}

المسرحية السورية "دراما": حكايات العائلات المتهالكة

مناهل السهوي 9 مايو 2018
مسرح المسرحية السورية "دراما": حكايات العائلات المتهالكة
مشهد من مسرحية "دراما"

ماذا لو تبادلتَ الأدوار مع أخيك! وكنتَ أخاً سيئاً وسارقاً لكنكَ تمكنت في النهاية من الاستحواذ على كلّ ما يملك؟ وماذا لو صنعتْ منكما العائلة الممزّقة صوراً غير متكاملة قابلة للتشويه ولفرض قوانين متبدلة للشخصية، أن تخضع شخصيتك لصدفة العائلة؟ بهذه الأسئلة المفزعة وبأخرى تتوسع نحو مفهوم الفرد الحائر وسط المجتمع المنهار، بنى المخرج أسامة غنم مسرحيته "دراما" التي عُرِضت مؤخراً على مسرح القباني في دمشق.

عن نص للكاتب الأميركي "سام شيبرد" بعنوان "الغرب الحقيقي"، أضفى المسرحي السوري مناخاً محليّاً يتماهى مع تمزّق العائلة السورية في ظل الحرب. تمزّقات تنطوي على كراهية معلنة، فتظهر المحاولات البائسة لاستعادة الأخوة وخلق مساحة من المودة التي تغدو شيئاً فشيئاً شبه مستحيلة، فمنذ البداية يعلن أحد الأخوين أن أغلب جرائم القتل تحدث بين الأخوة والأقارب، وبين أكثر الأناس حميمية، وعلى هذا الأساس تبنى المسرحية بشكل أو بآخر.

شغل الأدوار كلّ من "إيهاب شعبان" في دور "مهيار"، الأخ الذي يعاني الكثير من الاضطرابات الداخلية، فيلجأ إلى السرقة وإدمان الكحول، محاولاً التقليل من شأن أخيه الصغير، الذي لعب دوره "جوان دحدوح" "آدم" الشاب الخلوق، كاتب السيناريو والمتزوج والمقيم في بيروت، وأخيراً "مي سليم" التي أخذت دور المنتجة في البداية والأم في النهاية.

تبدأ المسرحية باجتماع الأخوين في منزل الأم المسافرة إلى مصر بقصد السياحة، حيث توكل عناية المنزل وسقاية النبتة الوحيدة لآدم، تظهر منذ البداية سخرية مهيار من أخيه الصغير وعدم قناعته بما يفعل في الكتابة، ويقرر الذهاب لاستطلاع وضع المنازل في المنطقة ليسرقها لاحقاً، ويحاول استعارة سيارة آدم، لكن الأخير يرفض، إلى أن يضطر إعارته إياها عند قدوم المنتجة كي يبقى على انفراد معها، ولأنه في الواقع يخجل من سلوكيات أخيه، ويعلم أنه سيكون سبباً للمشاكل، وهذا ما يحدث في النهاية، لكن بطريقة معكوسة. ففيما تشارك المنتجة الأحلام مع آدم حول السيناريو الخارق الذي كتبه، يعود مهيار وقد سرق شاشة تلفاز. ويقنع مهيار، القادم من الصحراء، المنتجة، بأن لديه قصة حقيقية جداً وهي قصة بدوية عن مطاردة لا تنتهي، والتي تتبناها في النهاية بفعل رهان لا غير، حول لعبة بلياردو، في إشارة إلى ضياع الفرص وتوجهها نحو أولئك الذين لا يستحقونها، يجن آدم فقصة أخيه سخيفة للغاية ولا يمكن قبولها مطلقاً، على حد تعبيره.

