}

"بغداد حبي": معرض الحضارة التي داسها الأميركيون

بوعلام رمضاني 3 يونيو 2018

باريس فعلاً عجيبة ثقافياً لأنها لا تعانق الثقافة فقط في الأماكن النخبوية، التي يتردد عليها المثقفون الذين لم يبقوا غرامشيين عضويين رغم تباهي معظمهم بالتزام مزدوج المعايير كما بينا ذلك أكثر من مرة. باريس تخترق الثقافة أيضاً في قلب أحياء الكادحين إلى ربّهم أو "الناس اللي تحت"، على حد تعبير نعمان عاشور، وغير المعنيين بالثقافة على طريقة النخبويين. والمكان الذي يحتضن معرض "بغداد حبي" حتى غاية التاسع والعشرين من شهر يوليو/تموز في معهد ثقافات الإسلام يرعب قادة الرأي اليوم في فرنسا، من أمثال أريك زمور والآن فينكلكروت وباسكال بروكنير، والذين يتحسسون مسدساتهم حينما يسمعون كلمة ثقافة مقرونة بالمسلمين. ويزداد الموقف تنفيراً وترهيباً إذا تعلق الأمر بمسلمين وعرب حي بارباس، الذي يحيط بالمعهد والمعروف بمهاجريه الجزائريين، الذين لا يخشون لومة لائم تحت وطأة أنفة غير معقولة يفسرها البعض علمياً بفرضية تاريخهم البعيد والقريب والحافل بشتى أشكال التمرد والثوران.

راودتني الفكرة وأنا أدخل رفقة ابني سامي معهد ثقافات الإسلام الواقع في الدائرة الثامنة عشرة، التي يتعايش فيها فرنسيون لا ترعبهم كلمة إسلام ويتناولون الجعة متمتعين بالشمس الربيعية على بعد أمتار من المعهد الذي ينطق بالثقافة الشعبية المتميزة وبالسلام والإبداع الإسلاميين، كما تكشف عن ذلك برمجة تحتضنها مؤسسة ثقافية لا تهم الإعلام الفرنسي وتسمح بالصلاة في المسجد الذي كان مكتظاً لحظة دخولنا المعهد بطمأنينة في غياب حراس محترفين. المعهد تترأسه السيدة بريزة خياري، الجزائرية الأصل والممثلة السابقة لباريس في مجلس الشيوخ، والمثقفة الاشتراكية التي كتبت عن هيامها ببغداد التاريخ والحضارة بكلمات تفسر السبب الذي دفع الصحافي العراقي إلى ضرب العربيد السابق بوش بالحذاء في لقطة تجاوزت ببعدها لقطة خروتشوف وهو يخبط بحذائه على منبر الأمم المتحدة.

مهد الكتابة والعجلة

كتبت السيدة خياري - التي وعدت "ضفة ثالثة" بحديث في أقرب وقت - بكلمات تدفع عنوة إلى زيارة معهدها المندس بعيداً عن باريس المخملية، ممجدة عراق الرافدين والحضارة، ومبررة معرضها التطهيري، ومذكرة بمرجعيات وكنوز مهد الكتابة والعجلة والتعددية الفكرية والإبداع الفني والفكري والأدبي الإنساني النادر. وحديثها في البداية عن حمورابي أول قانونيي العالم وبابل المدهشة انطلاقاً من القرن الثامن عشر قبل الميلاد كان كافياً لإيقاع الزائر في مخالب إحدى أروع القصص الإنسانية مع عطر ونكهة التاريخ الحضاري غير العادي. بغداد، التي تعد اليوم مصدر ترهيب وخراب في المتخيل الغربي رغم أجواء الانتخابات النيابية السلمية، هي بغداد (وكما صورها المعرض) ابن الفريد والمتنبي، وبغداد المؤمنين والملحدين الذين تعايشوا في سلام وفي جو فكري متسامح ودون إقصاء. بغداد حب السيدة خياري هي بغداد تبادل العلم المتعدد الفروع والتخصصات وبيت الحكمة الذي أسس في القرن التاسع وأصبح مأوى الفلاسفة والعلماء والفنانين من العالم بأسره، وهو البيت الذي رمى بظلاله على حلب وقرطبة مروراً بتونس وفاس، الأمر الذي سمح بنشر المعرفة الحضارية والفكرية الإنسانية من خلال الترجمة، وخاصة تلك المتعلقة بالحضارتين الرومانية واليونانية.

