}

بائع العلكة "مسرحية من فصل واحد"

أحمد النسور 13 أبريل 2018
مسرح بائع العلكة "مسرحية من فصل واحد"
كلودياد

يدخلُ شخص بملابس رثّة إلى خشبة المسرح ويجلس على كرسيٍ - هناك إضاءة خفيفة - ويُحدّقُ في جمهورٍ مفترض ويتمتم، لكننا لا نسمع همهماته بشكل جيد. تتساوق - سمعيًا فقط - كلمات قليلة مثل في الواقع... حقيقةً أنّ... لكنّ. شخصٌ يحدث نفسه غير آبهٍ بالجمهور. يٍمدّد ذراعيه على متكأي المقعد الخشبي بكل أنفة كما لو كان كلوديا كاردينالي في رائعة فيسكونتي Il Gattopardo، حيث تتقمص ابنة تونس دور ملكة صقلية، بالضبط. يومان مضيا لإتقان الجميلة الفلاحة الإيطالية التونسية سِرّ أن تفرد جميلتنا ذراعيها كأميرة وعبر زُعاق المخرج للجميلة كلوديا كاردينالي.. لكن صاحبنا جلس على المقعد الخشبي بكل ثقة. مدّد يديه وحدّق في جمهور المسرح كإمبراطور غير آبه.

يدخلُ شخص، ومن ملابسه نعرف أنه ممثل.. يصرخ بالجالس: ماذا تفعل هنا؟ من أنت؟ 

يضحك ويجيبه: اسمع. أنا بائع العلكة والفوشار على باب المسرح. مخرجكم كان يمر كل مساء لتدريب الممثلين ويشتري علكة لتحسين أنفاسه وهو يصرخ بكم.

- لكنك لم تجبني ماذا تفعل هنا على الخشبة؟

- أنا أستمتعُ بالظلام وببعض إضاءتكم الخافتة.

- كيف تسمح لنفسك بهذا؟ أنت لا تراعي خصوصية البشر.

- هيه... هيه... نحن لسنا على الفيسبوك يا صغيري.

- بائع علكة وتتفلسف؟

- وأنت؟ ماذا تبيع بالضبط؟

صمت...

- مثل كل من يعتقدون أنفسهم ممثلين، وما هم سوى كومبارس... كممثلي النقابات والعشائر السياسية وكل قائمة ماتت وقائمة تموت؟

....

يذهب الممثل ويضغط على زر إضاءة، فنرى بوضوح الشخصين رغم شر الإضاءة. نرى، بوضوح، علامات قلق غير شرير على وجه الممثل وشموخ على ملامح بائع العلكة.

- لكن كيف تسمح لنفسك بشُغل هذا الكرسي الذي هو من حق الممثلة الرئيسية؟

- ليس هناك أبدًا من ممثل أو ممثلة رئيسية. ليس فقط في المسرح بل بكافة فروع الفن والحياة... كُلنا كومبارس يا صغيري. نحن بيادق على رقعة شطرنج قاسية.

- عفوًا عفوًا، بعد لهِاث مُتردد، كيف تُفسر كلامك المُتقن ولغتك الفصيحة وهذا الترميز في أقوالك والتفلسف المجاني... هل أنت مُخبِر؟؟

- ربما...

هنا يدخل المخرج لخشبة المسرح. يُحدق ببائع العلكة ثم يصيح: آه صديقي، بائع المضغ، ويُقلد صوت مضغ العلكة. الذي علكتك الرائعة تزيل رائحة الفم الكريهة من مشروبات وطعام...

- نعم هذا أنا.... وأشكر لطفك... ينحني بأداء تبجيل مسرحي دون مغادرة المقعد... نعم هذا أنا وأشكر لُطفك كونك الوحيد الذي كانَ يُحييني بالسلام عكس طاقم الكومبارس... شُكرًا يا ساحب خيوط النفاق.

- إنهم ممثلون يا حجي.

