}

فيلم "بنزين" للتونسية سارة العبيدي: كاميرا تتأمل أفقا مقفرا

محمد بنعزيز محمد بنعزيز 11 يونيو 2018


يبدو أن نسيم الثورة مفيد للفن، لذلك قدمت السينما التونسية مخرجتين شابتين في فيلميهما الأولين التخييليين الطويلين، قدمت كوثر بنهنية فيلم "على كف عفريت" وعُرض في مهرجانات كان 2017 وأثينا ولندن وقدمت سارة عابدين فيلم "بنزين" وقد عرض في مهرجان دبي 2017.

صورت كوثر بنهنية طالبة ريفية في العاصمة تونس البهيجة، تبحث الطالبة الريفية عن شهادة جامعية لتترقى في السلم الاجتماعي. شابة جميلة بطموح غير محدود تحب أضواء المدينة وتتسكع رفقة مناضل فقير ليلا في منطقة راقية، ذهبا بحثا عن التسلية فوقعا في مشاكل لم يتوقعاها. تكتشف الشابة كيف يدار البلد وكيف ينظر للمرأة التي تخرج ليلا.

في المقابل ذهبت سارة العبيدي بعيدا نحو الجنوب لتصور قفا البلد، لتصور أسرة طالب أنهى دراسته وحصل على شهادة جامعية وعاد لقريته المظلمة ليبحث عن مستقبل هناك، بعد زمن اختفى وترك أمه حليمة (سندس بلحسن) ووالده سالم (علي يحياوي) يبحثان بأمل يتبدد مع مرور الوقت.

بالمقارنة بين "على كف عفريت" و"بنزين" نجد أن إيقاع الفيلم المديني أعلى من إيقاع الفيلم الريفي. بمقارنة الوقائع الاجتماعية لفئة الشباب في سياقين مختلفين يظهر مكانان وإيقاعان ونمطا عيش وأفقان... في الريف المكان مظلم والإيقاع رتيب ونمط العيش محافظ واللذة سرية بخلاف الحياة في العاصمة.


سيرة كلمة

لوضع مشاهد فيلم "بنزين" في الصورة كتب المحامي رقم المفقود ويتشكل من ستة أرقام. زعم المحامي أنه سيجد الطريق إلى الابن الضال. كانت الفرضية الأساسية أن الشاب ركب زورقا نحو إيطاليا، في نقطة قريبة من الحدود الليبية، وهنا يحيل الفيلم على مكان مشحون بالوقائع التي كشفها الإعلام العالمي عبر صور البحرية الإيطالية تنقذ "الحراقة" أو تحصي جثثهم...

ويسمى المهاجر السري في شمال أفريقيا "الحراق" - بقاف أقرب للكاف g- لواحد من سببين الأول أنه حين يصل إلى الشاطئ الأوروبي يحرق وثائقه لكيلا يُعرف بلده الكريه لديه فيُرجَع إليه. والسبب الثاني أن التسمية مستعارة من تجربة طارق بن زياد الذي أحرق زوارقه فور النزول في الساحل الأوروبي. مع فارق أن طارق كان متأكدا من الغنيمة كما يروي مؤرخ أوروبي نحرير. فقبل أن يقوم طارق برحلة حرق السفن قام بالتسلل لجنوب شبه الجزيرة الأيبيرية مع خمس مائة رجل وجلب غنائم كثيرة منها مائدة النبي سليمان. بعدها عبر بجيش من تسعين ألف مقاتل. (المرجع جون جوليوس نورويتش الأبيض المتوسط "تاريخ بحر ليس مثله بحر" ترجمة طلعت الشايب المركز القومي للترجمة ط 1 2005 القاهرة ص106).

وهذه معلومة لم تذكرها المقررات التعليمية في شمال أفريقيا، والتي تقفز عن العبور الأول وتضيف نقلا عن الجغرافي الشريف الإدريسي أن طارق أحرق زوارقه بعد عبور المضيق الذي حمل اسمه وخيّر جنوده ببلاغة غريبة قائلا:
"أيها الناس، أين المفرُّ؟! البحر من ورائكم والعدوُّ أمامكم... واعلموا أنكم فى هذه الجزيرة أضْيَعُ من الأيتام...". وبما أنه لم يكن هناك خيار للجنود انتصروا... لذلك تكثر الأفلام والأغاني والنكت التي تتحدث عن "الحراقة" في شمال أفريقيا. ومنذ أحرق البوعزيزي نفسه في سيدي بوزيد صار للحريق دلالة مادية ولم يعد استعارة فقط.

جيل الحراقة والاحتراق جيل بلا أفق. ويطلق مصطلح الجيل على من ينتمون لفئة عمرية واحدة، وهم هنا بين العشرين والثلاثين، جيل يبذّر عمره في ما هو غير منتج، يقضي زهرة عمره دون عمل دون زواج دون استقرار. جيل يتيم وشاب بيولوجيا فقط، أما نفسيا فهو منهك وقد كانت الثورة فرصة للهروب لا المواجهة.


