قبل سنتين في باريس، تعرضت له في حينه. تأسس النحت في سورية في فترة النهضة الخمسينية مرتبكاً مع جلال وسعيد مخلوف ووديع رحمة وعبد السلام قطرميز ومنذر كم نقش. ثم دخل في متاهة النصب الدعائية الرسمية فترسخ انحرافه أكثر، وجدنا فنانين موهوبين توفقوا عن النحت للتخصص في هذه الأوابد المغرية مادياً (على غرار فؤاد دحدوح وخالد المز وأحمد الأحمد الذي توفي باكراً).

ثم سيطر الهواة على المؤسسات التعليمية بما فيها الجامعية لا يحملون من فن النحت سوى الألقاب الإدارية و"الدكتوروهات" يصعب حصر انفجارهم السكاني ما بين النقابة وكلية الفنون ومؤسسات وزارة الثقافة و غيرها إلخ…

علينا بالاعتراف بأن تأسيس النحت السوري بدأ مقصراً عن نهضوية جيرانه: لبنان ما بين سلوى روضة شقير وشوقي شوكيني، والعراق ما بين جواد سليم وفتاح الترك، وسليم عبدالله، ومؤخراً ضياء العزاوي.

 

خطوة إلى الوراء من أجل القفز خطوتين إلى الأمام

علينا أن نستدرك العلاقة الوشيجة بين تصوير منهل عيسى ونحته حتى لا نشرد عن موضوعنا المركزي. لن نعثر على أصول راهنه النحتي الجامح المأزوم والاحتدامي داخل ترامي سكونية تناغم استهلالاته التجريدية في بدايته الدراسية، هي التي جعلته خلال سنوات تحصيله الفني، ثم تخرجه اللامع بامتياز من كلية الفنون دمشق ثم عروضه المحلية التالية، هي التي لا تخلو من الدعة والسكينة والرضى لدرجة الأسلبة الموسيقية ورهافة التدرجات ذات القرابة اللونية. تشبه حاله المثل الفرنسي: "حتى تحلق خطوتين إلى الأمام عليك بالتراجع خطوة إلى الوراء". سنوات تحضيرية تستنشق أوكسجين معنى الجنوح والعصيان واستفزاز وكسر حياء كل القواعد التي كان حريصاً على كلاسيكيتها، كنت بعيداً عن لوحته انتظر ما بعدها حتى سقطت بيننا سنوات الغربة، كل يضرب في مكان مع فارق العمر. وما أن قابلت تصويره في باريس معرض عام 2014 حتى قدمته بغبطة في الكاتالوك أحسست أن رهان الانتظار والتقاط النفس قد أثمر خطوات إلى الأمام.

 

بركانية التعبير والحرب الأهلية

أشعلت حرقات الحرب الأهلية كل ما هو بركاني سادي عبثي صدفوي صدامي لا يعرف التشكيل الخجول. تحولت لوحته بحزم من مشروع الإغراء التقني والنجومية اليسيرة الاجتياح في الذائقة المخملية في دمشق إلى مشروع فكري أو مرآة لشهادة عمودية تغوص في مصير الإنسان السوري في أحوال تشظيّه وشقائه الجسدي والروحي، هي الحرب الأهلية التي أكلت الأخضر واليابس، وداست بجنازير الدبابات والبلدوزرات الأجساد البضة لفراشات عمر الزهور، مرآة لوحته في الغربة تعكس إحباط طموحه المتعلق ببلده والذي يحافظ على مسافة أمان ولوعة مع شتى درجات زملاء المعارضة حتى المسالمة، غارقاً في ذاته المتألمة، لا يجد خلاصاً إلا في عوالم لوحته الكافكاوية حيث نعثر على أصول حشرجة المواد المعدنية من خلال تبصيمات جنازير الدبابات والبلدوزرات وما تتركه خلفها من ممرات موسومة بالحديد والنار. مسارات عبور تناقض اتجاه نواظم تجريدات اللوحة فتبدو جارحة ديناميكية تشهد عبور عجلات مدرّعة ما أو عربة عسكرية لجيش ما مخلفة بصمات إعدام هياكل مشوهة كابوسية مقطعة الأوصال مثل مدنها المنخورة حتى الهيكل العظمي المتهافت.

تقترب لوحاته جينياً من الغضب البركاني التراجيدي المستديم. هو الذي ينحت صرخاته المعدنية الأخيرة في واد أصم. نحيب وتمزق انطوائي داخلي صاعق نراه ولا نسمعه، نلاحظ حراشفه القنفذية الديناصورية الكافكاوية السيزيفية ضمن تقرح مزمن لا يخبو أواره. هيكل أنثوي مقلوب مدرع بأنواع الملصقات الحادة الأقرب إلى السكاكين الجارحة. شظايا متكسرة مثل نتف الزجاج التي تجابه القصف دون هوادة ضمن قيامة لا تعرف محطات هدنة.

إن تعقب سياق وتطور فن منهل عيسى سواء في التصوير أم النحت يقود سهمه في نفس الاتجاه الشارد عن التجريد الحاذق في مرحلة طمأنينة الدراسة والمراهقة، يشق طريق سيرته الفنية التعبيرية المحدثة في نفق متقدم في أشواقه وأشواكه ومساميره المعدنية دون أدنى أمل في الخلاص من حزنه المزمن فهو مسكون وموشوم بآلام الحرب الأهلية ـ القيامة الشامية - المحنة السورية بامتياز- ينطبق عليها قول الشاعر: "أذكرتني ما لست ناسيه ولرب ذكرى جددت حزناً" ونحن بانتظار جذوة المعرض القادم. 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.