}

لَسعد مطوي في "الريشة الثّملة": خطٌّ يترنّح بين الشرق والغرب

نجيب مبارك 10 مايو 2018

يستضيف معهد العالم العربي بباريس، من شهر أبريل/نيسان حتى نهاية سبتمبر/أيلول 2018، معرضاً كبيراً للفنّان/الخطّاط التونسي الأصل لَسعد مِطوي، المقيم في مدينة نانت الفرنسية، وهو يضمّ 135 عملاً فنياً جديداً يستلهم فنّ الخطّ العربي-الإسلامي والفنّ الغربي الحديث. ويقدّم المعرض، الّذي يحمل عنوان "الريشة الثملة"، من خلال لوحات ورسومات وأعمال كولاج، نظرةً عن تطوّر المسار التشكيلي للسعد مطوي، بين الماضي والحاضر، بين فنّ الخطّ والرسم، وبين تأثير الشّرق والغرب، وهو مسار مطبوع ب"الثّمالة الشعرية"، التي يعكسها أسلوبه الفريد الّذي يمزج الرسم بالخطّ، هذا الفن العتيق الّذي انطلقت منه مغامرته التشكيلية، قبل أن يقوم بتطويره ليصير فنّاً عصريّاً عابراً للثقافات.


حوار بين الشرق والغرب

بدأ لسعد مطوي، المولود عام 1963، ممارسة فنّ الخطّ العربي منذ طفولته، على رمال الصحراء في قلب واحة قابس بتونس، لكنه سرعان ما تعهّد موهبته بالدراسة والتكوين الأكاديمي في معاهد الفنّ، سواء في تونس أو في مدينة نانت الفرنسية، كما تأثّر في مساره برسّامين غربيين، مثل بيكاسو، ماتيس، دولاكروا، بول كلي وجياكوميتي وغيرهم. وهو لا يخفي طموحه في أن يكون صلة وصل بين الثقافتين الشرقية والغربية، كما لو أنّه يحاول نسيان وقائع الراهن الحارقة إلى حين. يقول إريك دولبون، محافظ معهد العالم العربي عن أعماله: "لقد خلق فضاء متفائلاً، يذكّرنا بأنّ العالم جميل". ذلك لأنّ لسعد مطوي "فنّان متدفّق، قنّاص أضواء، ناسكٌ يغرف من الضّوء الخافت لورشته صلواتٍ من أجل عالم أفضل"، حسب وصف صديقه الكاتب الجزائري ياسمينة خضرا. أمّا الكاتب الفرنسي دفيد فوينكينوس فقال عنه: "إنّ وجوده بالكامل يبدو لي حواراً بين الأرضي والسماوي". وهو في سبيل ذلك، لم يدخر جهداً في صقل روحه بالتأمّل والحوار مع الطبيعة. ونجد في أعماله استلهاماً لجذور الفن الإسلامي وأصداء من أعمال الفنانين الاستشراقيين على حدّ سواء. وباعتباره فنّاناً متعدّداً، فقد أنجز أيضاً أغلفة ورسومات عدد كبير من كتب لمؤلّفين كثر، مثل: جبران خليل جبران، أميلي نوتومب، ألان راي، عمر الخيام، جاك سالومي...وأعماله معروضة في متاحف مختلفة، منها المتحف البريطاني، مركز جورج بومبيدو، ومتحف باردو بتونس، وهي تجول في مناطق كثيرة من العالم.


تأثير دولاكروا، ماتيس، بيكاسو وكاندنسكي

نعلم مدى التّأثير العميق للمغرب على أعمال دولاكروا، الّذي زاره سنة 1832، وهو ما لفت انتباه الفنّان لسعد مطوي الّذي يعترف في حوار سابق بأنّه عند كلّ زيارة لأعمال دولاكروا المعروضة في متحف اللّوفر يقوم بنسخ خطّ أو انثناءة خطّية، أو ينقل تفصيلاً صغيراً، أو  يكتشف لوناً جديداً. وهذه الملاحظة الدّقيقة تغذّي خياله على المستوى المرئي والروحي، لكنّها بعيدة كلّ البعد عن أيّ محاولة للتقليد. كما لا يخفي مطوي إعجابه الشّديد بهنري ماتيس، الّذي تأثّرت لوحاته بمشاهد رحلته إلى الجزائر وطنجة، وهو يعود إليها أحياناً عندما يتعلّق الأمر باستخدام قلم القصب أو الفرشاة الكبيرة من أجل منح الخطّ الأسود معنىً يؤطّر أو يحرّر الفضاء الأبيض. ويظهر تأثير بيكاسو بجلاء في القدرة على التّساؤل الدّائم حول شكل ومحتوى العمل الفنّي، وعن استكشاف أشكال جديدة من دون خشية وقوع الأسلوب في انقطاعات مباغتة، قد تكون مع ذلك غنيّة ومتجدّدة، مثلما حصل مع "مراحل" بيكاسو المتتالية. أمّا بالنسبة لكاندنسكي، فإنّ أهم درس تعلّمه منه هو أنّ الرّسم يقود إلى النّظرية وليس العكس. ونذكر أنّ كاندنسكي أصدر في باوهاوس، سنة 1926، كتابه "خط أحمر، سطح"، وهو عنوان يبدو أنّه يحيل أو يعيد الاعتبار لفنّ الخطّ، ومنه استلهم مطوي الكثير من الأفكار حول أهمّية الأشكال مثل المربّعات، المثلّثات والدوائر، وأيضاً حول سعيه نحو الاستبطان الرّوحي.