المشهد الخلفي للثورة

"بنزين" فيلم قاس عن المشهد الخلفي للثورة التونسية، والإحساس الذي تنقله الكاميرا موجع، فضاءات قاحلة تنعكس على الأجساد... رجل وامرأة في ريف تونس يحاولان حل لغز فتَح عيونهم فجأة على واقعهم. وفي انتظار الحل تعرّف المتفرج على الوضع بالتفصيل، هنا في الجنوب القاحل ولكي يحافظ الفلاح على نقوده يبذل بدنه لا ماله، لم يعد الحقل يطعم الفلاح لذلك يمارس مهنا متعددة، يلجأ للمتاجرة في بنزين مهرب. يتغير سعر البنزين المهرب بسبب الحملات الأمنية لا بسبب ندرة السلعة أو العرض والطلب، حتى سيارة الشرطة تسير بالبنزين المهرب من ليبيا، وهي بلد يعيش في فوضى لأن حكم القذافي الطويل سحق المجتمع. حظ تونس أفضل لأن فيها مجتمعا مدنيا ومؤسسات وسينما قوية أيضا. وقد مرت سبع سنوات على بدء "الربيع" من تونس وهو ربيع كان وقعه أقل دموية في شمال أفريقيا، لكن السينما التونسية ما زالت تحاول فهم وتفسير ما جرى.

الجنوب القاحل هو الديكور المركزي للفيلم، في هذه المناطق الفلاحية التقليدية صار تشغيل النساء في الحقول يتزايد باستمرار لمواجهة صعوبات العيش في البادية، نساء يَحلمن بأولادهن معهن فقط، يعملن في الحقل والسوق بينما يهرب الرجال بعيدا، ولا يعودون بسبب الموت أو الغربة... سابقا كان الفلاح يشغل أولاده لكيلا يدفع للأجير. لا يطيق الشبان الذين ذهبوا للجامعة وعرفوا متع وأضواء المدينة ذلك فيهربون... كلما كان المستوى التعليمي للبشر منخفضا أو منعدما سهل عليهم تقبل العمل العضلي. لذلك يهرب المتعلمون من الحقول والعمل اليدوي المنهك كما يهربون من الطاعون...


كاميرا تتأمل أفقا مقفرا

بسبب الهجرة القروية وشيخوخة الفلاحين وضعف النمو الديموغرافي تفْقد البوادي وزنها البشري. البوادي هي القاعدة الاجتماعية الريفية للنظام السياسي الأبوي الذي يتآكل. وفي سبيل الفرار من بؤس البوادي يفقد "الحراقة" حياتهم. يعون أنها فرصتهم الأخيرة للعيش، للوصول لما يعتبرونه الجنة الأوروبية هو ركوب البحر. يلعبون بالورقة الأخيرة وتساوي حياتهم. يقامرون بكل شيء... يغذي قرب المسافة بين تونس وإيطاليا حلمهم.

في الفيلم حبكة أحادية تتبع مسار البحث عن الابن الضال، وهذا ما ضمن تماسك الفيلم. في النصف الثاني لا يجري شيء تقريبا لكن نرى الشخصيات تنزل نحو القاع بسبب ما جرى في النصف الأول. تتدحرج الأم لحالة مزاجية غريبة، تظهر للأب وهي تبتعد باتجاه هاوية... يبدو من أجوبتها على أسئلة الطبيب أنها تعالج لأول مرة... مر زمن بالمستشفى، ثم خطرت لها فكرة حاسمة فشفيت فجأة... فكرة مكلفة على زوجها أن يُنفذها. مع مرور الوقت تتدهور صحة الأم ومزاجها وتصير ذاهلة ويسبب هذا كآبة فظيعة معدية للمتفرج. وهذا من ثمار قوة السيناريو وإدارة المخرجة سارة العبيدي للممثلين.

من عمق اليأس تبين أن ما بدا للأب كارثة كان بالنسبة لتجار البنزين طوق نجاة:
أن يحرق ابنك في اتجاه إيطاليا أفضل من أن يحرق نفسه. خياران مُران. مع الأسف هناك ما يكفي من البنزين المهرب في تونس ليصبه أشباه البوعزيزي على أجسادهم.

تجري أحداث "بنزين" في زمن قصير وهذا يضمن للفيلم إيقاعا كثيفا، السرد كرنولوجي والوقائع واضحة ومتتابعة وهذا يزيد من منسوب الإيهام بالواقعية... مع مرور الوقت وتزايد الهاربين إلى الغرب فشل المحامي في العثور على المفقود لذلك لجأ الوالدان للوزير، لكنه لم يحضر فلجأت الأم إلى ضريح الولي الصالح ليساعدها أو يتوسط لها لدى الله ليساعدها... وفي رحلة بحثها تصب الماء خلفها لتعود سالمة غانمة.

يفشل الولي الصالح في حل مشاكل الأحياء، يستمر وصول صور الجثث ولا يتوقف تدفق المهاجرين نحو الفردوس الأرضي، يتبادل الوالدان نظرات موجعة في صمت، لا شيء في الأفق لانتظاره، يجب التعايش مع ما يتوفر... لذلك تقدم المخرجة لقطات فيها فضاء شاسع فارغ ممتد لا يأتي أحد من عمقه. الابن لن يعود، رحل النهار، رحل العمر.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.