}

عن مهرجان "كانّ" وأحوال المهرجانات السينمائية العربية

نديم جرجوره نديم جرجوره 12 أبريل 2018
سينما عن مهرجان "كانّ" وأحوال المهرجانات السينمائية العربية
ملصق مهرجان كان

 

يقترب موعد إقامة الدورة الـ71 لمهرجان "كانّ" السينمائي (8 ـ 19 مايو/ أيار 2018). الانتظار مملّ، على النقيض التام من الحماسة والمُتع المختلفة، التي يعيشها زائر الدورة المنتظرة، في أيامها الـ12. الرغبة في اكتشاف جديد صناعة السينما في العالم مُلحّة على نقّادٍ وصحافيين سينمائيين يلتقون، من دون سابق معرفة بينهم، في 12 يومًا، سنويًا. المُشاهدة اكتشافٌ، والاكتشاف سمة مواظبين على مهرجان "كانّ"، وعلى مهرجانات تُشبهه. هذا موعد سنوي لإطلاق الجديد، أي لتقديم عناوين غير مُشَاهَدة قبلاً.

المُشاهدة اكتشاف، والاكتشاف دافعٌ إلى نقاش يبدأ ـ بالنسبة إلى البعض ـ بعد لحظات قليلة على انتهاء الفيلم المُكتَشف. للبعض الآخر متعة الإسراف في التأمّل قبل النقاش، لكن متعة كهذه تتعطّل، أحيانًا، في مهرجان يُتيح لهؤلاء جميعهم إمكانيةَ مُشاهدةِ ما يتراوح بين 6 و8 أفلام يوميًا، مُوزّعة على مسابقات وبرامج واستعادات وكلاسيكيات. الرقم مغر، وإنْ يُتعِب كثيرين. لكنها لذّة المغامرة، المنبثقة من رغبة الاكتشاف النابع من المُشاهدة، ولا بأس بتأجيل التأمل قليلاً، فالملاحظات المدوَّنة، والجماليات السينمائية المبثوثة على الشاشات الكبيرة في صالات "قصر المهرجانات"، وبعض القاعات المحيطة به، كفيلةٌ بمنح التأمّل اللاحق عمقًا وجاذبية ومتعةً.

 

مُشاهدات

كلامٌ مُكرَّر؟ ربما. كلامٌ معروفٌ؟ بالتأكيد. فالمواظبون على مهرجان "كانّ" ـ وعلى غيره من المهرجانات التي تُشبهه ـ يعرفون هذا كلّه، ويحاولون التوفيق بين المُشاهدة وحضور المؤتمرات الصحافية المفتوحة أمام الجميع، واللقاءات الخاصّة التي يتفرّد بها مهتمّون وقادرون على الحصول عليها بتواصل سابق على هذه الدورة أو تلك، مع مسؤولين مباشرين عن ترتيب اللقاءات المطلوبة. يحاولون التوفيق بين هذا كلّه ومسائل أخرى أيضًا: متابعة لقاءات "دروس السينما"، إنْ تنوجد؛ السعي الحثيث إلى لقاءات مع فاعلين وعاملين في الصناعة بجوانبها المختلفة؛ لقاءات "عفوية" مع زملاء مهنتي النقد والصحافة السينمائية، إلخ. ففي عالم النقد والصحافة السينمائية، هناك "نجوم" أيضًا لديهم قوّة تأثير على زملاء وسينمائيين وعاملين في صناعة الفن السابع واقتصاده.

