}

معرض "اليابانية والانطباعية" في باريس: الأصل والصورة!

أسعد عرابي 5 مايو 2018
تشكيل معرض "اليابانية والانطباعية" في باريس: الأصل والصورة!
عمل الفنان الياباني هوكو ساي

تأخّر الوقت أكثر من قرن حتى تصدّت المعارض الفرنسية لهذا الموضوع الحساس والمركزي، فإذا تعرّضَت سابقًا بعض الكتب الخجولة وغير المعروفة لهذا الموضوع فنحن اليوم إزاء معرض بانورامي في عاصمة الانطباعيين. وترجع هذه "الشجاعة" التصحيحية إلى انتشار منهج علم الجمال المقارن، كما أشرتُ في أكثر من مناسبة، والمقارنة المحايدة (أخيرًا) تجابه اليوم التأثير العميق للثقافة التشكيلية والذوقية اليابانية على جيلين من تيار الانطباعية المركزي وما بعد الانطباعية (من جماعة الرؤيويين، ومن ثم التجزيئية أو التنقيطية ومن تزامن معها من المستقلين مثل فان جوخ وجوجان).

تبتدئ القصّة من اليابان نفسها. فبعد فترة انطواء وحذر وانغلاق بسبب الهجمة الاستعمارية الأوروبية (خاصة إسبانيا والبرتغال وهولندا) على الدول الآسيوية المجاورة، ومحاولتهم الفاشلة استعمار اليابان، انبثقت سلالة ميجي الحاكمة الإمبراطورية فيها (حكمت منذ عام ١٨٦٨ وحتى عام ١٩١٢) تبشر بتحديث اليابان وانفتاحها على أوروبا خاصة فرنسا، هي التي بادرت لتوقيع عقد التبادل التجاري والاقتصادي الحر عام ١٨٥٨م، ثم الشراكة البارزة للجناح الياباني في المعرض السنوي العالمي الباريسي دورة عام ١٨٧٠م فوصلت لوثة الثقافة التشكيلية اليابانية ذروتها، متغلغلة في حساسية لوحات رواد التيار الفرنسي "الانطباعية". وذلك بعد أن أصبحت حاضرة في الحياة اليومية بأدوات طقوس الشاي وأنواع البورسلان، وصور الساموراي، وبنات الهوى «الجيشا»، وإشاعة رياضة اليوغا والأزياء والمطبخ التقليدي وانتشار لوحات الطباعة (الإستامب)، حتى أصبح لكل رائد من أقطاب الانطباعية مجموعته الخاصة من الإستامب الياباني.

وأقيم منذ فترة في نفس المتحف معرض لمجموعة كلود مونيه الثرية، نعثر على نماذج منها في لوحاته على مثال بورتريه إميل زولا أمام جدار مزدان بعدد منها.

إنه المعرض البانورامي المقارن الذي تتجرأ فرنسا لأول مرة على الاعتراف به جملةً وتفصيلًا، والذي يقام في عاصمة التيار الانطباعي ضيعة «جفرني»، التي اشتهرت بسبب معانقتها لقصر- محترف ومتحف رأس هذه الحركة: كلود مونيه، والذي وسّعته الدولة فأصبح يدعى «المتحف الوطني للانطباعية»، وأقيم ملاصقًا له متحف الانطباعية الأميركية.

نحن إذن إزاء معرض مزدوج (يمثل جيلين ما بين القرن التاسع عشر والعشرين) تحت عنوان مختزل: «اليابانية والانطباعية». ويشتمل في قسمه الأول على مئة وعشرين لوحة من أشهر موروث الانطباعية، وما يدعى بما بعد الانطباعية أي حركة الرؤيويين أو الأنبياء التي قادها بيير بونار واشتملت على العديد من الفنانين من أمثال سوريزييه وفويار وغيرهما، ومن ثم الحركة التجزيئية المعروفة بالتنقيطية برأسها ومنظرها بول سينياك ثم جورج سورا وغروس وفنانين معروفين ومستقلين على غرار فان جوخ وبول جوجان ومونخ وويسلر وريفيير وفالاتون متزامنين. ويقابله معرض حشود من الإستامب لمعلمي اليابان الكبار في القرن التاسع عشر. افتتح المعرض في أواخر مارس مستمرًا حتى منتصف تموز من العام الراهن ٢٠١٨م.

