}

النحيب الصامت في منحوتات "نور عسلية"

أسعد عرابي 16 يونيو 2018

قامتان سامقتان من الموهبة النحتية الأنثوية الخارجة عن إسار المعاقل الدموية السورية، الأولى صفاء الست (من مواليد 1974)، مستقرة في بيروت، والثانية نور عسلية (من مواليد 1984)، مستقرّة في باريس. يجمعهما رغم فارق العشر سنوات نحتياً, إنسانياً فاجعة المسلخ الشامي، وتجتمع مادتها حول موضوع مصائبية الموت وخلودية محنّطاته.

من الغبن والتجنّي إغفال عمودية تجربتهما الريادية ما بعد الحداثية، الموغلة في مستقبل ما بعد الثورة النحتية هي التي تقع ما بين فادي يازجي في الداخل ومحمد عمران في الخارج.

اكتشفتُ منذ أشهر قريبة المنحوتات المعدنية (مستحاثات عجفاء من ديناصورات منخورة مندثرة من العهد الجوراسي) والتي كانت حشودها معروضة في رحابة صالات "دار النمر للفن والثقافة" في الجميزة - بيروت، وذلك تزامناً مع معرضي الأخير. استحضر معرضها فناء الأجناس الحية وخاصة الديناصورات التي قضت منذ خمسة وستين مليوناً من الأعوام.

من المعروف أن هذه القيامة الأولى كانت بفعل اصطدام استريويد بالكوكب الأرضي. تقود هذه القيامة مجازاً إلى القيامة الشامية خاصة أن المعرض يعانق أكفاناً بيضاء لرفات مئات الأطفال الذين قضوا خلال مسلخ القيامة الثانية. تعرضت للأولى نقدياً في حينها وها أنذا أستدرك معرض الثانية نور عسلية الذي تعرفت خلاله لأول مرة أيضاً وأحسست أيضاً بذنب تأخر الاكتشاف، كان ذلك منذ أيام شراكتها مع شريك حياتها الفنان السوري المعروف وليد المصري، في نفس معرض "الباب المفتوح"، هي الصيغة التي شاعت بين المحترفين مؤخراً كرد فعل على تعقيدات العرض في الصالات والصالونات، لأنها تؤمّن الاتصال المباشر مع الجمهور، وبتوقيت مفتوح نسبياً. سيقتصر مجهرنا التحليلي على منحوتات نور، فقد تعرضنا لتصوير المصري سابقاً.

منحوتات متواضعة الحجم ولكنها بالغة الجدة والأصالة، تستحق التوقف وتأمل خصائصها الرهيفة البليغة في استقلالها وتمايزها الأسلوبي. فبالقدر الذي تميل فيه نظيرتها صفاء إلى النصبية والبانورامية العملاقة التي تشق الفراغ بالقدر الذي تميل فيه اختيارات نور لأشلاء الرأس وأعضائه مجتمعة أو متفرقة: "وجه أو سلم عيون، أو عين منفردة، ثم لغة الأيدي المؤنثة مستقلة أو مزدوجة ومغلفة بالقماش، وبقياس يختزل الأصل إلى كرافيكية مجهرية، فأصالة الأولى تقع في تقمّص المشاهدة لعمارة المخلوقات المنقرضة، وبالعكس فإن رهافة الشابة نور تقع في صبوتها وطموحها أن يغور الرائي في التفاصيل الملغزة، لما تعانقه عينه على طاولة التشريح، كائنات صفاء ابتلعها الاندثار منذ ملايين السنين ولم يبق إلا أشباح هياكلها المعدنية، بعكس نور التي تختلج لديها الأعضاء المبتورة المجزوزة المنتزعة من الجسد والروح البشرية، حركات احتضارية تتدانى من خرس أكفانها "حتى تموت تحت التعذيب"! شأنها شأن أديب الثورة السورية القاص العبقري زكريا تامر، ترفع شهادته الكتابية والتخيلية الحادة الحدود بين الحياة والموت، يتهيأ في إحداها أطفال سكنى القبور تحت الأرض للابتهاج عندما تضع الحرب أوزارها أو تشارك بأفراح الهدنة المؤقتة. تجمعهما ثقافة وتجربة فظائع القيامة السورية. تحمل بالنتيجة طاولة العرض هذه الأعضاء المغلّلة بحساسية طبية أو تحقيقية قضائية، مما يرسّخ صفة العزلة الملغزة أو المشبوهة. بين قزميّة كائناتها النحتية والبقايا العضوية للنحات الأكبر أوجست رودان علاقة حميمة، خاصة ما اكتشف منها بعد نبش محترفه في مودون مؤخّراً، كان يوصي معاونيه بإعادة لصقها و تمفصلها من جديد وفق نواظم تخيلية لا علاقة لها بمنطق التشريح البشري، مع ملاحظة أنها مصبوبات عن أعضاء جسد كامي كلوديل الموديل والعشيقة. ورث سيزار هذا النوع من الصب الذي يجمع ما لا يقبل الجمع أكثر من توخي تعددية النسخ، فانتساب سيزار إلى تيار الواقعية الجديدة في الستينات والذي نظّر للمجموعة الناقد ريستاني في كتاب خاص بعد عام من معارضهم المتبادلة مع البوب (1961-1962) أقول تندرج أعمال نور عسلية بنسبة ما إلى هذا التيار من ناحية استبداله لوهم الواقع (بالرسم و التصوير مثل نحاسيات موراندي مثلاً) بالأصل الحقيقي، استلهاماً من المصبوبات المعدنية لبيكاسو (غالباً أحادية النسخة)، هذا ما فعله سيزار في مبادرته الأولى، بحث عن المستهلكات التي تشبه لوحة موراندي، ومررها تحت مكبس ميكانيكي ثم لصقها بمادة حديثة على لوحة مسطّحة، وهكذا ثبت فكرة ريستاني بأنه كلّما انحسر التدخل الحرفي واليدوي للمبدع اقتربت المنحوتة من مفهوم ما بعد الحداثة، وهكذا كان نصب "باهمه" المكبر بطريقة آلية.