وجوه الفنان: من ولادة الأشكال إلى التعدّد

يعكس هذا المعرض المهمّ وجوه لسعد مطوي المتعدّدة، تلك التي تقلّب بينها مساره الفنيّ الغنيّ، بدءا من مرحلة "ولادة الأشكال"، الّتي تعدّ جزءا أساسيّاً من الأعمال المعروضة. ويتعلّق الأمر بعمل تمّ إنجازه عام 2014، ويمثّل تطوّراً هاماً في مسيرة الفنان، سواء من جهة اللّمسة، أو حركات الخطوط وتوازن الفضاء. وفي بعض اللوحات، نلاحظ أشكالاً تعود إلى يد بيكاسو، كما ظهرت في فيلم كلوزو "لغز بيكاسو". ولقد اكتشف مطوي إبداع بيكاسو المصمِّم، وذكر ذلك في دفاتر أسفاره، الّتي تعدّ أداة عمل تحضيري قبل إنجاز اللّوحات، حيث قام بتحويل الفضاء الداخلي لكلّ لوحة، مستلهماً من بيكاسو، مع إضافة لطخات متحرّكة. وفي مجموعة لوحات "مانيفستو"، قام مطوي بتجريب أشكال هندسية -خطوط، ومثلّثات. وهو حقل تجريبيّ جديد أضاف فيه الأشكال الرياضية إلى عمله. وهذه الأشكال تترجم مفهومه عن "الأبجدية الهندسية" الّتي هي جزء من كلٍّ شامل يسمّيه "الأبجدية التشكيلية". ولا يخفي مطوي أنّه يعشق الأشكال الهندسية الّتي نجدها في الكتب العربية القديمة لكبار علماء الرياضيات. وبالنّسبة إليه، فهؤلاء الرياضيون هم فنانون أيضاً: لأنّ لديهم أسلوبا جسديا في رسم العلامات قريبا من فنّ الخطّ.

أمّا بالنسبة لسلسلة لوحات "التعدّد"، فقد سمّاها كذاك حين شرع في الرّسم، وكان يصنع بنفسه الرّيشات الّتي لم يكن قادراً على شرائها. وهناك اكتشف أنّه من أجل صناعة ريشة واحدة، يتطلّب الأمر مئات، بل آلاف الشعيرات، ومن هنا جاءت تسميّة "التعدّد". وهو أمرٌ لاحظه أيضاً خلال سفر له إلى الصين، حين شاهد ازدحام الخارجين من باب محطّة ميترو، كما لو أنها منملة عجيبة لكن بعناصر مضاعفة. وهذا التعدّد يساهم أيضاً في استعادة طفولته: حين كان يساعد جدّته في صناعة السجّاد باستخدام خيوط كرات الصوف ذات الألوان المتعدّدة.


من الخطّ إلى العطر والصحراء

في تجربة "الخطوط الكلاسيكية"، وهي خلاصة بحثٍ طويل في قسم الفنون الإسلامية بمتحف اللّوفر، يقوم الفنّان بما يشبه محاورة هذه الأعمال القديمة. لقد قام لفترة طويلة بتدوين ملاحظات في دفاتر أسفاره حول أساليب فنّانين من فترات مختلفة. وهو حوار انتهى بإنجاز كولاج للأشكال الإسلامية القديمة -سيراميك، تزيينات هندسية على النسيج...- مستخدماً حساسيته الفنّية الخاصّة نحو الخطّ العربي الكلاسيكي، الّذي يحظى بمكانة عظمى في الثّقافة الإسلامية.



وبالوصول إلى سلسلة "العطر"، يكون مطوي قد قام بتطوير "أبجدية نباتية". فهو يعترف أنه كان يزور لفترة طويلة الحدائق والمتنزهات عبر العالم، كما لو أنّه في سعي نحو تعميق بحثٍ نباتي. وهدفه كان تطوير هذه الأبجدية من أجل إدخال عناصر جديدة في عمله، كأنّه كان يريد أو يطمح إلى "رسم" العطر، كما يقول. ولكي يحقّق ذلك، تأمّل طويلاً في محاولات الرّسامين القدامى. فمثلاً، كان الرسّامون الآسيويون يتخيّلون هذه العملية، الأقرب إلى الفلسفة، من خلال رسم مورفولوجيا الأزهار، وربطها بالألوان... وفي هذه السلسلة، استلهم مطوي كثيراً من الجانب التخطيطيّ المستخلص من الزهرة: ليس فقط من شكلها الخارجي وإنّما أيضاً من جذورها وعطرها.

وأخيراً، في سلسلة "صحراء"، يقوم لسعد مطوي بابتكار ما يسمّيه "أبجدية بدائيّة". فهو باعتباره طفلاً جاء من الصحراء، وعاش طفولته على أبوابها في تونس، سبق له أن قام بزيارة منطقة "مطماطة"، حيث نام هناك في المغارات. وحسب رأيه، فإنّ العيش في الصحراء هو أقرب للحياة البدائيّة، المحاطة بمشاهد جغرافية قاسية ورائعة. وقد كانت هذه السلسلة، الّتي عُرضت قبل سنوات، ثمرة لقاء الفنان مع الكاتب الجزائري ياسمينة خضرا، الّذي بدوره ينحدر من الصحراء، حيث امتدّ النقاش والتأملات بينهما سبع سنوات، انتهت بإصدار كتاب جميل بعنوان "ما يدين به السّرابُ للواحة"، وهو حوار عميق بين طفلين قادمين من الصحراء.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.