}

فنون قناة السويس: بين التحديث والنهضة

أسعد عرابي 12 يونيو 2018
تشكيل فنون قناة السويس: بين التحديث والنهضة
حفل افتتاح قناة السويس

معرض لا يمكن تجاهله ليس فقط لأنه بالغ العناية والتكلفة الباهظة والاختصاص البحثي العمودي، بل وأكثر من ذلك، فهو أقرب إلى المهرجان الفني التشكيلي بتعددية لغاته وأنواعه، ابتداءً من اللوحات الاستشراقية الأصيلة، وانتهاء بإسقاطات فيديو اللازير الملون والمبرمج معلوماتيًا على الواجهة الجنوبية (واجهة «نجميات الديا فراكم» أي عدسة الكاميرات التي تغلق مع الضوء وتتفتح مع العتم)، وسواها من الماكيتات المجسّمة ومشاريع النصب النحتية، والرسوم والفوتو. وتحتفي جميعها، كما يشير العنوان، إلى الحدث التاريخي المحلي والعالمي: افتتاح قناة السويس عام ١٨٦٩م بعد عشر سنوات من مجابهة الطبيعة القاسية، تحت هاجس عريق هو تمدد هذه الترعة العملاقة بطول مئتي متر وعرض وصل مؤخرًا إلى ٣٧ كم وبداية تحديث مصر، ثم تمدّد عصر النهضة العربي إلى لبنان وسورية والعراق وفلسطين، ناهيك عن عظم الأحداث القومية في صدمة عام ١٩٥٦م بتأميم الزعيم عبد الناصر للقناة ثم العدوان الثلاثي، وما تلا ذلك من تغذية الإباء الثقافي والتحرر النهضوي القائم على رمزية اللقاء بين الشرق والغرب من خلال أسطورة هذا المشروع المائي العظيم. لعل المعرض هو تكريس فني لهذه الذكرى الانعطافية.

تتعقب الأعمال الفنية المعروضة هذا المشروع (الملحمة) تأريخًا لتصل ببداياته حتى الأربعة آلاف عام، أو بالأحرى إلى ١٨٠٠ ق. م في عصر الفراعنة وبالذات إلى عصر سيزوتيرس الثالث (يمثله في المعرض نحت حجري لرأس هذا العاهل النهضوي المبكر)، واستمرت صبوة مشروع التحام البحر الأحمر بالأبيض المتوسط، وتواصل ثلاث قارات إفريقيا وآسيا وأوروبا في عصر الفرعون نيكاو حيث بدأ الحفر فعليًا في مجرى القناة. يحفل المعرض من جهة أخرى بشواهد فنية لا تقدر بثمن مثلها مثل وثائق الاتفاقات والمواثيق الموقعة خلال فترات متباعدة، تزاحمها أهمية الوثائق الفوتوغرافية التي تفضح مشقة العمل كما سنرى.



ملاحظات عامة حول دقائق

أهمية التظاهرة البانورامية

نستطيع أن نجمل الملاحظات حول المعرض بمعزل عن آلية ترجمة ملف الصحافة الذي يعبّر عن نفس قناة أحادية الرأي الموجه من قبل المشرفين عليه.

1-    إن هوية المعرض (شأنه شأن معهد العالم العربي) فرنسية. فتاريخ القناة مرتبط بفرنسا أكثر من إنكلترا أو غيرها، يمثل التحرر من أية رواسب صليبية، أو حتى استعمارية لأنه سليل الاستشراق الفرنسي الذي لا يخلو غالبًا من التنوير والشمولية المنفتحة على الثقافة العربية. فمركز الاهتمام في المعرض ليس عبد الناصر وتأميم القناة عام ١٩٥٦م ولا العدوان الثلاثي، وهي تمثل بالأحرى ختام بانوراما سيرة القناة، وإنما شخصية الدبلوماسي الفرنسي فرديناند دوليسبس، هو الذي لا علاقة له بالهندسة التنظيمية أو الإنشائية، لأنه كان مطوقًا بمستشارين من المهندسين بمن فيهم المعماريون. وكان فشل في مشروعه الأسبق حول قناة بنما ولكن علاقته كانت موثوقة مع الخديوي إسماعيل باشا، فتم الاتفاق بينهما على الابتداء بشق قناة السويس ابتداءً من العام ١٨٥٩م وافتتحت بعد عشر سنوات عام ١٨٦٩م. وفق صك الاتفاق المكتوب والموقع في المعرض يعتبر الفرنسيون أن المشروع يمثل الهرم الفرعوني الرابع لأنه رمز للتحديث والتمصير الذي بدأه الوالي الألباني محمد علي ممثل الخلافة العثمانية في مصر (وإثر مذبحة المماليك في القلعة)، ويمثل استمرارًا أكيدًا لحملة نابليون بونابرت في مصر التي بدأت التنوير بترجمة الهيروغليفية، هو التحديث المحلي الذي تحوّل إلى دعوة نهضوية عربية انتقل من مصر إلى لبنان ثم إلى بقية دول الشرق الأوسط العربية. تعتمد «النهضوية» على المصالحة بين الجنوب (الخصائص الثقافية العربية - الإسلامية) والشمال (التفوق التقني الأوروبي متمثلًا في الفرانكوفونية) دون التفريط بالاستقلال الشرعي. وفدت هذه الدعوة الشمولية من التنوير الفرنسي نفسه المتمثل بشخصية ثقافية بالغة التأثير هو المستشرق لويس ماسينيون (ثم تلميذه هنري كوربان). ولو راجع العرب ما قدمه ماسينيون لثقافتهم لصنعوا له تمثالًا، فقد ثبّت في الدراسات اعتبار الفكر الإسلامي توحيديًا وليس هرطقة، حتى فرض هذا الواقع على الفاتيكان، ثم فرض على القانون الفرنسي حق اللجوء السياسي تكريسًا للديمقراطية العربية (خاصة في المغرب) ناهيك عن تقمصه في الدراسات تصوفية الحلاج وتضحيته وترجمة أشعاره. مارس الفكر النهضوي سلالة الخديوي إسماعيل الذي حرّر وصية افتتاح القناة المحفوظة في المعرض مع دوليسبس. علينا الاعتراف بأن الصبوة الاستعمارية تراجعت في فرنسا مع الفكر الديغولي وتحرير الجزائر، من أبرز المتحمسين لها الرئيس جاك شيراك الذي خلف متحفًا تطهيريًا نموذجًا هو «الفنون الأولى» يدعى اليوم «برانلي - شيراك»، أما تأسيس معهد العالم العربي (من عجائب ميتران المعمارية السبع) فثبت أن اليسار الفرنسي مطّهر منذ الأساس من هذه اللوثة الاستعبادية، وما تسليم جاك لانغ لمسؤولية رئاسة معهد العالم العربي من قبل الرئيس فرانسوا هولاند سوى وصية موثوقة لهذا الميراث. وجعل ميتران من المعهد برزخًا ثقافيًا يماثل قناة السويس بين المشرق العربي وفرنسا. ليس غريبًا إذن إقامة هذا المعرض التصالحي في حضن معهد العالم العربي.