إن نشاط نور النحتي ليس بعيدا عن هذه المثاقفة النقدية. ليس فقط لأنها تملك وعي الباحثة الأكاديمية (متفرغة منذ سنوات لأطروحة الدكتوراه ذات الموضوع الذي يلامس هواجسها النحتية، والمرتبط بجمالية المواد النحتية الهشة، ستلقي بها محاضرة بعد أيام (15 يونيو/حزيران في متحف رودان)، بل لأن حيويتها الذهنية المنهجية لا تقبل بأطروحة دون امتحان عكسها، تنتقد مثلاً استهلاكية عملية الصب رغم ما توحي به منحوتاتها من دقة وصفية أمينة على أرهف التفاصيل تقول إنها "تنحت هذه الوصفية مباشرة من الخيال (دون إحالة مباشرة إلى أحياء أو متوفين) من مادة حديثة كما تقول تدعى "داس" تشبه الطين المشوي لكنها أكثر تماسكاً بعد الجفاف". هو ما يناقض إيجابية استخدام المصبوبات في لحم المواد وتمفصل أنسجتها وأنواعها، صحيح أن عملية الصب ابتدأت بهدف النسخ منذ عصر أفلاطون وفيدياس، ولكنها انحرفت عن هذا المنحى لتصبح واحدة من أدوات اللصق والتمفصل. هو ما يتناقض مع عمق تجربتها الأصيلة المعاشة. تذكرنا مثلاً باحتراف والدها في حماة واحتكاره لصناعة التحنيط أي تثبيت العالم الحي، تجيب هي بأنها تفضل اقتناص روح اللحظة المعاشة فنياً وبديناميكية إبداعية قلقة متجددة. والسؤال المطروح: ما هو الأهم طريقة الأداء (وأسرارها التقنية) أم النتيجة؟ لا يملك أحد حق الإجابة مكان نور، فالمواد الملصقة بالأصماغ الصنعية المتراكمة على وجه يمثل والدتها يستحضر حرقة ولوعة فقدانها الجزئي للبصر، نرى نحيب آلامها ونكاد نسمعه. في هذا البورتريه المكتوي بالأحمر الدرامي ندرك بأن شمولية المجاز والإلماح إلى المأساة السورية يمر من أحزانها الداخلية، وليس من القيامة الكونية كما هو شأن نظيرتها صفاء الست. لأن نور تمعن في هاجس بول كلي: تحويل المرئي إلى لامرئي وبالعكس. ثم ألا يحل إفراطها في استخدام الغلالة الشفافة للصمغ الصنعي (ماكياج ملغز وقناع سرّي يصل حدود التغليف الكامل بأشكال هندسية مثل متوازي المستطيلات في بعض الحالات بقحطه الروحي المهندس) محل مواد اللحم و الصب؟ ليس أكيداً أن ما بعد حداثية نحتها تقع في التناقض الحدسي ما بين واقعية التمثال التفصيلي المبتور عن الرأس وغلالته الحلمية الكابوسية سواء أكانت من الصمغ اللامع الملتبس أم من الأحجبة والأردية المتهافتة الشفافة أم من الخيوط التي تكشف مفاتن أحزان ما تخفيه، تستخدم هذه المواد المغلفة لتكفّن دلالة الوصف التشريحي المنحوت ولتحجّب خطرات أنامل اليد الأنثوية الرهيفة، هي مثل مشربية نوافذ البيت الدمشقي: ترى من الداخل ما هو خارجها، ولا يمكن رؤية ما تخفيها إذا كانت العين في الخارج. تعبر الأعين المنبثة لديها عن توجّس ناعم وغيبوبة ذهول.

أثارت انتباهي إحدى المنحوتات التي تمثّل يدا مؤنثة تنسلّ في أخرى ذكوريّة يخامر سلوكها الشرقي خفر واستحياء من المداعبة المحرّمة، غُلفت الاثنتان بحجاب من الخيوط، نحسّ بأنهما تتناجيان بلغة لمسية حسيّة عاطفيّة تنتميان بنفس الوقت إلى "الأنا" الواحدة و"الأنا المزدوجة"! ندرك هنا مدى استغراق نحتها في الذاتية إلى درجة الانطواء والعزلة الشمولية، فالفنان هو من يغامره الإحساس إلى حد اليقين بأنه يولد لوحده ويموت لوحده وينحت أو يرسم لوحده. توحدية صوفية ملتاعة بحداد خنسائي أبديّ النحيب، هو الصامت المخنوق في أقبية التعذيب حتى الموت.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.