- ربما، كل ممثل هو كومبارس بالطبع... وأنت المخرج؟؟؟ ينظر للمخرج بمكر. المتواجدون على المسرح يبدأون بإحضار كراس ويصفونها أمام كرسي البائع، ويدخل بعدها عددٌ من الممثلين، أحدهم بلباس وهيئة مُهرج، وتتسع الحلقة حيث ممثلو المسرحية أصبحوا جمهور متفرجين. المخرج كمن فهم الإشارة يبدو في حيرة:

-  مُخرج...؟؟

- نعم، ويحدق به بعمق، يصطفُ تحت إمرته كومبارس وممثلون فاشلون، شيوخ عشائر سياسية، نوابٌ، بنوك، مسؤولون أميون ومرتشون..

ينزعج المخرج وبغضب شديد يصرخ:

- يبدو أنك نسيت عشر سنين في السجن.

- لا ولن...

- لكنك الآن مجرد بائع علكة.

- وسعيدٌ بهذا بعد رفضهم توظيفي. أدور في الجبال وعندي توقيتٌ عملي جدًا. أذهب في مواقيت مُحددة أمام عروض السينما في انتظار دخول وخروج النظّارة، وخلال العرض أقرأ ما يتيسر من الصفحات... هنا يعلو صوته: ألسنا من أُمة اقرأ؟؟؟ أكتبُ كون حياتي عظيمة اشتريتها بفائض جهدي وأحلامي، أنا أُخرجها كما أُريد... أنا مُخرج حياتي. 

تدخل سيدة جميلة وتُحدق في يدين واثقتين تتمددان بنُبلٍ على المسندين... في عُمق المسرح هُناك شاشة تعرض مشهدًا من فيلم فيسكونتي وحيث تتمدد يدا كلوديا كاردينالي على الأرائك بملوكية وشموخ والمشهد أخذ من فيسكونتي ثلاثة أيام لتدريب هذه التونسية الجلفة، كما يصرح فيسكونتي، وليحصده بلقطة قصيرة فاتنة. تنظر الممثلة للمشهد ثم تنظر ليدي بائع العلكة وتبدأ بالصراخ:

- ما هذا؟؟ من أنت، بل من أنتم؟ وأنت زوجي ماذا تفعل على الخشبة ولم تبق سوى دقائق على بداية العرض. ومن هذا المعتوه على كُرسيي؟

يتحير المخرج، يذهب، بأداء تمثيلي، يسارا يمينا للأمام ثم للخلف ثم ينحني أمام زوجته ويقبل بأداء تمثيلي - فروسي كلتا يديها:

-  لقد رُفعت الستارة منذ وقت قديم أيتها السيدة.

- لقد فتحوها بمجرد خروجنا إلى الدنيا.

يتدخل المخرج: هذه زوجتي بطلة المسرحية. بعد تردد وصمت: إنها تبدأها ومن هذا الكرسي بالتذكر أو الاستذكار، من هذا الكرسي الذي تجلس عليه...

الضوء يجعل الكرسي واضحًا وعرض الفيديو يتواصل لكلوديا كاردينالي....

- الاستذكار؟؟ لكنها صبية وناعمة ولا يبدو أنها عانت من عدم توفرِ شيء. لا فقدان ولا دراما حياتية.. عاشت في العز وأكل الرز والآن تُمثلُ الفقيرة لوجه الله وأنت تتلو الخيوط...؟؟؟

- لكنها تمثيلية يا بائع العلكة. هي تؤدي دورًا... لا تتذكر حياتها الخاصة ولا التاريخ.... أنت في وادٍ آخر غير ذي زرع، ومسحوق بتأملات مثالية، ولم تفهم حقيقة صيرورة الأشياء. هل تفهم صيرورة الأشياء يا راعي العلكة؟ رغم قراءتك عشرات الكتب في سجنك... بانتظار عروض سينما لم تشاهدها...

- هاها... بل شاهدتها. كنت أشاهد أول عرض وفي العروض اللاحقة أنكّبُ على قراءة كُتبي..

- لقد خرج للعلن المُخبر الذي فيك.. كنت تراقبني أنا عبد الله الفقير وأنا أترزق من الفن وأنت تُخرج العفن الذي فيك...