2-   هو معرض فني وليس جيوبوليتيك. لنتخيل تمثال رأس سيزوتيرس الثالث المعروض بهذه المناسبة، الفرعون الأول منذ أربعة آلاف عام الذي فكّر لأول مرة بإيصال البحر الأحمر بالأبيض المتوسط وبدأ فعلا بالحفر، تمثاله لا يقدر بثمن، ناهيك عن اللوحات الاستشراقية كشواهد فنية على موضوع سرادق حفل الافتتاح الذي عانق ما بين سبعة آلاف إلى ثمانية آلاف من المدعوين على رأسهم الوالي الخديوي إسماعيل باشا، وزوجة نابليون الثالث الحسناء أوجيني، ممثلة في المعرض بلوحة بورتريه تمثلها مدهشة التقنية الرومانسية، ثم الملكة فكتوريا، وممثل الخلافة العثمانية عبد العزيز، ناهيك عن الشخصيات المرموقة من أمثال عبد القادر الجزائري، حيث أصبح ينطبق المثل البديل عن «كل الطرق تمر من روما» على «كل الطرق تمر من السويس». ناهيك عن عرض الماكيتات النحتية للنصب المقبولة أو المرفوضة، وماكيت ميكانيكي خاص عن آلة الحفر الأساسية. إذا قدم المعرض أفلامًا وثائقية فهناك أفلام مصممة للمعرض مثل عروض اللازير الملون المكلف، مما يرسّخ الجانب الفني فيه تفاصيل تصاميم «أوبرا عائدة» التي كلف بها الموسيقى العالمي فيردي. هو الجانب النهضوي الذي يصالح بين موسيقى الشرق العربي والموسيقى الكلاسيكية، وفات المعرض ذكر المحطة النهضوية التالية مع بداية القرن العشرين في عصر فؤاد الأول بمناسبة آخر مؤتمر بالغ الأهمية عن الموسيقى العربية عام ١٩٣٢م وهو الذي هيأ لدورات المجمع القائم حتى اليوم تتناوب استقباله كل عام العواصم العربية. وكان الموسيقار بيلا بارتوك الهنغاري الأكبر في العالم مسؤولًا عن قسم الاستماع، وأثمرت نقاشاته مع السنباطي والقصبجي وزكريا أحمد وأم كلثوم عن ترسيخ اهتمامه بموسيقى المقام الأفقية والتي أخصبت معرفته بالموسيقى العربية، وقادته إلى التوليف مع الكنتربوان الذي يرجع إلى مؤسس الموسيقى الكلاسيكية جان سبستيان باخ، وترك لنا ميراثا هو الأشد أصالة وشمولية قبل وفاته في الأربعينات. تعتبر المخضرمة أم كلثوم رمزًا أساسيًا من رموز «النهضة» إلى جانب توفيق الحكيم (الذي سمى ابنته باسمها ثومة) والعقاد وشوقي وقبلهم محمد عبده ثم مع عبد الناصر والعدوان الثلاثي على بور سعيد وملاحم المقاومة (شارك بها السوري جول جمال الذي فجر مركبه في البارجة البريطانية)، مما قاد إلى اشتعال الحس القومي العربي، وكُلّل بوحدة القطرين. لو رجعنا خطوة تصحيحية إلى الوراء لعثرنا على الأسباب العميقة للثورة المصرية على الملكية والمتمثلة باستخدام عشرات الآلاف من عرق الفلاحين في حفر قناة السد عن طريق عبودية السخرة وموت عشرات الآلاف منهم يقع خلف هذه المآسي عنوان المعرض «ملحمة قناة السويس».

تقودنا بالنتيجة فنون المعرض إذن من التحديث إلى التمصير إلى النهضوية، وتنتهي بالقومية، لنقع اليوم في ازدواجية ظلامية المذهبية. يتراوح خضم هذا التاريخ الثقافي بين الانطوائية والشمولية، بين الانغلاق على الذات العقيدية والقومية والانفتاح على العالم كما كان يقول سقراط «أنا مواطن عالمي»، ولا يعني هذا اليقين بالنسبة إليه نفي الإباء والفخر بديمقراطية أثينا. يضعنا المعرض إذن في مراجعة فنية وفكرية بليغة التأمل، بين تاريخ خطوة إلى الوراء تراثيًا وخطوتين إلى الأمام حداثيًا.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.