كلمة السيدة خياري تجسدت كما يجب في لوحات المعرض بتوقف الزائرين، الذين كانوا يعدون على الأصابع، مطولاً ساعة تجولنا أمام محطات ومرجعيات بلد المأمون والمدينة الفاضلة للفارابي وجنيد البغدادي وعبد القادر الجيلاني "ملك القديسين" الذي كلمني عنه ابن بغداد الكبير الآخر والحي الذي يرزق الخطاط الكبير غاني العاني في حديث "لضفة ثالثة". ومهد الصوفية المسلمة والمسالمة تحول إلى خراب خلال الأعوام الأخيرة ليس بفعل داعش فقط، كما أشارت إلى ذلك رئيسة معهد ثقافات الإسلام، دون ذكره بالاسم. وأميركا الإرهابية الأولى في العالم، حسب مواطنها الراديكالي شومسكي والتي سبقت داعش الى تدمير حضارة الرافدين، والحرب الظالمة التي فرضها العم سام على الشعب العراقي باسم وضع حد لتهديد صدام النووي، كانت حاضرة وناطقة بالصورة والكلمة في المعرض على النحو الذي لا يترك مجالاً للتشكيك في تاريخ أصل الدمار الذي حل بالعراق الحبيب.

ضدّ الجهل والهمجيّة

كما كان منتظراً أكدت رئيسة معهد ثقافات الإسلام أن المعرض إجابة على الجهلة والهمجيين، الذين راحوا يقتلعون ذاكرة وتاريخ وأيقونات الشعب العربي الكبير، لكن إجابتها خلت منهجياً من خلفيات الخطة الأميركية السابقة لبروز داعش، الأمر الذي يطرح أكثر من سؤال عن هذا التغييب الخطير بقلم السيدة خياري الاشتراكية!. وستيفاني أزالوا، المديرة العامة، وبرينيس ساليو، المديرة الفنية، وضعتا هدف المعرض في سياق أشمل بربطهما بين تكريم معهد ثقافات الإسلام للمخرج الفرنسي الكبير آلان رونيه صاحب تحفة "هيروشيما حبي" السينمائية التي استوحاها من رواية الكاتبة مارغريت دوراس، وبين عنوان معرض "بغداد حبي" من منطلق الرمزية الأدبية والفنية المشتركة من جهة والدمار الذي لحق بمدينة الإبداع التاريخي العربي أسوة بمثيله الذي طاول هيروشيما من جهة أخرى.



والأهمية الفنية لمعرض "بغداد حبي" تمسي شامخة شموخ الحضارة العربية في بلاد الرافدين، بقلم مراد منتظمي، محافظ المعرض والمؤرخ الفني والباحث في تايت مودرن بلندن ومدير دار منشورات زمان كتب zaman books التي تعنى بدراسات الحداثات العربية والآسيوية والإفريقية. وبحسب منتظمي، فإن المعرض بحث جماعي في الإستراتيجيات الفنية المرتبطة بإعادة ابتكار التراث الوطني العراقي، سواء تعلق بعراق الرافدين أو بالعراق الحديث. وتحت إشرافه، عرض فنانون عراقيون يعيشون في الخارج أعمالاً فنية متنوعة ارتكزت على علوم الآثار والمتاحف والهندسة، وعلى توظيف ذكي ومتنوع لتركيب استعاري يتم من خلاله استعمال عدة وسائل ويساعد في تقدير منتظمي على التفكير في إعادة تأكيد حجم وفداحة النهب الذي طاول التراث المتحفي العراقي (متحف الآثار القديمة ومتحف الفن الحديث) وأصبح ظاهرة انطلاقاً من عام 2000 في إثر حرب الخليج الثانية التي قادتها واشنطن وحلفاؤها وبعدها داعش.

