}

"إفريقيا ليست جزيرة": إعادة صياغة السرد التاريخي

جوهر التصوير الفوتوغرافي هو التقاط وتوثيق الواقع، تخليد حدث عابر أو مقيم بمجرد مروره ولو لثانية أمام كاميرا التصوير. كما أنه أيضا الفن الأكثر ديمقراطية بامتياز، نظرا لسهولة استخدامه، وقابليته للنقل، وفي متناول الجميع. في الوقت الراهن أصبحت الصور حياتنا اليومية؛ الصور الفوتوغرافية غير المادية تسافر في جميع أنحاء العالم بسرعة اللقطة. هذا الانتشار ضمن لها أن تصير لغة عالمية.

يمكن لصورة أن تساوي ألف كلمة في الواقع، لكن فقط تعدد وجهات النظر أو الزوايا المنظور منها كفيل باستيعاب موضوع ما بكامل تعقيداته. معرض "إفريقيا ليست جزيرة" المقام حاليا بمتحف الفن الإفريقي المعاصر "ماكال" بمراكش، يضم أكثر من أربعين مصورا فوتوغرافيا.

البعض أفارقة، البعض الآخر من أصل إفريقي، وثمة أيضا من لا صلة له بإفريقيا سوى اهتمامه بالموضوع. نظرات من الداخل، نظرات من الخارج، ونظرات وسطية تتأرجح بين الداخل والخارج، بهدف إتاحة أكبر قدر من الرؤى -التي حالما تحتشد في فضاء واحد-، لا تكف عن التفاعل، الحوار والتكامل فيما بينها من أجل تقديم رؤية دقيقة وشاملة قدر الإمكان للقارة السمراء. في ضوء هذه الصور، الفكرة التي تستحوذ علينا كحقيقة واضحة: إفريقيا ليست جزيرة، إنما أرض متصلة ومعبرة ومليئة بالأمل. الهدف الأساسي لمؤسسة اليونس ورعايتها للفنون هو ترسيخ قوة الإبداع في إفريقيا، وتقديم الفن في المشاركة.

إن معرض "إفريقيا ليست جزيرة" الذي افتتح في 27 فبراير/ شباط وسيستمر حتى 24 أغسطس/ آب القادم 2018؛ يقترح رحلة عبر الصور التي عرضتها مؤسسة "أفريك اين فيزو" على منصتها على مدار عشر سنوات. هذه المؤسسة التي حرصت على أن تكون انعكاسا لوجهات النظر والممارسات المختلفة في القارة الإفريقية وحولها. وبذلك تصبح "أفريك اين فيزو" مجالا بصريا يتجاوز مسألة الحدود.

المعرض دعوة لمسح أو التجول في جزء صغير من هذه المنطقة المتصلة، مع التركيز على أعمال التصوير الفوتوغرافي المنشورة على منصة أفريك اين فيزو، في حوار مع أعمال مختارة من مجموعات مؤسسة "أليونس". يتجول الزائر هنا في فضاء بصري ليس بثابت ولا أحادي، وإنما متعدد.

إفريقيا ليست جزيرة رسم لجغرافية جامعة بين مختلف الألوان والأنماط، كما سردتها لونارا ميانو في مداخلتها "ما هو اسم إفريقيا؟"؛ حيث تدعونا الكاتبة إلى الابتعاد عن اسم المعمودية للانفتاح أكثر على مزيد من التعددية، لإعادة النظر في تنوع إفريقيا التي – في حال عدم تعريفها تعريفا ملائما– تتطلع إلى إعادة بنائها.



بتمحوره حول ثلاثة مسارات، يخطط المعرض لجغرافيا تعيد رسم خرائطها: سكان، قصص، وأماكن تثير تساؤلات حول علاقة الجسد/الوقت/الفضاء/ في قلب التاريخ.

تمزج التماثيل البشرية ل"نمسا لوبا" بين الخيال والواقع، أما التراكيب المنحوتة ل"بوهانغ كاني" فإنها تضع الفنان في مواجهة الحاضر/الحاضر. المحلي والعالمي يلتقيان من خلال الفضاء العاري الذي تعرضه الصور الفوتوغرافية ل "فرنسوا زافيي غبري". مجموعة الصور المعروضة تجسد مفاهيم المكان/الزمان، تشخصن التاريخ، كما تختبر الجغرافيا كموضوع للتفكير في كيفية صنع العالم.

في اتصال ضفة ثالثة بالسيدة جين مرسي مديرة أفريك اين فيزو منصة تبادل الخبرات حول مهنة الفوتوغرافيا في إفريقيا منذ سنة 2006 أكدت لنا: "أن المعرض كان فرصة رائعة بالنسبة لأفريك اين فيزو. بعد مضي 12 سنة من العمل الدؤوب وسنة ونصف من التحضير للمشروع، نحن جد سعداء لرؤيته على الجدران وفي البيئة الجميلة التي تليق به، مما ساهم في نجاحه لدى الجمهور والصحافة على حد سواء".

