}

"ثورة الياسمين" التونسية: شهادات سينمائيّة واشتغالات جماليّة

نديم جرجوره نديم جرجوره 21 فبراير 2018
سينما "ثورة الياسمين" التونسية: شهادات سينمائيّة واشتغالات جماليّة
من فيلم "غدوة حيّ"

لحظةٌ تاريخية واحدة، و4 أفلام حديثة الإنتاج. اختزالُ حالةٍ سينمائية تونسية جديدة بلحظة تاريخية، يتحوّل إلى ركيزة أساسية للأفلام الـ4. اختبارٌ بصري يعكس جوانب من تفاصيل العيش في بلدٍ مؤسِّسٍ لحراكٍ شعبي مدني في بلادٍ عربيّة أخرى، ويُقدِّم نماذج عن العلاقة الوطيدة بين جماليات صورة ووقائع حيّة في وجدانِ أفرادٍ.

اللحظة حسّاسة، لقدرتها على إسقاط طاغية، من دون تمكّنها من إسقاطِ طغيانٍ. الأفلام الـ4 تلتقي في مشتركٍ متنوّع، بعض ركائزه مبنيٌّ على كشف هذه الحساسية تحديدًا: الطغيان ثقافة متجذّرة في أفرادٍ ملتزمين مؤسّسات الطاغية؛ والطاغية حاضرٌ في أفرادٍ كهؤلاء، يرفضون التغيير، لانعدام وجودهم في حال الموافقة عليه. سطوة رجل الأمن غير متبدِّلة، وتسلّط قوى نافذة مستمرٌّ في إشباع غريزة البقاء لدى طغاة أصغر حجمًا، وأفعل تنكيلًا، وإنْ تتنوّع أشكال التنكيل. أما أسباب الهجرات غير الشرعية فجزءٌ من جرحٍ نازفٍ، إنْ تحدث الهجرات قبل "ثورة الياسمين" أو بعدها، فهي تصرّف فرديّ إزاء سلوك سلطويّ غير مبالٍ بأحوال أناسٍ وحاجاتهم، وغير مكترثٍ بكينونتهم كبشرٍ.

 

حساسية لحظة تاريخية

هذا كلّه تعرفه تونس قبل 14 يناير/ كانون الثاني 2011، وبعده. فاللحظة الحسّاسة انعكاسٌ لمطلب جماعيّ عفويّ بتغيير نظام فاسد، لكن التغيير شكليٌّ، والطاغية يتنحّى ويهرب إلى خارج البلد، محمّلاً بأطنانٍ من الأموال، ومخلِّفًا مسلكًا قامعًا في إدارة الأمور، بناءً على مزيدٍ من التسلّط والفساد والعنف، في مؤسّسات الدولة، وفي بعض الاجتماع أيضًا.

الصورة قاتمةٌ. الواقع متردٍّ. ما قبل "ثورة الياسمين" أقوى وأعنف من أن يُبدِّله حراكٌ شعبيّ مدنيّ عفوي، رغم ثوابت متطوّرة لن يكون سهلاً تغييبها أو إلغاؤها. مصائب الاجتماع تزداد قسوة، والتهميش اللاحق بالريف يزداد حدّة، والتمزّق النفسي والروحي والجسدي يزداد ألمًا. هذه لن تكون تفاصيل عابرة أو جانبية. الأفلام التونسية الـ4 حديثة الإنتاج تمتلك جمالية التعبير عن مصائب كهذه. تمتلك إمكانية قولٍ يمزج حيوية نصٍّ بتعميقٍ فكريّ وبصريّ (متفاوت المستويات) في مقاربة مواضيع مأخوذة من يوميات تونسيين. تمتلك براعة المواجهة والتحدّي، من دون أن يجرفها خطابٌ نضاليٌّ (في 3 منها)، إذْ تميل النصوص السينمائية إلى شفافيةِ الإنسانيِّ في الحكايات كلّها.

