}

المخرج أولاً: "الاسم فوق العنوان"

نديم جرجوره نديم جرجوره 27 أبريل 2018
سينما المخرج أولاً: "الاسم فوق العنوان"
المخرج الفرنسي جان لوك غودار (غيتي)

في كتابه الأخير، "القاموس النقدي للمخرجين" ـ وهو جزء ثان من سلسلة "السينما والمجتمع في العالم العربي"، ("مركز دراسات الوحدة العربية"، بيروت، الطبعة الأولى، 2018) ـ يطرح الناقد السينمائي اللبناني إبراهيم العريس (1946) مسألة أساسية، تتمثّل بأولوية المخرج في صناعة الفيلم. المسـألة متأتية من مقولة للسينمائي الأميركي فرانك كابرا (1897 ــ 1991)، يجعلها عنوانًا لمذكّراته: "الاسم فوق العنوان" (1985). الكتاب الأميركي أشبه بسيرة. الناقد اللبناني يختار منه ما يُمكّنه من قراءة سِيَر مخرجات ومخرجين عرب (174 سينمائيًا عربيًا)، تعرفهم السينما العربية في مراحل مختلفة، ودول عديدة.

في المقدّمة، يصف السينمائي الأميركي جون فورد (1894 ـ 1973) الكتاب بما يلي: "إنه يُتيح لغريبٍ عن السينما أن يتثقف في صناعة فيلم، ويلمّ بأساليب الإعداد واختيار الممثلين وكتابة النص وتصوير القصة، ويحيط بما يجري في مواقع التمثيل، تلك المملكة الديمقراطية الصغيرة، التي يهيمن فيها المخرج صاحب الجبروت الذي يؤمن بمدرسة "رجل واحد لفيلم واحد". إنّ له حقًّا في اعتبار هذا كلّه "حياة استثنائية"، لا تشبه أية حياة أخرى". هذا إنصافٌ للمخرج ولموقعه. هذا إنصافٌ لكلّ مخرج يتمتّع بالمميزات تلك، التي تصنع معنى السينما وجوهرها الإبداعي.

إذًا، يجعل إبراهيم العريس العنوان الأميركي مدخلاً إلى تأكيد فكرة، تتحوّل إلى مشروع سينمائي له: "المخرج صانع سينما". كأنه بذلك يُعيد للمخرج موقعه الأساسي، نازعًا عن "النجم" ـ في الوقت نفسه ـ "مكانةً" لن تكون له أساسية. في كتابه هذا، يُحلِّل العريس أعمال المخرج ومساراته المختلفة في السينما والنتاج والأفكار، جامعًا بين ماضٍ وحاضرٍ، ومُبيِّنًا ـ ولو ضمنيًا ـ فوارق في الأزمنة والتأمّلات والمعالجات والهواجس، ولن تكون الفوارق كلّها سلبية.

 

الأولوية لمن؟

هذا ليس تفصيلاً. الصراع غير معقود على مناصب أو أولويات. الاستديوهات الهوليوودية الكبيرة متحكّمة بكلّ مشروع تُنتِجه، على حساب المخرجين غالبًا (أحقية الاستديو بالـ"فاينل كات")، قبل انقلاب "هوليوود الجديدة" عليها، في سبعينيات القرن الـ20. في مصر، يحتل المخرجون واجهة المشهد بالتأكيد، رغم أن لنظام النجم حضورًا قديمًا، يبقى ـ رغم كلّ شيء ـ أخفّ سطوة وحدّة وتعقيدًا من مراحل لاحقة. مع بزوغ فجر الكوميديين الجدد مثلاً، مطلع التسعينيات المنصرمة، أو ربما قبل ذلك بقليل، يُصبح "النجم" المصري أسطع وجودًا. يتحكّم بإنتاج المشروع، ويفرض شروطًا، ويتقدّم على المنتج والمخرج أحيانًا، ويصطدم بـ"نجوم" آخرين غالبًا. لغاية الآن، يستمر نقاد وصحافيون سينمائيون مصريون في وضع أسماء النجوم قبل أسماء المخرجين.

إنها معضلة تعكس شيئًا من ارتباك العلاقات القائمة في وعي جماعي، وداخل بنية العلاقة القائمة بين السينما والصحافة، وفي آلية تفكير الصحافة إزاء السينما.

