}

فيلم وثائقي حول خفايا معركة تل الزعتر:"ليس السَّمع كالعيان"

محمد جميل خضر محمد جميل خضر 22 فبراير 2018
سينما فيلم وثائقي حول خفايا معركة تل الزعتر:"ليس السَّمع كالعيان"
المخرج مهند صلاحات أثناء تصوير الفيلم

"ليس السَّمع كالعيان". لعلّ هذه المقولة العربية المأثورة، تشكّل الدافعية الأولى عند منفذي التحقيق الخاص حول مخيم تل الزعتر الذي أنتجته قناة الجزيرة وعرضته خلال اليومين الماضيين على شكل فيلم وثائقي أخرجه الزميل مهند صلاحات من إعداده وبالتعاون إعداداً مع عائد نبعة.

فرغم معرفة كثير من الناس، وربما المتابعين والمتخصصين بالصراعات السياسية أكثر من غيرهم، للحقائق الصادمة المتعلقة بتفاصيل تدمير المخيم تمهيداً لاجتياحه وإفراغه من الفلسطينيين الذين لجؤوا إليه عند تخوم بيروت الشرقية، بعد نكبة فلسطين في العام 1948، إلا أن إعادة تمثيل الجريمة بالوثائق وشهادات الشهود، كما لو أنه يستعيد المأساة بأبشع تفاصيلها وحيثياتها والتداخلات السياسية التحالفية المعقدة والمركبة التي ترافقت معها.

ليس هذا فقط، بل إن إجراء تحقيق بهذه المهنية والموضوعية والجهد والاستقصاء، يضعنا أمام استحقاقات التاريخ والذاكرة موثَّقةً ومنزوعةَ دسم اللحظة نفسها، عندما كان كلُّ طرفٍ يسعى لإدارة قرص الاتهام نحو غيره، وينشغل بإبراء ذمته أكثر من انشغاله بسلامة المدنيين، والمصالح الجمعية الكبرى للأوطان والقضايا والمرويات.

التداخل الغريب العجيب لسياق الأحداث يقلب (طاقية الرأس): قرار الجامعة العربية إرسال قوات (ردعٍ عربية)، اقتصار هذه القوة فجأة و(بقدرة قادر) على جيش النظام السوري فقط، توافقات ما تحت الطاولة بين السوريين وقوى بعينها داخل المشهد اللبناني (المسيحية أساساً) على إنهاء وجود هذا المخيم القابع في حلق بيروت الشرقية. الاتفاق السريّ بين حافظ الأسد وإسحق رابين، وهو الاتفاق الذي أطلق يد الأسد في لبنان، ولكن بشروط (إسرائيل) وضمن محدداتها: عدم الاقتراب، عدم الطيران وعدم التحليق بعيداً بأماني البعث العربي المنتظر منذ حلم ميشيل عفلق وتنظير أنطون سعادة. تأمين إسرائيل أسلحة للمتقاتلين من تلك التي غنمتها من جيوش عربية في حرب تشرين/ أكتوبر 1973، وعلى طريقة (من دهنه وقلّيله). فلسطينيون (بلال حسن نموذجاً، قائد الصاعقة في المخيم وعضو حزب البعث) يوهمون أنفسهم بأنهم يدافعون عن المخيم، في الوقت الذي يتبيّن (لهم قبل غيرهم) أنهم ينفذون مخطط حافظ الأسد داخل حاراته وأزّقته وفي خاصرة المدافعين عنه حتى الموت. الدور المشبوه والمتآمر للجبهة الشعبية/ القيادة العامة الموالية بقيادة أحمد جبريل للنظام السوري، دورٌ أولج في قتل المخيم. طابور خامس داخل عروق المخيم: (تمثل بما لعبه جماعة أبو خالد العملة من دور تآمريّ ورفضه خطة فك الحصار عن المخيم التي عرضها وقتها غازي عبد القادر الحسيني أحد قادة فتح)، وهؤلاء أنفسهم (أبو خالد وأبو موسى وآخرون) واصلوا ولاءهم للنظام السوري، وصولاً إلى إعلانهم في العام 1983 انشقاقهم عن فتح وتشكيل ما أطلقوا عليه تحت عينيّ الأسد ورعايته وفي كنفه: فتح الانتفاضة.

غياب رؤى، ضياع استراتيجيات، خضوع بعض أهل المخيم لمركزية الحزب والشعار والمصالح الشخصية، نظام يقتل بعض جنوده داخل المخيم لتشتيت البصر والبصيرة وتعزيز (طاسة وضايعة)، السياسة بأقذر تخريجاتها وجرائمها وبشاعتها كانت حاضرة حول تل الزعتر قبل وأثناء وبعد.