هذه المساهمة تحتل فقط المستوى الأول من متحف الماكال، حيث تتألف من الصور الفوتوغرافية ومقاطع الفيديو وبعض المنشآت الفنية المتواجدة في الصحن المركزي. أراد المنظمون للمعرض أن يستمر على فترة طويلة حتى يستفيد الجمهور المغربي والأجنبي من التظاهرة الضخمة. كما تم التخطيط لبرنامج حافل مع المدارس للقيام بزيارات جماعية لأروقة المتحف. فكرة المشروع ارتأت أن تكون "إفريقيا ليست جزيرة" معرضا متنقلا:

بدعوة من المؤسسات الخاصة والمتاحف والمؤسسات الفنية الخيرية تعرض الصور الفوتوغرافية مع مجموعة مختارة من الأعمال الفنية (الفنون البصرية) من مجموعاتها الخاصة. هكذا تعمل أفريك اين فيزو على تطوير آليات التواصل الشبكي الذي يعتبر أساس مشروعهم. وبانفتاحهم وتجاوزهم إطار المنصة نفسها، يشاركون في خلق حوار بين الفنانين الذين تمت مرافقتهم والفنانين في المجموعات المُضيفة. كل معرض جديد يدعو لقراءة المجموعات الفوتوغرافية وكذلك مجموعة البلد المضيف. هذا الحوار الرائد، في كل مرة يتجدد وفقا للمؤسسة، ليسمح بالكشف والتأكيد على الروابط والصلات التي تجمع إفريقيا بالقارات الأخرى، ويمكّن العرض من خلق جغرافيا تنفجر وتتمدد.

كل معرض يحاول نحت مفهوم الهوية بتعقيد أكبر، وتعزيز فكرة التهجين الثقافي وبناء الجسور بين هذه المناطق المتصلة لأسباب تاريخية، اجتماعية، واقتصادية مع القارة الإفريقية – وبالتالي إمكانية تجربة العالم.



في هابري، الجيل الأخير، جوانا شومالي تعكس الإشكالية الصعبة للهوية وتداخلها مع التاريخ والحداثة. هذه المجموعة من الصور تستخدم إضاءة محايدة و خلفية موحدة لتصوير بورتريهات نساء ورجال من بوركينافاسو ونيجيريا يعيشون في أبيدجان. اختلاط المرجعيات يذكرنا أن سؤال الهوية، والجسد الاجتماعي مرده في الأساس إلى سياقات تاريخية وسياسية أكثر منها اقتصادية.

من 2001-2003 عبر المجموعة الفنية أطياف نهر الكونغو، نيابا ليون أويدراوغو يتعقب مسار النهر لرسم الحياة اليومية: السكان المجاورون للنهر العظيم، في هذه البقعة الصامتة التي كانت شاهدا على حركة التاريخ. نهر الكونغو، بحسب الفنان الفوتوغرافي، يرمز في المخيال الجماعي إلى حالة: -لا-حضارة هذه المنطقة المتوحشة. ثمة نوع من الخلود في هيئات هذه الأجساد المنتصبة كما لو تقوم بإلغاء الزمن: شهادة تتحدى وتتجاوز زمن لقطة الكاميرا؛ إنها قصة التعايش بين النهر و الأجساد/ الجثث التي يسكنها النهر.

من خلال ممارسة موسعة للتصوير الفوتوغرافي الذي يمزج بين النحت وفن الأداء؛ تسعى الفنانة ليبوهانغ كاني إلى قلب وتغيير مسار الزمن والتاريخ في المجموعة التي اختارت لها عنوان "تراثي الشخصي": دعوة لاستلهام تجربة الحياة اليومية في قصة مكتوبة بالفعل.- بوفاة والدتها- انقطع آخر رابط للفنانة بأصولها، ليبوهانغ كايني تعقبت آثار قصة العائلة الشخصية للعثور على مكان للذات. بحثا عن التاريخ الشخصي، تصطدم بتاريخ الفصل العنصري في جنوب إفريقيا و تتساءل كيف لا يزال هذا الأخير يستمر في تشكيل الحاضر؟


أشولا أكبو يقدم لنا لوحة عميقة لبلده. مجموعة "الجوهري غير مرئي للعين" التي نفذت 2004 تحاول إعادة تمثيل: - مهر الجدة -، كميراث يتوجه للمتزوجين وبقية المجتمع على حد سواء: القدرة على إثبات المركز المادي للعائلة، ومكانتها في المجتمع. بصمة التاريخ في الفضاء الحميمي تتكشف من خلال الأشياء المتوارثة، تلك القطع الأثرية الخاصة بالثقافة الشعبية التي تتحول مع الزمن إلى ناقلة للتقاليد.