والأفلام الـ4 ـ "غدوة حيّ" للطفي عاشور، و"تونس الليل" لإلياس بكّار، و"بنزين" لسارة عبيدي، و"على كفّ عفريت" لكوثر بن هنيّة (الأول مُنتجٌ عام 2016، والـ3 الأخرى مُنتجة عام 2017) ـ تقترب من الفرديّ كي تروي شيئًا من خراب الجماعة، وتختار الأصعب كي تبوح ببعض المخبّأ في الخيبة المتجاورة، أحيانًا قليلة، مع رغبةٍ أكيدة في الانتفاع العام من ضرورة التغيير والإصلاح، المطلوبَين لكن المُعطَّلين، بل المؤجَّلين، في أفضل الأحوال. لكن الأفلام الـ4 تلك لن تُطلِق كلّها نشيدًا كهذا، ولن تحرِّض كلّها على ثورةٍ أخرى، ولن تخضع كلّها لابتزاز اللحظة الملتبسة بين هروب طاغية وتشديد طغيان، وإنْ يميل أحدها (تونس الليل) إلى خطابية عامّة في حواراتِ شخصياتٍ وأقوالها، بلغة مباشرة.

لقطة من فيلم بنزين 



ذلك أنّ اكتفاء الأفلام الـ4 بسرد مرويات من وقائع وحقائق، يترافق وميل معظمها إلى لغة سينمائية في توثيق حكايات فردية، وفي كشف مكامن الخلل، وفي قولٍ صريحٍ يُناهض استمرار الخراب. والقول الصريح مُبطّن في ثنايا نصّ وفضاءاته المختلفة، في 3 أفلام، بينما يقع الرابع (تونس الليل) في تلك السردية المباشرة، التي تُسقط عن النصّ جمالية موضوعه وأحوال شخصياته.

 

مشتركات

المشترك بين الأفلام الـ4 متنوّع، يبدأ بجعل اللحظة الحسّاسة تلك (14 يناير/ كانون الثاني 2011) نواة درامية لها فعلٌ أو تأثيرٌ أو حضورٌ في بنية نصّ، أو في انفعال شخصية، أو في مسار حدثٍ، أو في تعبيرٍ عن انفعالٍ. مشتركٌ ثانٍ يكمن في أن الأفلام الـ4 تلك هي "أول روائي طويل لمخرجيها"، إذْ يتفرّد "على كفّ عفريت" لكوثر بن هنيّة، عن فيلميها الطويلين السابقين ـ "شلّاط تونس" (2014) و"زينب تكره الثلج" (2016) ـ بارتكازٍ كلّي على قواعد الروائي الطويل، على نقيض التداخل السينمائيّ ـ الجماليّ والبديع ـ بين الوثائقيّ والمتخيّل في الفيلمين السابقين هذين. كما أن الأفلام الـ4 تجعل شخصياتها الأساسية تُعاند أقدارها ومصائرها، وإنْ تبقى أعجز عن تحقيقِ أي تبديلٍ لواقعٍ ترفضه، لكنها تعيش فيه؛ وتواجه رموز سلطة تزداد وحشيتها بعيدًا عن أي نظامٍ حاكم، أو ربما بالتواطؤ معه.

العجز عن أي تبديل مطلوب لن يكون عائقًا أمام المواجهة، وبعض أساليب المواجهة أحدّ وأعمق وأصدق وأجرأ. يوسف (رؤوف بن عمّار) لن يستسلم بسهولة لضغوطٍ أخيرة تُمارَس عليه قبيل تقاعده من عمله كمُقدِّم برنامج إذاعي له شعبية كبيرة، فيُكمِل رسالته ـ في الحلقة الأخيرة قبل التقاعد ـ لأناسٍ يتصدّون للطاغية، وإنْ يُفرَض على مهندس الصوت إغلاق المذياع عليه (تونس الليل). وزينب (أنيسة داود) تُقرِّع ضابط الأمن شبه المشلول، وتُعرّي أفعاله أمام ابنه ـ حبيبها، بحزمٍ وقسوة يكادان يُشبهان حزم ضابط الأمن نفسه وقسوته في فعلته ضد حسين (أشرف بن يوسف)، في اليوم الأخير ذاك، وإنْ تُدرِك (زينب) أن الفعل الأمني (اعتداء جسدي على ابن الأعوام الـ14 في تلك الليلة) يؤدّي إلى موت "الضحية"، وابتسامةِ رجل الأمن، وضياع البوصلة (غدوة حيّ).