لو تأملنا فردوس حديقة مونيه نفسها (التي ورثها عن عائلته متأخرًا) وجدناها حديقةً يابانيةً ما بين جسرها الشهير (الذي صوّره في أكثر من عشرين لوحة واحدة من أبرزها معلقة في المعرض) وصولًا حتى حشود أزهار النينيفار العائمة في البحيرات الآسنة، عبورًا من نظام الغيطان وتضاريس فلاحة الأحواض المتخمة بالأزهار والورود.



لكن استلهام مونيه من هوكوساي (صاحب الموجة الشهيرة) أشد عمقًا من هذه الرموز، لأنه ينسل ضمن الحساسية المائية والبخارية (هو ما دفعه لاتخاذ محترفه من مركب مائي عائم) وبالتالي يتوافق مع تجزيء رفيف لمسات الألوان الباردة والحارّة المتراكبة (أو المتزامنة) على شبكية العين. لا تقتصر هذه الرطوبة الطازجة على مناظر النينيفار والبحر والموج والرذاذ بل حتى مناظر الجبال والغابات دون أن ننسى أن تكوينات مونيه منذ استهلالاته الأولى تطبق أفضليّة الفراغ على الامتلاء كما هي طوبوغرافية الفلسفة الطاوية في الإستامب الياباني، مثل حاملة المظلة وشقائق النعمان، هي التي تعوم في فراغ هائل من التلال وأبخرة الهواء الطلق. أثمرت بحوث مونيه اليابانية من خلال التيار التالي: التنقيطية. نعثر في المعرض على لوحة بول سينياك «التواليت» أمام المرآة، حيث الخطرات الأنثوية وحياكة قصة الشعر مستعارة بكاملها من الإستامب الياباني.

لعل أبلغ الفنانين اقترابًا من التخييل الياباني في تلك الفترة هو فان جوخ، يصل إلى حد الاستعارة الصريحة من المعلم هيروشيج: من أشجار أزهاره وفيافيه الحلزونية أو رسومه ومراكبه وأغصانه. هو بدوره يصوّر الجسر الياباني الذي أعاد استخراج ألوانه الحادة المخرج الياباني المعروف كيروساوا في فيلم «الحلم» (دريم)، انطلق من لوحة فان جوخ ليتحول منها إلى جغرافية ميتافيزيقية ضمن هالة من التخييل الشعري الياباني، الذي تتماوج في حومته أزمان الذاكرة في سكونية أبدية. وشهدنا سابقًا أكثر من معرض يوثّق علاقة لوحات فان جوخ بمحفورات هيروشيج.

إذا تناولنا أبرز فروع «ما بعد الانطباعية» كمجموعة «الأنبياء» التي يتوج رأسها بيير بونار وجدناه منذ البداية يستعير في لوحته هيئة البارافان الثلاثي الياباني، ويستعيض عن المشاهد اليومية في كيوتو وسيرة الساموراي بالمشاهد اليومية في باريس، ويحوّل وظيفة البارافان المنزلية إلى لوحة ثلاثية تعلق على الجدران. زميله فويار استعار من سطوع زخرفة أوراق الجدران اليابانية، وكذلك تكوينات البقية بعضها يستعير سيلويت شكل المروحة اليابانية، ونشهد في المعرض المزدوج العديد من الأسماء المعروفة التي نهلت من معين الثقافة البصرية الطباعية اليابانية، من مثال ديغا وماري كاسات وهيسلر وموريزوت وريفيير وفالاتون وغيرهم. أما هنري تولوز لوتريك فقد استبدل مشاهد بنات الهوى (الجيشا)، بعوالم دور البغاء الباريسية بجانب الطاحونة الحمراء في حي البيغال أو المونمارتر.

يطرح المعرض سؤالًا تأمليًا محيّرًا: لماذا لا نعرف اسمًا يابانيًا فنيًا معاصرًا ولا من المحترفات الآسيوية الأخرى ولا من القارّة الأفريقية؟ أي أن مصادر الاستلهام الشمولي في الفن الغربي اقتصرت على نجوم تاريخ الفن وروّاده الغربيين فقط؟ الجواب لدى النقّاد والمؤرخين الأوروبيين أنفسهم الذين ورثوا بداهة مركزية الفن بين باريس ونيويورك.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.