}

المخرج الجزائري فاروق بلوفة يرحل ويترك "نهلة" وحيدة

حميد عبد القادر 22 أبريل 2018

فقدت الجزائر، يوم 9 إبريل/ نيسان الجاري، المخرج السينمائي المقيم في باريس، فاروق بلوفة، مُخرج فيلم "نهلة" الشهير حول الحرب الأهلية اللبنانية والقضية الفلسطينية. ولم يتم الإعلان عن وفاته من قبل العائلة، إلا بعد تسعة أيام على مراسم دفنه في باريس. وعانى بلوفة من مرض عضال أنهكه خلال السنوات الأخيرة، فرحل على إثره، تاركاً وراءه "نهلة"، كما ترك كاتب ياسين رواية واحدة هي "نجمة".

وُلد فاروق بلوفة سنة 1947، في واد الفضة (200 كلم غرب الجزائر العاصمة). درس السينما في الجزائر، بالمعهد الوطني للسينما سنة 1964، وتخرج منه رفقة المخرج مرزاق علواش، ثم انتقل إلى معهد الدراسات التطبيقية العليا بباريس، حيث تابع دروس المفكر رولان بارث حول العلاقة بين السينما والأدب، وناقش رسالة حول "نظرية السينما". أخرج فيلماً أول عن ثورة التحرير بعنوان "التمرد" سنة 1973، فتعرض للرقابة ثم للمنع، إلى أن اختفى بشكل كامل في دهاليز الإدارة، بسبب النقد اللاذع الذي وجهه إلى الثورة الجزائرية، نظراً لميوله الماركسية التي لم يكن النظام الحاكم يستسيغها آنذاك، بالرغم من خياراته الاشتراكية. وعمل سنة 1976 مخرجاً مساعداً ليوسف شاهين في فيلمه الشهير "عودة الابن الضال"، وهو إنتاج مشترك بين الجزائر ومصر. وفي نفس الفترة احتك بكثير من السينمائيين الأميركيين والإيطاليين الذين كانت تستضيفهم قاعة "السينماتيك" (متحف السينما) بالجزائر العاصمة، في السبعينيات، بفضل الدور الكبير الذي لعبه الناقد السينمائي أحمد بجاوي، ومدير السينماتيك أحمد حسين، اللذين استضافا كلاً من المخرج الأميركي نيكولا راي، وجوزيف فون ستيرانبرغ، في وقت كانت فيه الجزائر تعتبر بمثابة مكة للمناضلين المعادين للكولونيالية. كان بلوفة يعمل حينها ناقداً سينمائياً في مجلة "الشاشتان"، التي أرسلته لتغطية فعاليات مهرجان "كان" الدولي للسينما، فأجرى حواراً مطولاً مع المخرج الشهير رومان بولانسكي، كما حاور المخرج الإيطالي الشهير لوتشينو فيسكونتي، مخرج فيلم "الغريب" المقتبس عن رواية ألبير كامي.

في سنة 1979، دخل بلوفة معترك السينما من بابه الواسع، متأثراً بأفلام اليا كازان، وجان لوك غودار، فأخرج فيلم "نهلة"، بعد أن كتبه بالتعاون مع الروائي رشيد بوجدرة، وزوجته الناقدة السينمائية موني براح.

يُعتَبر الفيلم رائعة فنية، وإحدى كلاسيكيات السينما العربية. وهو الفيلم العربي الأول الذي تناول ظروف الحرب الأهلية اللبنانية، والقضية الفلسطينية، متأثراً بأفلام الموجة الجديدة بفرنسا، وروحها المتمردة على الأساليب الكلاسيكية السائدة في السينما العالمية التي تولدت من واقعية ما بعد الحرب العالمية الثانية. وقد شارك الفيلم في عدد من المهرجانات السينمائية الدولية، منها المسابقة الرسمية لمهرجان موسكو الدولي في سنة 1979، حيث حصلت الممثلة اللبنانية ياسمين خلّاط على جائزة أفضل ممثلة، ليُفتح الباب أمامها للمشاركة في أعمالٍ أخرى كـ"عزيزة" للمخرج التونسي عبد اللطيف بن عمّار، و"أحلام المدينة" للسوري محمد ملص، لتتحول إلى كاتبة روائية سنة 2001 وتنشر رواية "اليأس خطيئة".