من جهتها، تظهر مريم (مريم الفرجاني) عنيدةً في مطلبها، رغم مخاوف وارتباكات وتوهانٍ يُصيبها في بدايات الفعل الجُرميّ بحقّها، وتواجه نظامًا أمنيًّا متكاملًا، وغير راغبٍ ـ البتّة ـ في التنازل عن سلطته (على كفّ عفريت). أما سالم (علي يحياوي) وحليمة (سندس بلحسن)، فتُغادرهما الكاميرا ـ في لقطة أخيرة ـ وهما في سيارتهما المتّجهة بهما إلى العاصمة، أملاً في معرفة مصير ابنهما أحمد، المختفي في هجرةٍ غير شرعية إلى إيطاليا، يُقدِم عليها في 14 يناير/ كانون الثاني 2011. وهذا، بعد اجتهادٍ ـ منبثقٍ من حالتهما الاجتماعية (بيع البنزين في طريق عام، في ريفٍ بعيدٍ عن تونس العاصمة نحو 400 كلم) ـ في بحثٍ بطيء عنه لقسوة الحواجز والتحدّيات، يكشف (البحث) ـ في آن واحد ـ عمق الفساد في مسألة "الحرّاقة" (الهجرة غير الشرعية)، وفي مسائل العيش والحياة والعلاقات أيضًا (بنزين).

تتعرّض مريم لاغتصابٍ يقوم به رجال أمن، فتبدأ رحلة بحثٍ عن تحقيق عدالة ما لها، وهي رحلة تكشف دجل الأمن والاجتماع والطبابة، وتفضح انهيار نظام متكامل (على كفّ عفريت). ويتعرّض يوسف لضغوطٍ من عملٍ وحياة رتيبة في منزلٍ مُفكَّك (ابنة مغنية تدمن الكحول والمخدّرات، وابن منصرفٌ إلى صلواتٍ وطقوس دينية متشدّدة اجتماعيًا، وأمٌّ مُصابة بخوفٍ وقلق من الإصابة بمرض سرطانيّ)، ويحاول استعادة شيءٍ من نفسه، عبر بحثٍ ليليّ عن ذاته وأسئلته المعلّقة (تونس الليل). وتتعرّض زينب وعليسه لشقاءِ اللاحق على تلك الليلة، فتنهزمان أمام بطش الموت المتنوّع الذي يفترس أحلامًا ورغباتٍ وأشواقًا لخلاصٍ مطلوب وغائب (غدوة حي). ويتعرّض الزوجان سالم وحليمة (بنزين) لخرابٍ عميقٍ في البناء الاجتماعي، يدفع شبابًا إلى الاختفاء شمالاً، و"يدفن" الباقين في البلد، جاعلاً إياهم يُقيمون في نزيفٍ صامت وقاسٍ وأليم (منذ 14 يناير/ كانون الثاني 2011، ارتفعت نسبة الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا؛ عام 2015، سُجِّل اختفاء أكثر من 1500 تونسي في البحر الأبيض المتوسّط؛ آلاف الأسر تعيش حالة ترقّب ويأس. هذا مكتوبٌ قبل جينيريك النهاية في "بنزين").