أنا تمثيلي

المحور الأول، "أنا تمثيلي"، المخصص للمعرض يقدم جغرافيا إنسانية؛ الإنسان –المستوطن –. تمثيل الذات وتمثيل الآخر عبر التفاعل مع البيئة، وذلك من خلال مجموعة من الأعمال الفوتوغرافية المعروضة التي ترسم صورة مستوطن مركب مسكون بتاريخه العريق وتاريخ استعماري. كما يسائل إشكالية انتماء الجسد إلى منظومة اجتماعية، وانخراط الفرد في التاريخ،- بما في ذلك تمثيله الذاتي- في الجغرافيا، ومواءمته مع التقاليد وتجديدها.

يشير عنوان هذا المحور إلى كتاب "أفريقيا بعيونها، قرن من التصوير الفوتوغرافي الأفريقي" حيث يرسم المؤلفون بموجب نظرة تستلهم تاريخ الفن الغربي بانوراما للتصوير الإفريقي الذي ولد من رماد الاستعمار. المواطن الإفريقي – في حالة وجوده – لم يعد هذا الآخر، أو تلك الصورة النمطية التي كونتها السلطة. إنما مجموعة من الصور المتنوعة والمعقدة بنفس درجة تنوع وتعقيد تاريخه وجغرافيته. فقد شهدت فترة خمسينيات القرن الماضي ولادة جيل من المصورين امتلكوا تقنيات الفن الفوتوغرافي، وقاموا بتجديده؛ من خلال استعادة حق تمثيل الذات الذي طرح سؤال الاندماج: كيف أكون؟ كيفية إعادة تمثيل الذات وتمثيل الذات من خلال المصالحة مع التاريخ والأعراف والتقاليد. الأعمال الفوتوغرافية تكشف عن الهوية المصادرة والذائبة التي تشكلت خلال سنوات الاستعمار والتراث الثقافي للأسلاف.


رسم الجغرافيات

المحور الثاني المخصص للمعرض تحت عنوان"رسم الجغرافيات" يدعو المشاهد للربط بين المناطق، بما يتجاوز الخرائط الرسمية. بما أن المفاهيم المعاصرة للعولمة، وحتى مفهوم العالمية، والقضايا المتمثلة في الكوسموبوليتية ليست سوى إعادة تشكيل لتمثيل الإقليم. الاهتمام أكثر برسم الجغرافيات كما فعل الجغرافيون العرب كالإدريسي، حيث كانوا يحرصون في وصفهم للعالم المألوف على دمج عناصر من مختلف المعارف والتلاقحات والتأثيرات. جغرافية تستجيب للتدفقات، للروابط الشبكية، وتنقل البشر والأفكار.


في عام 1979 نحت الفيلسوف إدوارد غليسون مصطلح "العالم/الكتلة" لوضع إطار مفاهيمي لتداخل الثقافات والمخيالات. المناطق المتصلة شبكيا فيما بينها تخلق تداعيات جديدة تتجاوز إطار الجغرافيات المحددة أو استقرار نظام معين. هذه التداخلات ما زالت مستمرة منذ ذلك الحين. أشيل مامبي يذكرنا أنه لا وجود لمعرفة قائمة بدون تأثيرات جميع الأطراف: لا يوجد جزء من العالم يخلو من بُعد إفريقي كما يستحيل وجود تاريخ إفريقي إلا كجزء لا يتجزأ من تاريخ العالم.

في عام 2007 دعا أشيل مامبي إلى كتابة تاريخ "إفريقيا/العالم"، للتكلم بلسان إفريقيا، إفريقيا كوحدة لأسباب تاريخية وثقافية واقتصادية وسياسية. لم يعد هناك خارج/داخل، لم يعد هناك من مركز لكن عدة مراكز. إنها دعوة صريحة إلى التفكير في نماذج سياسية بديلة دون أن يكون هناك أي نوع من التقديس للحدود، لأن الهوية، حسب رأيه، مجرد خيال.


تجميع التاريخ

من خلال الشهادة الحية، أرشيف العائلة والكلمات التي تم تجميعها، يقوم المصورون بعملية إعادة بناء للماضي وتاريخ بلدهم. غالبا ما تكون هذه المحفوظات اليومية الوثيقة الوحيدة للماضي المتاح، مما يثير مسألة الحفاظ على التاريخ في بعض البلدان الإفريقية. بالنسبة للفنان الفوتوغرافي؛ فهي تشكل مصدرا للمعلومات لكتابة قصة رمزية حيث يتم تغيير وقلب مسار الزمن وإعادة تمثيله. كيف يشارك اليومي، العادي، والفرداني في إعادة صياغة السرد التاريخي؟ يقوم المصورون الفوتوغرافيون بتغيير وتصحيح مواقع مفردات الحياة اليومية والمعاشة كشكل جديد من المعرفة يضع فكرة العالمية على المحك.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.