احتفاء بالثقافة البصرية

الزائر للمعرض يؤيد المحافظ منتظمي عند حديثه عن ثقافة بصرية، ولو أن هذه الثقافة أضحت محدودة التأثير بسبب صغر حجم الصور والتعاليق المرفقة التي تدفع أمثالي إلى إخراج نظاراتهم الطبية فضلا عن الاكتفاء بجهة معينة من القاعة لعرض كل الصور بدل توزيعها عبر كل جدرانها في أحجام وتعاليق كبيرة أكثر جاذبية، وهذا ما تم في القاعة المجاورة التي علقت فيها إطارات صور المعالم الأثرية العراقية الشهيرة.

شركو عباس، لطيف العاني، رسمي الخفاجي، علي عساف، سلام عطا صبري، جوليان أودبير، ضياء عزاوي، حيمات، هناء ملالة، مهدي معتشر، موصل أي بيرو، ميخائيل راكوفيتز، جواد سليم، لورنا سليم، وليد سيتي، شريف واقد، علاء يونس- أسماء فنية كبيرة استطاعت أن تجسد مقاربة المحافظ منتظمي، الذي أراد توظيفهم كمنذري الحاضر، كما فعل جيل الكبير جواد سليم في الخمسينيات من خلال جماعة فن بغداد الحديث بعملهم على إعادة بعث التراث الثقافي في متحف الآثار مستلهمين الحضارات السومرية والآشورية والإسلامية. الثقافة البصرية التي تحدث عنها محافظ المعرض منتظمي تجسدت في واقع الأمر من خلال اللوحات والأعمال التي عكست موهبة تشكيليين ونحاتين مبدعين عكسوا حساً فنياً عالياً أضحى نافذة تاريخية وحضارية مجسدة لمعادلة غارقة في أصالة تراثية وروحية وثقافية موحية ومعاصرة مجددة. وأعمال علي عساف "لأمي"، التي تستقبل الزائر في مدخل المعرض بالطابق السفلي، كانت نموذجاً حياً عن المنحى الأول الذي تعزز لاحقاً بلوحة هناء ملالة، التي تظهر هبوط طائرة على معلم أثري عراقي. والتزاوج بين مظهري الأصالة والحداثة تعمق أكثر من خلال منحوتة مهدي معتشر الخشبية التي تمثل دوامة انكسارات مفتوحة على كل القراءات برمزيتها التجريدية وتشكيلة الحاجز الرملي لجوليان أودبير. ومن اللوحات المتميزة والمؤثرة في المعرض لوحة لورنا سليم، زوجة الفنان الكبير جواد سليم، وهي اللوحة التي تؤكد مأساوية الخسارة الثقافية التي مني بها العراق بسبب الغزو الأميركي وتحكي قصة مبدع عراقي ترك بصمته في تاريخ الفن العراقي الحديث. إنها لوحة الكوفة التي أعادت تشكيلها زوجته وحملت اسمها بعد أن نهبت لوحة زوجها الأصلية عام 2003 في إثر الاجتياح الأميركي للعراق، كما كان مصير الكثير من التحف والآثار التي لا تقدر بثمن، وتعبر اللوحة (1928) عن روح الكوفة الدينية من منظور فني وحضاري وليس من منظور عقائدي عبر رمزية الإشارات التي تحيلنا على تقنية التشكيلي الجزائري الكبير الراحل محمد خدة.