في سبيل تحقيقٍ مغاير، طارت كاميرا المخرج مهند صلاحات من عاصمة إلى أخرى: بيروت وعمّان وعواصم أخرى، ومن مدينة إلى أخرى: أوسلو وهامبورغ ورام الله ومدن أخرى. كما استعان صانعو الفيلم بأرشيف كبير ومتشعب ومسكون بالأسى. ولعل شهادات الطبيبين (يوسف عراقي وعبد العزيز اللبدي) الناجيين الوحيديْن من مجزرة الأطباء والممرضين (أعدم ميدانياً بعد السماح بخروج المدنيين حوالي 15 ممرضاً وعاملاً في مستشفى المخيم)، هؤلاء أعدموا بعدما تلقوا تطمينات أن خروجهم مُؤَمَّنٌ من قبل الصليب الأحمر الدولي، لعلّ شهاداتهما من أكثر مفاصل الفيلم رمزية وتأثيراً واستجلاء حقائق: (يقول الطبيب يوسف إن آلاف القذائف والصواريخ ألقيت على المخيم من الجهات الأربع المحاصرة له).

يبدأ الفيلم بمشهد بانورامي لأطلال المخيم، مترافقاً مع خبر السقوط: "سقط مخيم تل الزعتر للاجئين الفلسطينيين في بيروت في الثاني عشر من آب/ أغسطس لعام 1976"، كما لو أن السقوط أصبح قدرنا الرابض فوق أحلامنا.

ملفٌّ بقي مطوياً لعقود، وإذا بفتحه يكشف عن إصرارٍ سياسيٍّ وربما عقائديّ عند من أسهموا بإسقاط المخيم، فهم لليوم غير نادمين على فعلتهم كما قال ذلك بالحرف الواحد سجعان قزّي الوزير السابق عن حزب الكتائب وأحد شهود الفيلم: "نحن آسفون لما حصل ولكننا لسنا نادمين لمقاومتنا في سبيل بقاء لبنان وبقائنا في هذا الشرق".

وإذا برجال أصبحوا عجّزاً الآن، ما يزالون يتحدثون اللهجة نفسها التي شكّلت ملامح بيروت ولبنان جميعها حول النمور والفهود والقوات والكتائب وحراس الأرز أو خائني شجرة الأوطان المباركة.

في سياق مقابلات الفيلم، يقول إيلي أبو عبود أحد قادة (النمور الأحرار) الذراع العسكري لحزب الوطنيين الأحرار إن الفلسطينيين هم من بدأ الاعتداء بخروجهم عام 1969 خارج حدود المخيم ووصولهم إلى ساحة الدكوانة وإقامتهم الحواجز هناك: (السلاح يللي كان معهم بخوّف)، فإذا بالحقيقة تتوه من جديد، وإذا بـ(القربة) المشروخة (المخزوقة) نفسها.

رئيسٌ يعلن صراحة لمكوّن أساسيّ من مكونات بلده أن الدولة والجيش لم يعودا قادريْن على حمايتهم وأن عليهم حماية أنفسهم بأنفسهم (هذا ما قاله سليمان فرنجية حرفياً لمسيحيي وطنه في العام 1973).

تبدأ المليشيات بالتشكّل، وتبدأ الدول الإقليمية والبعيدة إدارة صراعاتها داخل الساحة اللبنانية.

لا ينتهي كل شيء هنا، إذ لا بد للتراجيديا الدراماتيكية الملحمية أن تصل إلى ذروتها الساطعة، بعض من وصفهم أحد قادة الحرب على المخيم بالزعران يستقبلون الهاربين من الموت في المخيم بموت عند عتبات (الدكوانة)، إعدامات وهتك أعراض على مرأى العالم، كما لو أنهم يقولون للمساكين: هنا فردتم عضلاتكم وهنا نقتلكم بالنيابة عمّن سمحتْ لهم توافقات القوى المؤثرة ذلك الوقت بالخروج الآمن من المخيم. نعم خرج قادة التنظيمات والفصائل جميعها من المخيم آمنين محاطين بحسابات وأذونات، فما يزال في جعبة الصراع الدامي مواعيد قتل جديد، وهؤلاء الذين تُرِكوا يخرجون أقدر الناس على إدارة آلة الموت في كل زمان وأي مكان.

وسط هذا الكم المروّع من الحقائق حول ما جرى في مخيم تل الزعتر وحول خفايا معركةٍ قذرةٍ بامتياز، غابت تماماً قصيدة محمود درويش:

"ليديْنِ من حجرٍ وزعتر

هذا النشيد لأحمد المنسيّ بين فراشتيْن

مضت الغيوم وشرّدتني

ورمت معاطفها الجبال وخبّأتني

نازلاً من نحلة الجرح القديم إلى تفاصيل البلاد

وكانت السنة انفصال البحر عن مدن الرماد

وكنت وحدي

ثم وحدي...

آه يا وحدي وأحمد

كان اغتراب البحر بين رصاصتيْن

مخيّماً ينمو، وينجب زعتراً ومقاتلين

وساعداً يشتدّ في النيسان"..

هذا النبض الذي باح به الشاعر الراحل، قيل مما قيل إنه تخليدٌ لفدائيٍّ بسيطٍ مثل شعبه، قرّر وحده الصمود بعد خروج المدنيين، فردّ وحيداً فريداً عدداً من محاولات اقتحام المخيم قبل أن يثقل الرصاص جسده ويصمت شاهداً وشهيداً:

"أخي أحمد

وأنت العبد والمعبود والمعبد

متى تشهد

متى تشهد

متى تشهد؟".

 

*كاتب وإعلامي أردني

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.