الغليان الذي تشهده المدينة الفرنسية الجنوبية في أيام مهرجانها لذيذ ومفيد، خصوصًا عندما يكون الطقس مُعتدلاً. لكن المدينة تعيش مهرجانات أخرى أيضًا، لا علاقة لها بالسينما. موسيقى الجاز والعقارات وأشياء أخرى أيضًا، لها مهرجاناتها وأسواقها وتجارتها. الغليان زمن المهرجان السينمائي مصنوعٌ من عوامل كثيرة: الضيوف والزائرون والمتابعون والعاملون. يقول مواظبون دائمون إنّ أهل المدينة، المُقيمين فيها بشكل دائم، يستاؤون أحيانًا من الضجيج والكثرة. لكن أصحاب مهن مختلفة غير آبهين بضجيج وكثرة، بل "يُطالبون بهما" في 12 يومًا: المطاعم والملاهي الليلية والمقاهي تمتلئ كثيرًا أيام المهرجان السينمائي. الفنادق تعجّ بنجومٍ وصانعي أفلامهم. مالكو الشقق المفروشة يستفيدون. مالكو المحلات التجارية الخاصّة بالمأكل والمشرب يستفيدون هم أيضًا. المحلات الأخرى مفتوحة أمام الجميع. التسوّق جزءٌ من يوميات نجوم ومتمكّنين وراغبين.

يستحيل التغاضي عن التفاصيل الجانبية للحدث السينمائي السنوي الأبرز. تفاصيل تصنع يوميات أناسٍ يأتون للمُشاهدة والاكتشاف، وآخرين يعتبرون المهرجان محطة لترويج الأعمال والـ"بيزنيس". فالسوق السينمائية في مهرجان "كانّ" أهمّ من أي سوق سينمائية أخرى في العالم، وربما تلتحق بها سوق مهرجان برلين، أحد المهرجانات الـ3 الأولى في العالم، إلى جانب "كانّ" والبندقية.

المُشاهدة ضرورية، فهي أساس المُشاركة في المهرجان الدولي. كثيرون ينتظرون الأفلام المختارة، كذاك الذي يفتتح الدورة الـ71، لأسبابٍ عديدة: فـ"الجميع يعلمون" جديدُ السينمائي الإيراني أصغر فرهادي (1972)، أحد الإيرانيين القلائل المتمكّنين من الجمع بين انتماء إلى بلدٍ يُعطِّل اشتغالات سينمائية كثيرة لأسباب سياسية وإيديولوجية، وانتشار دولي يمنحه إمكانية تحقيق أفلام غربيّة. جديده هذا غربيٌّ بامتياز: إنتاج إسباني، وممثلون إسبان ـ أبرزهم بينيلوبي كروز (1074) وخافيير بارديم (1969)، واللغة المستخدمة فيه إسبانية. ثم أنّ هذا غير حاصل في افتتاح دورات سابقة، يغلب على أفلامها هوية/ لغة فرنسية أو إنكليزية. هذا غير حاصل منذ 14 عامًا، وتحديدًا منذ "التعليم السيء" للإسباني بيدرو ألمودوفار (1949)، الذي افتتح الدورة الـ57 (12 ـ 23 مايو/ أيار 2004).

رغم أن المقارنة لن تجدي نفعًا، إلاّ أنّ القولَ ضروريٌ ذكرُه هنا: هذا مفقودٌ في الغالبية الساحقة من المهرجانات السينمائية في العالم العربي. بعضها يُثير غليانًا في مدينة تحتضنه، لكنه لن يقترب من حالة الغليان الأجمل في "كانّ"، وفي مهرجانات تُشبهه. المحاولات العربية الجادّة قليلةٌ للغاية. مهرجانات عربية ذات بُعد دولي تعاني غيابًا ملحوظًا لأبناء البلد، سينمائيين ومهتمّين ومشاهدين. الاستثناءات قليلة: في تونس، "تمنع" كثرة المشاهدين التوانسة ضيوفًا عديدين من مُشاهدة أفلامٍ تونسية، وغير تونسية أحيانًا، لحماستهم للسينما، ولأفلام بلدهم. في المغرب، يحدث هذا أيضًا في بعض المهرجانات المحلية، خصوصًا ذاك المختصّ بالأفلام المغربية "الوطنية"، أو المتوسطيّة مثلاً.