نهضة ودكتاتورية 

الجميل في معرض "بغداد حبي" تجسيده مفارقة تحمل بين طياتها جانباً إيجابياً، تمثل في أهمية لوحات الماضي الحضاري المجيد والعريق والنادر تاريخياً وابداعياً، وتحمل جانباً آخر سلبياً غطى المرحلة السياسية التي قدمت في المعرض انطلاقاً من عام 1971 حتى عام 2015، وهي المرحلة التي يبدو أنها لم تنل الاهتمام الكافي بحكم خروجها عن مقاربة المحافظ منتظمي، والخاصة باللوحات التشكيلية التي عرضت من منطلق إبداعي خالص خلافاً للمرحلة السياسية المذكورة التي باتت تشكيلاً سريعاً لصف وجمع سريعين لمجموعة من الصور والوثائق والخرائط والخطط والتعاليق المرفقة. ويلخص هذا الجانب مسلسل النهضة المعمارية، التي عرفتها عراق الرئيس البكر حينما كان صدام نائبه يومها الرجل الأقوى لخلافته دون منازع، وهذا ما حدث حينما حكم العراق بيد من نار وحديد وسجن المهندس المعماري الكبير جادرجي إلى جانب آخرين بعد أن ساهم في تحقيق إنجازات عمرانية كبيرة قصف بعضها الأميركيون الذين جاؤوا ليحرروا العراق حسب زعمهم. تتجسد مرحلة التشييد والتنمية خلال السبعينيات والثمانينيات في المعرض من خلال خرائط وخطط بغداد الجديدة والبنايات التي صمم الكثير منها جادرجي ومن بينها محلات التبغ والبريد المركزي وقاعة الرياضات، التي دشنها صدام وسميت باسمه قبل أن تأخذ اسم قاعة بغداد بعد رحيله عقب الغزو الأميركي، ويجدر ذكر أن التصميم الأصلي للبناية المعنية يعود إلى المصمم السويسري الشهير لوكوربوزيي، وهي البناية التي اتخذها جزء من الجيش الأميركي مقراً له كما بينت صور المعرض.

مسار هذا الجانب من المعرض (والذي ظهر معرضاً منفصلاً عن جانب تاريخ العراق القديم) يظهر انطلاق أشغال قاعة الرياضات تحت شعار إعطاء الرياضة الأهمية اللازمة لتكوين شباب البلد صحياً قبل سجن مصممها جادرجي الذي قضى سنوات حبسه يقرأ النسخ المصورة من الصحف والمجلات التي كانت تسربها زوجته داخل أطباق الأكل، كما جاء في تعليق تحت البناية التي احتلت حيزاً كبيراً، وألف جادرجي داخل السجن ثلاثة كتب في صلب تخصصه وإنجازاته. تحديث بغداد كلف استناداً للمعرض أكثر من 7 مليارات دولار لم تذهب كلها لتعميرها ببنايات فخمة وخصص جزء منها لتعظيم صدام في جداريات وتماثيل ونصب تذكارية ومن بينها جدارية ظهوره بلباس عسكري يتلقى نخلة من الملك نابوشودوسور!. وبغداد العظمة غزت الكويت قبل أن يغزوها الأميركان ويشنق صدام الذي تحداهم سابحاً ومكذباً مزاعم تدهور صحته. فصول تطور الوضع توقفت عند 2015، تاريخ تغيير اسم قاعة الرياضات من قاعة صدام حسين إلى قاعة بغداد بعد عرض خريطة انفجارات السيارات الملغمة انطلاقاً من تاريخ الغزو الأميركي وصولاً إلى داعش. والملاحظ عن هذه الفترة عدم عرضها بالقدر الكافي لسبب يمكن فهمه!.

بغض النظر عن الخلل الذي سجلناه فنياً عن المعرض، استناداً لجانبيه المنفصلين بشكل تعسفي، يبقى حدثا ثقافيا متميزا، ويستحق أن يعرض في أماكن ثقافية فرنسية أخرى يتردد عليها محبو الفنون والحضارات، خلافاً لمعهد ثقافات الإسلام الذي يخيف الكثير من الفرنسيين النخبويين وغير النخبويين بحكم طبيعة تواجده الجغرافي في باريس أصقاع العرب والسود السفلى!

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.