تظهر عقدة مهيار في المسرحية بأنه يملك قصة لكنه لا يملك في الحقيقة طريقة لكتابتها على شكل سيناريو. يفاوض شقيقه ليكتب له السيناريو، فيما يروي هو قصته، لكن الأخ الصغير يرفض ذلك، فنصه الأحق وهذه القصة هي مجرد هراء، لتتصاعد وتيرة المشاحنات بين الأخوين وتغدو أكثر عنفاً، إلى أن يصلا إلى اتفاق بأن يكتب آدم سيناريو مهيار، بشرط أن يأخذه معه إلى الصحراء النائية حيث لا يوجد أحد، وهنا يبدأ تبدل في شخصيته ليتحول إلى نسخة أخرى من أخيه. وفي الحقيقة سهولة تبدل الشخصيات هي شكل من أشكال تزعزع العائلة، فكلاهما قد يكونان جيدين وسيئين بذات السوية. تعود الأم فجأة بشخصيتها الباردة واللامبالية، حتى إنها لا تكترث لخنق آدم أخيه بسلك الهاتف وتذهب للنوم في أحد الفنادق بعدما تحوّل منزلها إلى مجرد فوضى، يعتقد آدم أنه قتل أخاه، إلى أن يقفز الأخير ويتواجه الاثنان في جولة جديدة للعنف بينهما.

تحتوي المسرحية على العديد من الأبعاد والرمزيات، والتي تم تقديمها بقالب مقنع، بعيداً عن الطرح المباشر. فنحن هنا أمام تشكيل مسرحيّ للفرص ومنتهزيها، وطرح لمتسلقي المهن الثقافية من أولئك الذين يحملون لواء الدراما ويشوهون به بناءً على قصص، كما يقولون، حقيقية، لكنها لا تخرج عن دائرة الهمتارو بين الطارد والمطارد.

تنحو المسرحية بقوة نحو مسرح القسوة والتشويه المتزايد في بناء الشخصيات وتدمير الاعتبارات المجتمعية والأخلاقية والعائلية، وهو ما أمكن نقله للمسرح السوري بيسر، قسوة واقعية، مبنية على ذعر الشخصيات من فقدان أمكنتها وقدرتها على التأثير في محيطها، في عائلتها وفي نفسها.

تتحول الشخصيات إلى ركام من الذكريات والمشاحنات والشتائم وتحطيم كل الأشياء المادية والوجدانية، على حد سواء، وتصير الخشبة انعكاساً للوجدان المتهالك، وللعائلة التي تثير التقزز بلامبالاتها وتخليها عن بعضها بعضاً بسهولة، ليستكمل أسامة غنم ثلاثيته المسرحية بعد مسرحية "العودة إلى البيت" 2013 و"زجاج" 2015، بغياب تام للوالدين، ما يستهلك ابنيهما، ظهور سطحي للأم في النهاية، بارد بلا أي ردة فعل عاطفية تزيد قسوة المشهد. ولنا أن نتساءل هل تقديم مي كساب في دورَي الأم والمنتجة هو تلميح لتفريق حصل بناء على علاقة الأم مع طفليها؟ وهل هي من فعلت ذلك منذ البداية ومنحت أحد طفليها الأحقية على الآخر فبنت هذا الشرخ؟

قد يأخذ البعض على المسرحية طولها الذي كان حوالي ثلاث ساعات، والذي كان يمكن اختصاره لزمن يصير فيه تسارع الحدث أكثر قوة وتأثيراً في المتلقي. من ناحية أخرى، لابد من الإشادة بأداء إيهاب شعبان الذي قدم أداء احترافياً بانفعالات مسرحية لامست المتلقي بشدة.

أما عن المواجهة الأخيرة، والتي هي بداية لعنف آخر ولحرب أخرى بين الأخوين، مواجهة لم تنته ولها تكملة قد تأخذ شكلاً آخر وبعداً أكثر أو أقل قسوة على حسب نواة صراعهما التي هي في الأساس فرض أحقية، بهذه المواجهة الأخيرة جعلنا المخرج السوري أسامة غنم نتساءل ونحن خارجون من مسرح القباني: كم مرة قتل أخ أخاه؟ وكم من المرات القادمة ستُبنى عائلات على شروخ داخلية غير قابلة للإصلاح على الإطلاق؟

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.