 

أحوال معطّلة

هذه أحوالٌ فردية، مصوغة سينمائيًا بما يجعل الأفلام مرايا بيئات وأناس وأحوال، من دون أن يعني هذا تساويًا في الجماليات المشغولة، خصوصًا بالنسبة إلى "تونس الليل"، الذي يبقى أقلّ أهمية بصرية من الأفلام الـ3 الأخرى. ورغم أن إلياس بكّار يغوص في تداعيات "ثورة الياسمين" (18 ديسمبر/ كانون الأول 2010 ـ 14 يناير/ كانون الثاني 2011)، بُعيد انتهائها، في وثائقيّ مهمّ وجميل، بعنوان Rouge Parole؛ إلّا أن "تونس الليل" يغرق في نصّ خطابيّ ومُسطّح وعاديّ، ويميل إلى سرديّات وطنية حماسية، وينشغل بالمباشر، مع أن شخصياته تستحقّ نصّاً أعمق في تفكيك أهوائها وهواجسها وانشغالاتها وخيباتها وتداعيات أحوالٍ، لا تزال تبدّلاتها (الأحوال) ناقصة ومعلّقة.

وإذْ يُحصَر زمن الحدث في "على كفّ عفريت" بليلةٍ واحدة فقط، يتفكّك خلالها المشهد التونسي المتنوّع في الاجتماع والثقافة والسلوك والعلاقات بين الناس والأحكام المسبقة والاتّهامات "الأخلاقية" الصامتة، فإن "تونس الليل" يبقى أمينًا ـ في فصولٍ عديدة منه ـ إلى ليلِ المدينة، أي إلى ليلٍ تُحدثه انكسارات الناس، ويصنعه تعطيل كبير لأحلامٍ ورغباتٍ. بينما يتوزّع "غدوة حي" و"بنزين" على أيامٍ مديدة من القهر والتمزّق، ومن الإصابات العديدة في الروح والجسد والمجتمع.

"على كفّ عفريت" لكوثر بن هنيّة



أما الاعتداء الجسدي على حسين (غدوة حي)، فيُشبه اغتصاب مريم (على كفّ عفريت)، وهما من أفعال سلطةٍ أمنية يتصرّف كثيرون من أفرادها بقوّة البطش والتسلّط. والسلطة، إنْ تكن أمنيّة أو سياسية أو اقتصادية، غير متبدّلة قبل الثورة وبعدها، بدليل أن مأزق العيش الطبيعي في البلد، الذي يدفع شبابًا كثيرين إلى هجرة غير شرعية، مستمرٌّ في تمزيق كيانات إنسانية وبشرية (بنزين). وهذا شبيهٌ بما يحصل مع يوسف (تونس الليل)، الذي يدفعه إلياس بكّار، في مشهدٍ ختاميّ، إلى مصالحةٍ (غير مُقنعة سينمائيًا) مع أفراد عائلته، كدعوةٍ إلى تكاتفٍ مطلوبٍ، لتحقيق المُراد من الفعل الشعبي المدني العفوي. دعوةٌ يُصرّ لطفي عاشور على التنبيه إليها في كلامٍ له على "غدوة حيّ"، إذْ يُردِّد بأولوية "تضامن" و"إرادة جماعية" كـ"خيار وحيد قابل لتحقيق المُراد"، ويُشير ـ في الوقت نفسه ـ إلى أن "الانقسامات السياسية والاجتماعية عاملٌ أساسيّ في عدم تحقيق الحلم".

4 أفلام تونسية حديثة الإنتاج، ينشغل مخرجوها بأهوالٍ تُمعن تفكيكًا في اجتماعٍ منذورٍ لخيبة وألمٍ وانهيارٍ. ورغم أن شخصياتٍ عديدة فيها تحاول خروجًا ما من خرابٍ كهذا، إلّا أنّ قسوة التشاؤم والآمال المعلّقة والرغبات الموؤودة طاغيةٌ في يوميات أفرادٍ مُثقلين بوجع السنين، وانعدامِ مُقبلٍ مُشرقٍ من الأيام.

 

ناقد سينمائي من أسرة "العربي الجديد"

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.