}

مسرحية "كحل عربي" وأحوالنا

عمار ديوب عمار ديوب 16 مايو 2018
مسرح مسرحية "كحل عربي" وأحوالنا
عرض من العمل المسرحي/ صورة سانا

مسرحية "كحل عربي"، ربما يوحي الاسم بأنّها ستتمحور حول قضايا نسائية، والمظالم التي تطاول النساء. أبداً. هذه المسرحية تدور أفكارها حول نتائج كارثة الحرب والقتل والضياع والوحدة. تتحدث عن امرأة قَتلتِ الحرب أسرتها، وصارت وحيدة إلا من أشياء منزلها. تتحدث عن خذلان الحب وليس الأمل بالزواج فقط. الحب كحالة تآلف جميلة بين شخصين وفعل اختياري بينهما، ولكنه ينتهي حالما تُفض البكارة، فينتقل الرجل إلى امرأة أخرى والأولى إلى وحدتها المؤلمة.

كحل عربي هي عمل مونودراما، تبدأ ممثلته الوحيدة "روجينا رحمون" برسم ثلاث لوحات، وتفعل بذلك وهي بحالةٍ بين الهلوسة والتعقل. تتضمن الثالثة من لوحاتها، طفلاً مرفوضاً من قبلها، فتضع إشارة ضربٍ عليه بعد أن تعلق اللوحة على الجدار وكأنّه رمحٌ ليقتله! فأية حياة هذه التي كلّها مآسٍ ستكون لطفلٍ تركه أبوه قبل أن يتشكل كبويضة مكتملة الأعضاء. نعم، فليس من حبٍ يستمر، وليس من أهلٍ باقين، والحرب لا تتوقف، ولم يبق من خيارٍ آخر إلّا الرحيل. الخيار الأخير هو ما تُنهي به المخرجة "سوزان علي" مسرحيتها. إنها لحظة مؤلمة، حيث لم تعد هناك أية مبررات للاستمرار، وبالتالي هناك خيار وحيد وهو الرحيل؛ هنا تتعالى كل الأصوات التي رافقت زمن المسرحية "ثلاثة أرباع الساعة" وكأن الأمر يتضمن إعلان نهاية كل الحياة السابقة، والتأهب لحياة جديدة في بلد آخر.

بسؤالي للمخرجة عن سبب عرضها في غاليري مصطفى علي، في 2 و3 و4 مايو/ أيار 2018، في دمشق القديمة، ردّت بأن كل محاولاتها للعرض في مسارح الدولة فشلت بسبب البيروقراطية وربما الكيدية، وبالتالي لم يكن أمامها إلا أن تختار صالة للفن، تعرض فيها مسرحيتها؛ هنا يصبح على الشاعرة أن تعدّ مسرحها الخاص، وهو ما فعلته. الأمر معقد للغاية، وبالتالي أصبحت أمامها أعمال كثيرة؛ متابعة البروفات مع الممثلة، صناعة الديكور وتحديد مكانه على المسرح، ومتابعة شؤون الإضاءة والصوت؛ وبكلمة واحدة قامت المخرجة بخلق مسرح لمسرحيتها. كحل عربي أول عمل لكاتبة النص ومخرجته. خيارها زادها دفعاً لمتابعة عملها.

تنتقل الممثلة عبر أفعال متعددة، وترافق ذلك حالات انفعالية كثيرة، وتتغير مراراً بين لحظة وأخرى. فهناك الرقص والضحك والبكاء والحوار. تنتقل بين عناصر ديكورها: التلفزيون، المرأة، الخزانة، ماسورة المنزل المعطلة والتي تخرج منها الماء بين فينة وأخرى، وهناك السرير، وغطاء الدانتيل الذي يحجبه، وأيضاً الكرسي والطاولة والجدار؛ ولا تنسى أن تضع قبضات حقائب على الطاولة والكرسي كإعلانٍ مبكرٍ لخيار الرحيل، ومن الديكور حذاء نسائي أحمر، يتغير موقعه وقد وضعته كجزء من بروشور العمل أيضاً.

موسيقى العرض تتغير بدورها تباعاً، بين الراقصة المحبة، والنادبة حينما يزول غشاء البكارة ويهجرها الحبيب، وهناك الأغاني العاطفية والمرافقة لصوت الأبراج. صوت ماسورة المياه المعطلة أو التلفاز الذي يشوش دائماً، هما عنصران أساسيان في الديكور؛ وهما بمثابة أشخاص آخرين، تتحاور ممثلة العرض معهم تارةً وتارةً أخرى يعلو صوتهما، ولكن بلا حوار. أشياء الديكور، تؤنسنها المخرجة، وتُحدثها الممثلة، وهي تسرد معاناتها وحياة مجتمعها، ريثما تَعِدُّ أغراضها ونفسها ويأتي صوت السيارة معلناً لحظة الرحيل.