 

مقارنات وتساؤلات

في بيروت، يكاد المُشاهدون يبقون هم أنفسهم، تقريبًا، في المهرجانات والتظاهرات والنشاطات السينمائية المختلفة. مهرجانات مدن الأطراف اللبنانية (طرابلس وجونيه في شمال بيروت، وصُوْر والنبطية في جنوبها، مثلاً) تجتهد لتثبيت حضورها، ولجذب الأفراد إليها. في القاهرة والإسكندرية والإسماعيلية، الوضع كارثيّ: ناس البلد منفضّون عن مهرجانات مدنه تلك، وسينمائيوه مبتعدون، غالبًا. كلّ اجتهاد يصنعه مدراء أو مسوؤلون يصطدم بأزمات ومآزق مزمنة. سطوة أجهزة الدولة عاملٌ أساسيّ. افتقار المدن إلى صالات حديثة عاملٌ أساسي أيضًا. لكن، كيف يُفسَّر المشهدان التونسي والمغربي: صالات قديمة ومهترئة وبالية، ومن دون أجهزة حديثة، تتمكّن من جذب حشود كبيرة من المشاهدين التوانسة والمغربيين؟

الصالات السينمائية في دول الخليج العربي حديثة ومجهّزة بتقنيات أحدث وأهمّ. لكنها، أثناء مهرجانات سينمائية تُقام فيها، تمتلئ ـ غالبًا ـ بضيوف ومدعوين فقط، وبعض الأجانب المقيمين فيها لعملٍ أو سياحة. مهرجانات خليجية منفتحة على العالم تحاول صُنع اختلافٍ، لكنها تعجز عن اللحاق بمهرجانات دولية عريقة. منصّات التواصل والتمويل واللقاءات مع مهنيين واختصاصيين سينمائيين أجانب وغيرها من النشاطات حكرٌ على ضيوف ومدعوين أيضًا. هذا مفيد لصنّاع السينما، لكنه سلبيٌّ لصورة تلك البلدان العاجزة عن دفع مهرجاناتها إلى منافسةٍ، أو أقلّه إلى تمتين حضورٍ دولي أعمق وأهمّ. لكن، رغم هذا، تقدر مهرجانات سينمائية خليجية قليلة للغاية على تفعيل حضور عملي ـ مهني كبير ومهمّ وضروري بالنسبة إلى عاملين في صناعة السينما العربية. تقدر أيضًا على تثبيت حضور دولي، بعد دورات عديدة مانحة إياها اهتمامًا وتواصلاً دوليين.

لن أتوقّف عند مسائل أخرى تصنع حياة متكاملة في بلدان غربية. الحريات والتسهيلات الجمركية والاقتصادية أساسية. امتناع السلطات الرسمية عن التدخّل كلّيًا عاملٌ مُساعد. تحوّل المهرجانات السينمائية الغربية كلّها إلى مؤسّسات مستقلّة، ذات فرق عاملة فيها بشكل دائم، دافع إلى النجاح والاستمرار والتحرّر من سطوة أو رقابة أو تسلّط. التمويل والرعاية مطلبان، لكن "مأسسة" المهرجانات الغربية كفيلة بالحصول عليهما، عبر علاقات واتفاقات مختلفة.

المهرجانات السينمائية (وغير السينمائية) العربية خاضعةٌ، بغالبيتها الساحقة، لأمزجة متحكّمين بها وبالبلدان التي تُقام بها. ما الذي يمنع تحويل "مهرجان القاهرة السينمائي الدولي" مثلاً إلى مؤسّسة مستقلّة، تبتعد كلّيًا عن مزاجية حاكم متسلّط؟ أليس الوقت ملائمًا لترتيب المسألة، مع اختيار المنتج المستقلّ محمد حفظي (1975) رئيسًا للدورة الـ40، المزمع إقامتها بين 15 و24 نوفمبر/ تشرين الثاني 2018؟ ألم يحن الوقت لتأهيلٍ جذري لمهرجانٍ يحمل اسم مدينة عربية يُركن إليها، رغم كلّ شيء، في تاريخ السينما وحاضرها؟ الوقت ملائم لقول كهذا أكثر من أي وقت ماضٍ. محمد حفظي منتمٍ إلى جيل شبابيّ له فضلٌ كبير في صناعة سينما عربية مختلفة ومتمرّدة وصانعة صورة تجديدية. خبرته وعلاقاته وحضوره أمور صالحة لتأسيسٍ جديد للمهرجان، بالإضافة إلى قدرته على "التنصّل" من روابط ومصالح خاصة على حساب المهنة وجمالياتها. لكن سطوة الدولة المصرية، العميقة وغير العميقة، وأزلامها، أقوى من أي شيء آخر.