هُنا يظهر جزء من جمهور المسرح - الحقيقي أ - بعضهم مُستغرقٌ في التفكير، بعضهم يحُك رأسه مُتسائلًا، وفي الصف الأخير شخوص يفردون الجرائد في محاولات لحل الكلمات المتقاطعة ويسألون بعضهم.. حل بعض المتقاطعات بهمسٍ شفيف...

 

الكرسي أو بائع العلكة

 

بعد صُراخ الممثلة يسقط المخرج على الأرض...

كان صرخ أنْ أغلق فمك ووضع يديه على أذنيه.. نستطيع استعادتها بتمرين بطيء Slow Motion.

يضع يديه على أذنيه ويسقطُ أرضًا كي لا يسمع..

الجمهور الحقيقي مُتحيرّ: هل هي مسرحية أم أن هناك خطأ ما؟ 

أتابعنا المسرحية في الصالة الخطأ؟؟ تنهض مراهقة فتصيح: نحن في الصالة الخطأ. في المدخل هُناك صالتان واحدة لمسرحية الكرسي بعنوانها المُهيب وثانية لبائع العلكة بعنوانها الحقير.. لقد أخطأنا الصالة، عليهم إعادة نقودنا أو السماح لنا بالذهاب لمشاهدة المسرحية...

يقف المخرج ويعتذر قائلًا: لكم ما أردتم... ها هي المسرحية الأخرى. 

ينفتح نصف المسرح، وإذ بالمسرحية نفسها تتوالى على الشطر الثاني.

 

الكرسي

 

نسمع موسيقى خفيفة وترتفع إضاءة أيضًا خافتة. نستعيد المشهد الأول:

على الكرسي الخشبي العتيد، تتكشفُ يدان فائقتان على المسندين.

في عمق المسرح فيديو لكلوديا كاردينالي وهي تتمدّد بكلتا يديها ملكةً كابرًا عن كابر.. منظر من فيلم فيسكونتي الفهد. 

  - تألم وعانى فيسكونتي ثلاثة أيام وهو يحاول مع كلوديا كاردينالي وضع يديها بطريقة تليق بأميرة صقلية، كانت وصلت حديثًا من تونس كملكة لجمالها. من عملوا معه في الفيلم كانوا يرددون قوله وهو غاضب، لقد بلاني ربي بفلاحة تونسية جميلة..

الكرسي كما في المشهد الأول

- أنت تعرف كل حياتي. طيب. ماذا نفعك تتبّعي؟ والتلصص على حياتي الخاصة؟ لدي كمبيوتري وحساباتي الوهمية و...

هنا يقاطعه المخرج:

- أنا أصف ما أرى ككاتب ومخرج...

- كاتب؟؟ وماذا تكتب أيها العكروت؟؟؟

- أكتب ما أرى وأُدلي بدلوٍ حباله طويلة..

-  كما كلماتك فتقاريرك طويلة...

- وأطول مما تعتقد... هل نسيت أني كاتتبببببب ومُخررررررج؟؟؟

-  ألا تخجل وقد نجح أعداؤك من المخرجين في النقابة في عرض حالك على الخشبة. لقد أخطأت في الخشبة... حين فتحت ستارة النصف الآخر فقد كانت بروفة المسرحية. الستارة مُغلقة بعد دقيقتين من فتحها. أما هنا فأنت فوق خشبة حقيقية وجمهور حقيقي.

يبدأ هنا الجمهور بالصفير والزعيق.

- ها ها. اسمع أنا المخرج لا أنت.

يُمدّد بائع العلكة قدميه وتحتفظ يداه بكل الأُبهة

- لقد أفسدت كل شيء يا بائع العلكة. كنا نود عرض الفقر ومعاناة الناس.. كنا...

تهجم الممثلة على الكرسي وتحاول سحبه. يشتد الصراع بين بائع العلكة والممثلة. يقف الممثلون صائحين بصوت واحد تقريبًا: إنه كرسينا نحن كبار البلد.. يتنازعون الكرسي وكل يشد قطعة منه.

تتعالى أصوات النظارة مختلطة. بعضهم يصيح هذا كرسينا وآخرون هذه ليست مسرحية.. أعيدوا نقودنا...

*أحمد النسور شاعر أردني رحل في شباط/ فبراير الفائت، وهذا نص مسرحي له لم ينشر من قبل. 

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.