على الطاولة كنزة قديمة، تفكُ الممثلة خيطانها، وتحادث التلفاز، وتتذكر حقبة قديمة، حينما كان زمن "الانتيل" البسيط وتمثل لنا بحركات كيفية توليف القنوات حينها "إلى اليمين، إلى اليسار" وذلك لتعيير "تظبيط" الانتيل ليأتي بالقنوات الجنسية. الحقيقة أن السوريين كانت تستهويهم ثلاثة أنواعٍ من القنوات: الجنس والسياسة والدين، ولا تزال، ولكل منها جمهوره، والذي بدوره يتنقل بين كل هذه القنوات، والحمد والشكر! تستعيد ممثلتنا بحواراتها تاريخاً قديماً لعلاقات المرأة بالرجل وكذلك لحياة المجتمع حينها. ولكن التلفاز في العرض هو أداة لسرد المخرجة مأساتها، وهنا سنلاحظ أن حديثها مع أدوات الديكور أقرب للهذيان والجنون. ربما تريد المخرجة القول، إن حياتنا جنون بجنون، وكل عودة إلى العقل ستدفعنا للرحيل. الرحيل واللجوء بكل الأحوال أصبحا الشغل الشاغل للسوريين. المسرحية بذلك تبتعد من الوقوع بمطب النسوية وتجاهل المشكلات المجتمعية كمشكلات عامة ويتضرر منها الجميع؛ فالرحيل لا يتم لمظالم نسائية فقط بل لأن الحرب قضت على كل الأحلام، فلماذا البقاء من أصله في بلدٍ تتفكك فيه كل العُرى ويصبح الفرد فيه وحيداً عارياً ويعاني!

مشهدٌ آخرٌ، يتناول قضية الحب؛ الممثلة تشعر بالسعادة فتعلو الابتسامة وجهها، حينما تسمع قبلات غادرت شفتيها من زمن بعيدٍ في الشقة التي سُكنت أخيراً، ولكن ذلك يتغير بعد قليل حينما تبكي جارتها الجديدة، فيقتحمها الحزن الشديد كما هي حالتها الدائمة منذ فشِلَ حبها. هنا ترشح الماسورة الماء، فتحدثها وكأنها سيدة لئيمة، لا تريد لها إلا الحزن والتعاسة. الماسورة هذه تتأنسن بدورها؛ فالمخرجة توظفها لتعبر عن معاناة المرأة؛ فوالدها تركها معطلةً وذلك لتتحدث معها بوحدتها ولتشغل وقتها، والذي أصبح كابوساً. المفجع حقاً، أن هذه الوحدة تعكس وتلتهم حياة غالبية السوريين، حيث تدهورت العلاقات الاجتماعية بشكل شبه كلي، وانكفأت الذات على الذات، وأحد المخارج الوهمية للانكفاء هو الهجرة ونسيان الماضي.

ما يلفت الانتباه أن المخرجة تتكلم بجرأة عن علاقة الحب، وعن الخيبة فيها، ولكنها لا تصوّر الممثلة المُحبة ضعيفةً؛ فالمرأة يجب أن تكون قوية وتدافع عن خياراتها، فهي تجاهر بقطعة قماشٍ بيضاء وعليها بقعة حمراء، لتقول إن هذه الدماء ليست مشكلة أبداً. رغم حزنها عليها، فإن المشكلة الحقيقية تكمن في فقدان الحب؛ الحب الذي تقول إنّه يُوقف الحرب، وربما أرادت القول إن ذلك ما هو إلا وهم كامل. تُمسك الممثلة قطعة القماش وحينها نستمع لأغنية حزينة، وتتحرك حاملة إياها وتضعها على رأسها وصدرها وتقف أمام الجمهور لبضع دقائق. ربما تريد المخرجة القول: إن هذه الدماء هي مجرد شيءٍ مادي تفقده المرأة، فلماذا كل هذا الضجيج وتحويله إلى مرجعيةٍ للشرف الأخلاقي ولتقييم المرأة من خلاله، أعاهرة هي أم قديسة، والتقييم يطاول الأسرة كذلك، فمن لا يصون البكارة هو منحط وساقط وملطشة لكل من هب ودب، ويُقاطع من المجتمع المتخوم قيماً ومثلاً وأخلاقاً! إذاً غشاء البكارة هذا ليس بشرف أبداً، إنه مجرد قطعة لحمية، ولكن تظل المشكلة الحقيقية بغياب الحب. الرؤية هذه تفتح نقاشاً بين السوريين: لماذا لا يدافعون عن حقوق المرأة بعيداً من هذه الحكاية، وكذلك لماذا لا تجاهر المرأة بحقوقها ما دامت تفعل ذلك من أجل الحب، لماذا لا تعتبر ذلك حقاً من حقوقها الشخصية؛ طبعاً الحق بالجنس والتمتع بالجسد هو من حقوق الإنسان، ولكن ذلك ما زال مرفوضاً بشكل علني، ويمارس بشكل خفي. ما تقدم يَحجزُ للمرأة موقعاً متدنياً في المجتمع إضافةً لاحتمال القتل حينما تعرف الأسرة المتخلفة بذلك.