 

أمثلة

أمثلةٌ أخرى: "مهرجان دمشق السينمائي الدولي"، المُعطَّل حاليًا بسبب الحرب الأسدية على شعب سورية ومجتمعها وعمرانها وتاريخها واجتماعها. فَشَلُ المهرجان نابعٌ من تحويله إلى مؤسّسة رسمية باهتة وفاقدة لأي معنى أو شغف أو حضور. الحرب السورية تحول دون نقاشٍ عمليّ لأحوال المهرجان الدمشقي، لكن سطوة الحكم قاتلة، قبل الحرب وأثناءها. والمهرجان ـ المُشارك و"مهرجان القاهرة السينمائي" و"أيام قرطاج السينمائية" (تونس) في كتابة فصولٍ من التاريخ الحديث للسينما العربية، أفلامًا وقضايا وأسئلة ومشاغل ـ مؤهّلٌ سابقًا لأن يكون مؤسّسة مستقلّة كلّيًا، كي يتمكّن من ممارسة وظيفته كمهرجان دولي، في إطلاق الجديد، ومناقشة الوقائع، وابتكار أنماطٍ مختلفة للتمويل والإنتاج، ولتفعيل الثقافة السينمائية، كتابة وعروضًا وسجالات. لكن البلد قامع ومقبوض عليه بيد من حديد، ما يحول دون استقلالية منشودة لمهرجان منتهٍ حاليًا، كحالة البلد برمّته.

بالتالي، ألا تستحق دول المغرب العربي، صانعة سينما عربية مهمّة بمستوياتها كلّها، أن تكون لها مهرجانات متحرّرة من تمويل سلطة، ومن تحكّم سلطة، ومن رقابة سلطة؟ التجربة اللبنانية مختلفة. المهرجانات غير مرتبطة بالدولة، والصالات المختارة حديثة إلى حدّ كبير، لكنها خاضعة لـ"جهاز الرقابة على المصنّفات الفنية"، الذي يمنع أفلامًا وفقًا لمصالح قوى غير رسمية. مع هذا، فهي غير ممأسسة، بالمعنى العلمي الدولي. المبادرات الفردية أنجح في جعلها حاضرة في المشهد اللبناني، وفي تمدّدها، عربيًا ودوليًا. النشاطات السينمائية الرديفة جزءٌ من الحيوية السينمائية المحلية. ورش عمل وتدريبات ولقاءات إنتاجية وغيرها، أمورٌ تساهم في بلورة أفق مختلف لمعنى النشاط السينمائي، وإنْ يبقى المهرجان ضروريًا.

ملاحظات كهذه دعوة إلى مزيدٍ من النقاش. انتظار مهرجان "كانّ"، ومهرجانات دولية أخرى، تساهم في تفعيل رغبة الاكتشاف عبر المُشاهدة. المقارنة بين المهرجانات المُقامة في مدن عربية وتلك الغربية نابعةٌ من اهتمام بضرورة تحرير المهرجانات العربية من كل عائق يحول دون تطويرها وحريتها. نابعةٌ أيضًا من اهتمام بأولوية جعل المهرجانات تلك مؤسّسات سينمائية فاعلة ومؤثّرة.

 

*ناقد سينمائي من أسرة "العربي الجديد"

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.