تدور أحداث الفيلم حول صحافي ومصور جزائري (تمثيل يوسف سايح) يتوجه إلى بيروت لتغطية أحداث الحرب الأهلية مع مطلع سنة 1975، عقب معركة "كفر شوبا"، فيتعرف على فتاة لبنانية (ياسمين خلاط)، سرعان ما يُغرم بها. وقبل ذلك، تقف "نهلة" المغنّية الشابة على خشبة مسرح البيكاديللي، وسط جمهور ينتظرها، فتشرع في الغناء: "دورت أيّام الشتي، ودورت وقت التلج، بقيوا ياللي بقيوا وهجّ ياللي هج... وقت اللي شافوني وطلّعوا فيّ وما حكوني، حسّيت انّي..". ثم يسود الصمت. فيصرح بلوفة لاحقا ً بأنّ "شيئاً ما انكسر في داخله بعد هذا الفيلم"، ليجبر بدوره على الصمت، بعد النجاح الكبير الذي حازه عمله.

حاز الفيلم (نهلة) على ميزة إبداعية فريدة من خلال اللحظات التي يسرقها بطل الفيلم (العربي) بعيداً عن أجواء القصف، لتصوير وقائع الحياة اليومية العادية، ونقل مشاعر الحب، على وقع موسيقى زياد الرحباني، بين العربي ونهلة، التي نتابع تطوّر حالتها النفسية وأزمتها، والتي أدت بها إلى فقدان صوتها، فتحول الفيلم مع مر السنوات إلى فيلم مرجعي، ليس في السينما الجزائرية فقط، بل حتى السينما العربية، ولا يضاهيه من حيث التأثير الجمالي سوى فيلم "تحيا يا ديدو" (1971) لـ محمد زينات، علماً أن الفيلم يحتوي على تأثيرات سينمائية عالمية تشير إلى تأثر بلوفة بأفلام الموجة الجديدة، والمخرج جان لوك غودار، التي كانت تهتم بشخصيات تنمو في ظل واقع متردٍ. فظهر الفيلم متحرّراً من الأساليب الكلاسيكية في إخراج وتصوير المشاهد، وكذلك من التقطيع المتتابع للّقطات. كذلك لجأ بلوفة إلى تقنية "الفيلم داخل الفيلم" (على خطى الرواية داخل الرواية)، من خلال الكاميرا الفوتوغرافية للصحافي الجزائري (العربي)، والصور التي يلتقطها يومياً حتى أثناء القصف، وقد تحول إلى شاهد على التحوّلات التي كانت سارية في المجتمع اللبناني حينها.

تعرض الفيلم لحصار كبير بالجزائر، إذ لم يحصل بلوفة على موافقة تسمح له بعرض عمله عالمياً، بعد أن أبدت شركة "غومون" الفرنسية اهتماماً بعرضه، وهو ما يعطي الانطباع بأن بلوفة قام بتصوير أحداث الحرب الأهلية اللبنانية، لكنه في العمق قام بتصوير تناقضات المجتمع الجزائري، ولم يكن اللجوء إلى بيروت سوى وسيلة للفرار من مقص الرقيب، الذي تفطن للأمر وقام بمحاصرة الفيلم، بيد أن تلك التناقضات التي أبرزتها "نهلة"، وأراد الرقيب طمسها وإخفاءها، سرعان ما انفجرت في أكتوبر/ تشرين الأول 1988، علماً أن بلوفة قال في أحد حواراته إن بعضاً من أحداث الفيلم تتقاطع مع الواقع الجزائري. وبعد الحصار على الفيلم، تعرض بلوفة لحصار مُماثل، فظل على الهامش، وغادر البلاد عند نهاية الثمانينيات، وبقي بعيداً عن الجزائر إلى غاية سنة 2009، حيث لبّى دعوة أيام بجاية السينمائية. وقال بلوفة عن "نهلة": "هو الفيلم الذي كنت أحلم به دائماً". ومثلما ترك كاتب ياسين "نجمة"، ترك هو (بلوفة) "نهلة". ويعتبر كثير من النقاد الفيلم بمثابة "الصوت المفقود في زمن الحرب".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.