مثلٌ على ذلك: ينزعج عمرو دياب (1961) ـ المغنّي الذي لا علاقة له بالتمثيل إلاّ نادرًا جدًّا ـ من وضع اسمه على ملصق "ضحك ولعب وجدّ وحب" (1993) لطارق التلمساني (1950) "بعد" اسم عمر الشريف (1932 ـ 2015). التجربة العميقة والمهمّة والمتنوّعة لهذا الأخير تتيح له تنازلاً. يقول مبتسمًا، مع شيء من السخرية المبطّنة: "لا بأس. ليكن اسمه قبل اسمي. هو في بداية مساره. لدي خبرة وحضور ومعارف و... شهرة".

هذا نابعٌ من تقليدٍ أصيل في إحالة الفيلم إلى من يصنع شهرته الجماهيرية. إبراهيم العريس يرى أن التاريخ المصري حافلٌ بأولوية المخرج على مَنْ عداه من المشاركين في صناعة فيلمه. يقول إن يوسف شاهين (1926 ـ 2008) وصلاح أبو سيف (1915 ـ 1996) وتوفيق صالح (1926 ـ 2013) وكمال الشيخ (1919 ـ 2004) وغيرهم معروفون لدى مُشاهدين كثيرين، لكن شهرة أفلامهم متأتية من نجومها، غالبًا. نجوم الأمس مؤثّرون جماهيريًا، لكن صناعة السينما حينها معقودةٌ على الإخراج وعلى الحضور القوي للمخرجين. في لبنان، الوضع مُشابه إلى حدّ ما: مخرجو الأفلام في خمسنينيات القرن الـ20 وستينياته تحديدًا يتقدّمون على الممثلين، ومعظم هؤلاء غير نجوم بالمفهوم الحالي. مخرجو "السينما البديلة"، بدءًا من مطلع السبعينيات المنصرمة، يصنعون ما يُشبه الانقلاب على حالة سينمائية يُسيطر عليها نهجٌ مصري تجاري ـ استهلاكي يأتي إلى لبنان إثر تشدّد "التأميمات الناصرية" في مصر (نهاية الخمسينيات ـ بداية الستينيات المنصرمة تحديدًا)، في مقابل حضور فاعل لأفلام نضالية وثورية تُنتجها أموال فلسطينية. في النهج الأول، التسلية والترفيه والحكايات المسطّحة تطغى على كل ما عداها. في المسألة الثانية، "القضية" أهمّ. المشترك بينهما؟ حضورُ مخرجٍ غير حاصل على نجومية كاملة، وغياب نجومية ممثل غير مكتملة نجوميته بعد.

لن تخلو السينما العربية من نجومها، إنْ يكونوا ممثلين أو مخرجين. التطوّر الحاصل منذ بداية القرن الـ21 مثلاً قادرٌ على تبيان أهمية المخرج وموقعه في الواجهة الجماهيرية المعنيّة، فعليًا، بصناعة السينما، والمُتمكّنة، عمليًا، من ثقافة سينمائية. الأفلام التجارية ـ الاستهلاكية تبقى حكرًا على نجومٍ يتقاضون أموالاً هائلة أحيانًا، ويُقدّمون شخصيات باهتة غالبًا، ويتناولون مواضيع مُسطّحة دائمًا. هذا يحدث في بيروت، كما في القاهرة وبعض دول المغرب العربي مثلاً. لكن، لن يكون مغايرًا للواقع قولٌ يُفيد بأن مخرجين عديدين، في تلك المدن العربية كما في غيرها، يُصبحون "نجومًا"، إلى درجة أنهم قادرون على منافسة الممثلين، أحيانًا، في هذا المجال.