الحب الذي فقدته الممثلة بسب خيانة الحبيب لها مع فتاة ثانية كان أمراً مدمراً لها. فهو يتضمن الإنجاب، ويتضمن الأحلام بحياةٍ مستقرة، وهنا تصرخ وتبكي وتضرب بطنها مراراً في مشهد مأسوي. قبل ذلك، تظهر الممثلة حاملةً فستاناً أحمر، وهي تقف في خزانتها وتخرجه ببطءٍ على يديها، بعد ذلك ترتديه وتسرد لنا، متى اشترته مع حبيبها ووعده لها بزيارة عائلتها، وأنها سترتديه لتلك المناسبة. هي تبكي الأحلام أكثر مما تبكي الحبيب.

هناك صور جمالية تتمسرح أمامنا، كلحظة لبس السكربينة، والقول إن السكربينة امرأة، وطريقة خلعها كذلك، والرقص بها؛ ربما تريد المخرجة القول، يجب على النساء أن يتجملن دائماً، وألا يتجاهلن ذلك في أي مرحلة من حياتهن ولو وصلن إلى عمرٍ عتيٍّ. وكذلك حينما تستلقي على السرير وهي بحالة جلوس إلى الجدار أو استلقاءً على جنبها ومدّ قدمها خارج السرير بصورةٍ فيها الكثير من الإغراء. الجمال هنا أن كل ذلك يتم خلف ستارةٍ من الدانتيل؛ هنا نصبح أمام عرض سينمائي أكثر منه مسرحي؛ الأمر ذاته يتكرّر مع الماسورة حينما تَرشح ماءها كل بضع دقائق.

لا أعلم بدقة لماذا اختارت الكاتبة اسم "كحل عربي" لمسرحيتها. فالكحل الذي وضعته مع أحمر الشفاه بأحد المشاهد لم يكن لإظهار جمالية الكحل والعيون والشفاه، بل لتشويه وظيفته هذه ولا سيما بعد حدوث خيبات الحب وخيانة المحبوب واستمرار الحرب، أي استمرار الموت والخسارة والفقدان. جملة "الحب يوقف الحرب" التي قالتها الممثلة انتهت بدورها حينما يهرب المحبوب إلى امرأة أخرى وتصبح هي وحيدة. الوحدة صفة لكل عناصر الديكور أيضاً، وهو ما تكرّره الممثلة مراراً. الفكرة الأخيرة هذه، تؤنسن الأشياء وتفككها بآن واحد، حيث كل واحدة مكتفية بذاتها كما البشر تماماً حينما يتفكك مجتمعهم.

تثير المسرحية قضايا كثيرة، حاولتُ أعلاه توضيح بعضها، ولن أسهب في الأسباب البيروقراطية ورفض إدارة المسارح إعطاء المخرجة الإذن بعرضها، وهو يعبّر عن فشل إداري كامل للدولة. أخطر تلك القضايا تفكك العلاقات الاجتماعية وغياب أية بيئات اجتماعية حاضنة، بل هناك غياب كامل لمفهوم الدولة الضامنة الحقوق؛ الرحيل كخياٍر وحيد لكل المشكلات، تبناه سوريون كثر، ومن كل المدن والملل والمواقف السياسية والاجتماعية، وبدرجات مختلفة بالتأكيد.

 أن يكون الرحيل هو الحل، فهذا يعني أن هناك دماراً خطيراً، وهو دمار يتجاوز الأرض والبشر والحجر، وكل المسائل التي تجعل المرء يتمسك ببلاده. المسرحية مقاربة لمأساة السوريين التي ليس من أفقٍ قريبٍ لحلها، وكل الحلول المطروحة تتجاهل الكثير مما يعيد تشكيل مجتمع معافى من المشكلات الأولية والقديمة، أي العائلية والعشائرية والمناطقية، والتي تقدمت على أية هويةٍ لتعريف الذات في السنوات الأخيرة.

 

 

 

مقالات اخرى للكاتب

اجتماع
8 سبتمبر 2015

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.