مثلٌ على ذلك؟ في منتصف تسعينيات القرن المنصرم، ينتفض طلابٌ جامعيون لبنانيون على مادة السينما العربية، لانعدام رغبتهم في دراستها. يسألهم الأستاذ المحاضر إنْ يرغبون في التمعّن بالسينما اللبنانية. الجواب المشترك لديهم: مارون بغدادي (1950 ـ 1993). قيل يومها إن موته الباكر سببٌ لذلك. لكن البعض يرى أنه الأشهر بين سينمائيي "السينما البديلة" في لبنان، وأكثرهم حضورًا في وعي ما لشبيبة لبنانية طالعة، حديثًا، من حرب طاحنة، ستكون نهايتها (13 أكتوبر/ تشرين الأول 1990) ملتبسة وغامضة. عام 1993، يُنهي السوري محمد ملص (1945) فيلمه الروائي الطويل الثاني "الليل". يودّ تقديمه في حفلة خاصّة. يمشي السينمائي من منزله إلى صالة السينما في دمشق (نجو 20 دقيقة)، فيوقفه مارّون عديدون مهنّئينه بجديده. هذا ليس أمرًا عابرًا. مواكنه وزميله وصديقه عمر أميرالاي (1944 ـ 2011) يمتلك حضورًا في اجتماع سوري محاصر بالقهر والألم والتمزّق والقمع. هذه مسائل حيوية. اختلاف الاجتماع بين بلد عربي وآخر يُمكن أن يكون عاملاً مساعدًا على حضور المخرج في يوميات ناسه. اختلاف أحوال الاجتماع ومساراته وتبدّلاته وانقلاباته عاملٌ مساعد ومهم أيضًا. "ثورة 25 يناير" (2011) في القاهرة تفضح وتعرّي وتصنع اقترابًا أو تباعدًا بين جمهور و"نجوم" سينمائيين. بعض هؤلاء الأخيرين مخرجون مشاركون فعليًا في الحراك المدني العفوي السلميّ. هذا حاصلٌ في سورية، قبل تحويل الحراك المدني العفوي السلمي إلى حربٍ طاحنة يشنّها نظام الأسد الابن على شعبه بألف حجة واهية. السينمائيون مضعضعون. بعضهم مناهض للنظام منذ انقلاب الأسد الأب واستلامه البلد (1970). هؤلاء معروفون لدى شريحة من الناس المحتاجين إلى خلاصٍ. مع "الثورة اليتيمة" (بحسب وصف الباحث اللبناني زياد ماجد للثورة السورية)، يذهب مخرجون سينمائيون إلى "حضن الأسد"، ويتباهون بإنجازاته الدموية والتدميرية والعنفية. آخرون يستمرّون في مقارعته انسجامًا مع قناعات ومبادئ وأهواء.
أهؤلاء نجومٌ؟ أم مجرّد مشاركين في حفلة القتل غير المنتهية؟

 

مشاركة ميدانية

في مايو/ أيار المقبل، تحلّ الذكرى الـ50 لـ"أيار 1968" في فرنسا والعالم. التحوّل الكبير الذي تصنعه تلك الثورة الشبابية له دراسات وأبحاث وشهادات جمّة. لكن اختياره هنا، في تساؤلات متنوّعة عن موقع المخرج السينمائي وأهميته في صناعة السينما، نابعٌ من مشاركة ميدانية لسينمائيين فرنسيين فيها، ومن اشتغالاتهم السينمائية اللاحقة عنها: جان ـ لوك غودار (1930) وفرانسوا تروفو (1932 ـ 1984) وغيرهما في الواجهة. هذا ليس انخراطًا سينمائيًا فقط. هذا فعلٌ أخلاقي وإنساني، يبحث عن معانٍ جديدة لأحوال وحالات وتقلّبات. ألن يكون غودار وتروفو وغيرهما "نجوم" المرحلة، كسينمائيين وبشريين وأخلاقيين؟ ألن يتمكّن أحدنا من القول إن "نجومية" مخرجين سينمائيين يُمكن أن تُصنَع، أحيانًا، خارج الـ"بلاتوه" والـ"كادر"، كما داخلهما أيضًا وأساسًا؟ ألن تكون "انتفاضة الخبز" (18 و19 يناير/ كانون الثاني 1977) في القاهرة محطّة أساسية في السعي الدؤوب إلى تغيير إيجابي في بلد كمصر، يشهد مشاركة سينمائيين فيها، ومحاولة بعضهم جعلها نواة درامية لأفلام عديدة ومختلفة؟ ألن تكون الحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990) جزءًا من وعي فردي ـ جماعي لمخرجين يجعلونها عنوانًا لأفلامهم، فيُصبحون معها وبفضلها جزءًا من "جماهيرية" ما لهم في بلدٍ كلبنان؟

هذه أمثلة ومحاولات جدّية لمناقشة لن تنتهي بإجابات حاسمة، فالإجابات الحاسمة تقمع الاجتهاد والتفكير والتنقيب والعمل.
غير أنّ المؤكّد كامنٌ في أنّ اسم المخرج سيبقى "فوق عنوان الفيلم".

 

ناقد سينمائي من أسرة "العربي الجديد"

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.